Friday, November 2, 2007

ساحر الموسيقى



ساحر الموسيقى
قصة قصيرة

أغلقت
الباب. تعمدت ذلك. سمعت الطرقات الخافتة. لكني توجهت للجهة الأخرى من الشقة. مررت على الصالة الطويلةالمضاءة بنوافذ مطلة على المنور، والمفروشة بسجادة حمراء طويلة، حوافها مزركشة بزخارف ذهبية كابية، إلى حيث ملاذي الأخير؛ في غرفتي. مملكتي الصغيرة التي أشعر بأنها أصبحت، بمحدوديتها وصغر مساحتها ورتابة أيامي فيها، خانقة. لكنها، تظل عالمي الخاص، بوحدتي فيها أصبح ملكة المكان، بلا منازع، حيث الهدوء والصمت وأسئلة الروح التي لا تنقطع، وفناجين القهوة وروائح الدخان.
أغلقت الباب. ألقيت بنفسي على الفراش. وضعت رأسي على الوسادة. تأملت السقف. حلقت بعيدا، باتجاه السماء. وكلما ارتفع صوت طرقاته المتوترة على باب الشقة كلما ارتفع تحليقي إلى السماء. وكلما زاد عناده كلما زاد إصراري على النأي. حتى وجدت عيني غارقتين بالدموع. أغلقتهما ونمت على جنبي، وأنا أشعر بالتعب. تسللت دموعي إلى وجنتي، ولم أبال بها. لم يكن جسدي هو المتعب، وإنما روحي ؛ مثقلة إلى حد الإعياء.
كان صوت الطرقات على الباب كأنه نقر على زجاج روحي يكاد يخدشها أو يشرخها بشقوق غير محتملة. لكنه أخيرا أصيب باليأس على ما يبدو، إذ تهيأ لي أنني لم أعد أسمع شيئا. لم يعد هناك صوت لأي طرقات أخرى. وعندما تراكم الصمت، وتأكدت من انصرافه أخيرا، عدت إلى الأرض بروحي وغفوت.
قبل أن أغفو مباشرة شعرت بالغضب لأنه تجرأ وأتى خلفي ليطرق الباب. فهو يعرف أن انتداب أمي للعمل في الأسكندرية أتاح لي أن أعيش بمفردي في الشقة ثلاثة أسابيع كاملة كل شهر. فزعت من التغيرات التي أصابته جميعا، فهو الذي كان مثل نسمة هواء باردة، يبدو لي الآن وكأنه تحول إلى ما يشبه رياح الخماسين. سمعت الدقات على الباب مرة أخرى. لكني وجدت نفسي وقد تحررت من ثقل جسدي وروحي فجأة، قفزت من الفراش بخفة لم أعهدها منذ فترة. عندما فتحت له باب الشقة الذي تتوسطه ضلفة من الزجاج المغبش اكتشفت أنني لا أرتدي سوى طاقم ملابسي الداخلي الأبيض. لكني لم أتردد. فتحت الباب بحذر. ووجدته يقف مبتسما. يمسك بين يديه بوكيه ورد أحمر قاتما. ويرتدي قميصا أسود على بنطال بنفس اللون. ظهر شعر صدره من فتحة القميص. هالني أنه حليق الوجه، تخلص من لحيته، لكنه أبقى زغبا طفيفا منحني إحساسا بالإثارة. دعوته للدخول فاقترب بحذر. فتحت الباب على اتساعه، وفور دخوله أغلقت الباب. واتجهت نحوه. إقتربت منه فاقترب. مد لي يده الممسكة ببوكيه الورد فالتقطته منه، وأثارني اللون الأحمر وأنا أستنشق الشذى الجميل. أمسكت بالبوكيه بإحدى يدي واندفعت إليه وتشممت عبقه. إحتضنني، ومسح بيده على ظهري وأردافي. بينما أمرغ وجهي في قميصه والجزء العاري من صدره كيفما اتفق.
أحسست أنني أريده أن يأخذني. أن يمرغ وجههه في أنحاء جسدي. أن يلعقني. وأن يتركني أفعل به ما أشاء. طلبت منه أن يدخل الغرفة وفعل. جلسنا متجاورين على حافة الفراش المغطى بملائتي القرمزية المفضلة، المكرمشة من أثر نومي القلق في الليالي الأخيرة. نظر لي مبتسما. إعتذر لي عما حدث بيننا، وأكد لي أنه لن يجبرني على فعل شيء لا أحبه. ابتسمت وأنا اشعر بحالة من النشوة والصفاء الخالصين. قال لي أنظري: هذه هي الذقن التي طلبت أن أشذبها. فعلت ذلك لأجلك.
قال ذلك وهو يضع يده على ظهري ويحاول فك مشد الصدر. تحرر ثدياي. بدأ يدلكهما بحنو، وعندما تصلبت حلمتاي وضع شفتيه عليهما، واحدة بعد الأخرى، وهو يداعبهما ويعضهما عضا خفيفا. داهمني إحساس قوي باللذة . أمسكت بالجزء الخلفي من رأسه، وجذبته إلى صدري أكثر بينما تتخلل أصابعي شعر رأسه الخشن. عيناي مغمضتان من النشوة. وأعصابي مشدودة، وخلايا جسدي كلها متيقظة، مرهفة لكل لمسة من يده. لكني لا أعرف لماذا تغير عبق جسده فجأة إلى تلك الرائحة العطرية عندما تعرى ووقف أمامي بجسده القوي قبل أن يعتليني مباشرة. إختفت رائحته التي تثيرني، بمزيجها الذي يجمع لمسة طفيفة من العرق برائحة الشعر الدهنية. أصبحت رائحته فجأة ممزوجة بذلك العطر الذي يصفه بأنه "مِسْك". كانت رائحة دبقة، تكاد تشعرني بالاختناق. ولكني مثل امرأة تبلغ ذروة شهوتها في لحظة افتضاح أمرها، اندفعت إليه بكل جسدي ومشاعري، لا أريده أن يتوقف حتى لو أدى الأمر إلى اختناقي.
عندما استيقظت لم أكن أعرف إذا ما كانت غلمتي حقيقية أم أنها كانت قوية لدرجة أنها لاحقتني من المنام إلى اليقظة المباغتة التي روعتني وأعادتني إلى الواقع دون أدنى رغبة مني. لكن أليس الواقع نفسه قد تحول إلى كابوس؟ ألم تتحول علاقتي به إلى مأساة حقيقية منذ تحولت شخصيته بالشكل الغريب الذي سارت عليه الأمور في الشهور الثلاثة الخيرة. الموسيقى الجميلة التي كانت المنطقة المشتركة التي جمعت بيننا تحولت إلى خطب وكلمات

صاخبة لا تسبب لي سوى الرعب.

أتذكر الآن عيني سلوى وأنا أحكي لها ما طرأ عليه من تغيرات. تماما كما كان رد فعلها عندما حكيت لها عن

قصتي معه لأول مرة. اتسعت الحدقتين كثيرا، وتجلت الشعيرات اللونية الدقيقة التي تميز بؤبؤي عينيها الخضراوين. لكني أيضا لا يمكنني أن أنسى مدى شغفها بالقصة التي وصفتها بأنها من أكثر القصص الرومانسية التي سمعتها. في كل صباح أنطلق إلى المطعم الأمريكي الطابع الذي أقوم فيه بعملي كنادلة، بعد أن أنتهي من طقوسي كلها. أغلق الباب وشذى عطري الياسميني المفضل يفوح حولي ويزيد من انتعاشي. أهبط على الدرج بخفة، أمر من الممر الضيق الذي تتجاور به محلات الساعات والقداحات والسجائر، وتنتهي بمحلي المفضل. الذي يقف في واجهته الشاب الوسيم صاحب الشعر الأسود الناعم المصفف بعناية. بينما الموسيقى الصاخبة تعلو من خلفه. عادة ما كنت أبدأ يومي بموسيقاه. في أغلب الأحيان كانت موسيقى غربية صاخبة.
أبتسم له بخفر، فيرد لي الابتسامة بأفضل منها. ويعلو صوته: "صباح الفل يا قمر". فأنتشي، وتلتقط روحي الموسيقى بشغف، تعتصرها مثلما تفعل فراشة برحيق زهرة ، وتظل الألحان تتردد على أذني طول اليوم بلا توقف. ربما أبدأ اليوم بأغنية للبيتلز، أو بمقطوعة لبيتهوفن، أو باخ. وأحيانا يأتيني صوت منير بأغنية من أغنيات اسطوانته الأخيرة. ومرات كانت الأغنيات الشعبية الشجية بصوت عدوية هي مفتتح يومي، وخاتمته. عند عودتي في المساء، أبطيء من خطواتي قليلا، قبل أن اتوقف أمام المحل. يلقي علي التحية فأقول: مساء المزيكا! يبتسم، ويمد لي يده بشريط مما يقترحه علي. لا يعلق عليه، وإنما يقول فقط "إسمعيه وبعدين نتكلم".

" عادة ما تكون تلك الشرائط لبعض المطربين الذين يطلق عليهم "

. تعرفت من شرائطه الاستثنائية تلك على موسيقى الجاز، الشعبية التي يعيد عزفها مثلا "كيني جي"، أو الأغنيات الأصلية لنجوم الجاز الكبار "تينا بروك"، "لوي ارمسترونج"، "كونت ماسي"، وغيرهم. تعرفت على "إلفيس بريسلي"، و"فرانك سيناترا". وأغرمت بـ"إلتون جون"، "شيرلي باسي" و"تراسي شابمان" السمراء صاحبة الأغنيات الفلسفية والكلمات العميقة بأدنى قدر ممكن من الموسيقى والإيقاع.

أصبحت أسيرة الموسيقى. مدمنة لكل أصوات الطبيعة والبشر. غناء وإنشادا، آهاتا، وقرع طبل. وحتى موسيقى الهند الصوفية ، وموسيقى آسيا الوسطى والصين التي ابتكرت من أصوات الطبيعة: خرير مياه النهر وحفيف الريح، وصفير العواصف، وقصفات الرعد. ذابت روحي في الموسيقى، وغرقت في عشق فتاي الذي علمني السحر والموسيقى والذي لذلك استبدلت إسمه الأصلي"حسام" بالاسم الذي أطلقته عليه في خيالي "ساحر الموسيقى".
"ساحر الموسيقى" لم يكتف بكل ذلك، وإنما دعاني إلى شقته الصغيرة في وسط البلد. وهناك أراني الأعواد، وعلمني الفروق بين كل منها. أشعل سيجارة محشوة بالحشيش. قدمها لي فاعتذرت، لكني تنشقت رائحتها بعد أن فاضت في أرجاء المكان. ضحك أخيرا، وقال" أنا شكلي اتسلطنت".إبتسمت له. توجه إلى أحد الأعواد الذي انتفخت أخشابه البنية الداكنة، وعاد به ليجلس في مواجهتي. أمسك الريشة وبدأ العزف، وهو يتأمل السقف العالي للشقة العتيقة. طربت روحي لألحان العود: أغنيات لأم كلثوم؛ خاصة "الأطلال"،"فكروني"، ثم "الف ليلة وليلة". عندما لاحظ ابتهاجي ونشوتي عزف وغنى لعبد الوهاب "كيف يشكو من الظما ..من له هذه العيون". شعرت بأنني دائخة. لكني أيضا شعرت بـأنني أحلق فوق سحب من النشوة


. غنيت في أعماقي، غنيت لنفسي، تواشيح أندلسية، رومانسية، همست بها، ثم شرع صوتي يعلو. توقف عزف العود. فعلا صوتي أكثر، وفي اللحظة التي بلغ هيامي ذروته انتفضت على نشيج مكتوم. توقفت مفزوعة. لمحت ساحر الموسيقى، يمسح عن عينيه دمعة، فبكيت بلا إنذار، رغم أنني لم أعرف، وحتى اليوم، سر دموعه، لكنني بكيت لأجله تضامنا وتعاطفا.
لاحقا حكى لي عن حياته الغريبة. سفره المبكر للعمل في قبرص، ومنها إلى إيطاليا: بائع صحف، وجرسون في مطعم، ومنها إلى فرنسا، حيث تنقل بين البارات. من غسيل الأطباق إلى الخدمة في الصالات أو الكاشير. وما يحصل عليه يشرب به النبيذ طول الليل. أنقذه حبه للموسيقى، واستطاع بقليل من التمارين على عزف العود أن يحصل على فرصة للعزف في ملهى ليلي. وهناك أدرك أنه يعيش الحياة التي يتمناها لأول مرة، فالراتب المقترح كان بالكاد يكفي أجرة السكن في الاستوديو الصغير الذي كان يقطنه، لكن الزبائن الذين تيموا بعزفه كانوا ينقدونه الكثير، ويطلبون منه إعادة هذه المقطوعة أو تلك.
لكنه لم يخبرني عن الفتيات اللائي وقع في غرامهن هناك شيئا مفصلا. إكتفى بأسماء، ووصف عام. كذلك بقي سبب عودته من فرنسا غامضا. تزوغ عيناه إذا سألته عن السبب وتتقلص ملامحه، ويشرع فورا في تغيير مجرى الحديث. على أي حال لم يكن ذلك يعنيني. صحيح أنني في اثناء ذكره لإسم أي واحدة منهن يقتلني الفضول، لكن بمجرد تغير دفة الموضوع أنسى الأمر برمته. اعتدت على زيارته في البيت يوم راحتي الأسبوعية، وفي الأيام التي تسافر فيها أمي إلى الأسكندرية. أحيانا أجلس معه حتى الفجر. نغني ونعزف، ونستمع للموسيقى، الغربية والشرقية، بلا توقف. يدخن الحشيش، بينما اعتدت أنا تدخين السجائر العادية، وتناول بعض النبيذ، بينما أعد له العشاء، ونثرثر حتى يحين موعد انصرافي.
عندما حاول أن ينزع عني ثيابي خرجت من الشقة فورا. وحتى لا أضعف قررت أن أنهي التفكير فيه نهائيا. لم أفكر حتى في موقفي، وفي الأسباب الحقيقية التي جعلتني أرفض عبثه بجسدي، أو فكرة التعري أمامه.. كنت أعرف فقط أنني لا بد أن أحافظ على عذريتي. على يقين أنه يفهمني، وأنه مختلف، وأن سفره وحياته في أوروبا لن تجعله يسيء فهمي بقبولي الذهاب إلى شقته


. لكن العذورة لم يكن بإمكانها أن تقاوم إغواء الموسيقى والعشق، والألحان الشهوانية، ودغدغة النشوة التي يحققها النبيذ. لم يكن بإمكانها أن تقاوم ساحر الموسيقى. وجسدي الذي لم يعرف سوى ملمس ملاءاتي الأثيرة أدمن جسد الساحر ومرتبته الوثيرة المغطاة بفرش مخملية مزركشة. وتوزعت حياتي بين غرفتي، وعملي وغرفته. بل إن حياتي لم تعد سوى ساعات من الانتظار المتحرق لزيارة ساحر الموسيقى.
لم أعد الفتاة البلهاء الرومانسية التي تتحاشى تحرشات الزملاء والزبائن. أو تتلقى غزلهم عن بخفر. إنما أصبحت امرأة. أصبحت أشعر بجسدي. أدركت أن جسدي البض ببشرتي البيضاء، وقصر قامتي، وشعري الأسود القصير كلها ملامح خاصة، تشكل هويتي، أصبحت أفهم أن كل في جزئي له جماله الخاص. وأن نهدي لم يخلقا لكي يدفنا في السوتيان، وكذلك أردافي، لا يمكنني أن أفهم جمالهما الحقيقي، إلا إذا مرت عليهما أنفاس حارة لعاشق يفهم في جمال المرأة، ويشبه الجسد بالعود، وممارسة الحب بالعزف، وآهات الحب بالطرب. لكن أحاسيسي تلك لم يكتب لها أن تعيش لأكثر من شهر واحد، هو الذي فقدت فيه عذريتي واكتسبت جمال جسدي، وعرفت مكامن شهوتي ومواطن شبقي، وبعدها نزلت على الدرج بنفس الطريقة التي اعتدتها، لكنني فوجأت بمحل الموسيقى، مغلقا لأول مرة منذ افتتاحه. الباب الصاج الأخضر المضلع يبدو ككاتم صوت، خانق كئيب، يحرمني، لأول مرة من سماع الموسيقى التي ستصحبني طوال اليوم، ومن مرأى عشيقي.
هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟!
لا لم ينته، وإنما استمر أسبوعا كاملا، اختفى خلاله حسام تماما. لا يرد على هاتف المنزل، ولا هاتفه المحمول. لا يفتح باب الشقة المظلمة.
ساحر الموسيقى اختفى، كما كل الأشياء الجميلة التي أحن إليها وأكتشف اندثارها يوميا. مثل أحياء القاهرة الجميلة في الستينات، ومثل شباب الممثلين في الأفلام القديمة بالأبيض والأسود، ولمعة عيني عمر الشريف، وصوت أحمد مظهر، وغنج هند رستم، وجمال عمارة مصر القديمة التي تحل محلها يوميا عمارات جديدة شاهقة بلا روح ولا جمال من أي نوع.
هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟!
لا لم ينته. إنما فتح الباب المغلق اخيرا. لكن لم يكن هناك أثر لساحر الموسيقى، ولا لصوت الموسيقى، أو أي مما اعتدت سماعه. لم يكن هناك سوى ضجيج لأصوات متوترة، لاحظت لاحقا أنها لمجموعة من المنشدين الجدد. أناشيد دينية. توقفت أمام المحل، فلم أجد أثرا لحسام. وقف مكانه فتى ملتح، ينفض الغبار عن شرائط متراصة، أغلفتها تحمل صورا لشيوخ متعممين، وبعضهم، بلا عمامات. بعضها كتب عليها فضائل الصلاة, وأخرى حملت شعار فضائل الحجاب. بينما تراصت أسفل صناديق الاسطوانات والشرائط مجموعة من الملصقات والبوسترات التي صورت بورتريهات للدعاة الجدد، صفوف من شرائط الخطب لكل المناسبات.
سألت عن حسام بصوت مخنوق. وجاءني صوت الفتى، وهو ينظر لي شذرا موضحا أن "الأخ حسام الدين يؤدي شعائر العمرة".


سرت مذهولة. لم أصدق شيئا مما يحدث. استعدت عمرا من الموسيقى والألحان والأصوات العذبة والشجية. استعدت ليال ملاح، وعزف بالعود، ونشوة روحين بالموسيقى وبألحان الجسد. بكيت بلا صوت، ومسحت دموعي مرارا، لكنها لم تتوقف. بللت قميصي ومناديلي الورقية، واشتريت غيرها، فابتلت كلها، وحتى مناديل سائق التاكسي. ركضت هربا من السائق بعدما تركت له السيارة كبحيرة راكدة. ولم تتوقف دموعي.
بكى كل زملائي في العمل دون أن يعرفوا سبب دموعي، وانتقلت العدوى للزبائن جميعا، فبكوا بلا دموع في أول الأمر، ثم انداحت دموعهم جميعا، حتى تحولت أرضية المطعم إلى بحيرة راكدة. ولم تتوقف دموعي. دخلت مع زميلاتي إلى غرفة تغيير الملابس وخلعت التي شيرت ذات اللونين الأحمر والأسود، والجيب السوداء الضيقة القصيرة، دون أن أتوقف عن البكاء. خلعت سوتياني البيج والكيلوت المخملي النبيتي الذي أهداني إياه حسام، وارتديت المايوه ذو اللون الأحمر والأبيض، ولم أتوقف عن البكاء. وعدنا لممارسة العمل بالمايوهات، ولم يلتفت احد إلى جمال أجسادنا، لانشغالهم بالبكاء، وبشجونهم التي أثارتها دموعي ودموع زميلاتي وكل الحضور.
ولأسبوع كامل غرقت المدينة في البحيرة الكبيرة، وأصبحت الزوارق هي وسيلة الانتقال الوحيدة في أرجاء المدينة. وخلال هذا الأسبوع كنت أبدا رحلتي الصباحية بالزورق الطافي أمام مدخل العمارة. أرقب وصول الفتى الملتحي طافيا إلى المحل، ولا أسمع سوى أدعية تفريغ الهم، وزوال الكرب، فلا يزول غمي ولا ينقطع بكائي. عندما عاد حسام أخيرا استطعت أن أمنع عيني عن البكاء. لكني لم أستطع إيقاف تورمهما، ولا الحمرة القاتمة التي أصابت بياضهما. وليتني ما توقفت عن البكاء.
ساحر الموسيقى أصبح صاحب لحية ثقيلة طويلة، يرتدي جلبابا أبيض ويضع سواكا في جيب الجلباب العلوي.
تفوح منه رائحة خانقة عطرية. يسمي نفسه "الأخ حسام الدين"، ويغض بصره عني.

الأخ حسام الدين أزال بكارتي والآن لا يرغب في أن يرى وجهي. يقول أنني سأفتنه! وأنني يجب أن أعود إلى طريق الهداية والصواب. يطلب مني ارتداء الحجاب. ويقول أنه لا يستطيع أن يستر عليّ إذا ظللت على ضلال الجاهلية الأولى، ولم أرتد الحجاب. ارتطمت قدمي بحجر، امتد الألم من القدم إلى القلب، من ذات القدم التي قبلها حسام تقربا وتوددا وعشقا ومحبة وهياجا، إلى ذات القلب الذي ذوبته الموسيقى والألحان والغناء والطرب.
لكنني لاحظت أنني رغم كل ألمي، لا أفيض سوى بالموسيقى. لم تكن روحي إلا مجموعة من الأنغام، والألحان تشدو، فترق روحي وتشف. تغفر لحسام، لكنها لا تسامحه. تشف لتسامح، لكنها لا تفهم. ثم ينطلق من أعماقها إيقاع صاخب تفهم منه روحي كل شيء. أشدو بصوت عال، وأنا أعود إلى المنزل الخالي، إلى مملكتي الصغيرة، أشدو بكل حبي للموسيقى والغناء أجمل ما سمعته، ولا أبالي بأحد. قالوا عني أني مجنونة، والبعض قال شرموطة، وآخرون استمعوا بشجن، ولم أكن أبالي. سمعت وقع أقدامه الخفيفة على الدرج، وسمعت نداءاته الخافتة. لكنني لم ألتفت. أدرت مفتاح الشقة بالباب. أغلقته خلفي، ودخلت إلى غرفتي ورميت بنفسي على عرش

مملكتي .. وحدي وصوت الموسيقى.


الصورة: من أعمال الفنان أنجر
نشرت في مجلة الكلمة في عدد نوفمبر 2007

سؤال عن القصة المصرية

أين هي القصة المصرية ؟ (شهادة
القصة المصرية؟ أين هي القصة المصرية؟ أعتقد أن الكاتب الوحيد الذي ما زال يحقق للقصة المصرية مجدها
ويفتح لها، وبها، آفاقا جديدة بامتياز هو محمد المخزنجي، وهو أخلص كتاب القصة المصرية بعد يوسف إدريس بلا منازع. إذ يفتح لها آفاقا ذات طابع إنساني عالمي مضاد لأفق القصة المصرية المحلي الذي ساد لسنوات، والذي يعتبر سمة مميزة للأدب المصري المنغلق على ذاته تماما مثل الشخصية المصرية . وأظن أن هذا الحكم الإطلاقي هو في حد ذاته دليل قاطع على مدى تأثر القصة القصيرة سلبا في السنوات الأخيرة، بعد شيوع الاهتمام بإنتاج الرواية.
لعل غياب الدوريات المهتمة بنشر الإبداع له تأثير مباشر؛ ففي زمن "إبداع"، و"القاهرة"، و"الكرمل"، و"الآداب"، وغيرها كانت المساحة المخصصة فيها لنشر النصوص القصصية دافعا للعديد من المبدعين أن ينشروا إنتاجهم القصصي. وكانت تلك القصص بمثابة محفزات إبداعية لأجيال تالية كانت تجد في تلك النصوص البديعة ملهما لإنتاج يخصهم . ومع ذلك فليس هذا هو السبب الوحيد، فربما أن القصة المصرية قد وجدت نفسها في مأزق خاص يتعلق بأسئلة جمالية مطروحة لم يجد المبدعون إجابات شافية عليها، وهو ما أدى إلى هذه الحالة من الركود القصصي.
ففي لحظة تحول مؤثرة صدر كتاب: "خيوط على دوائر" لمجموعة من الكتاب الذين قرروا نشر نصوصهم معا في كتاب واحد، أذكر منهم الآن: أحمد فاروق وهيثم الورداني وأحمد غريب ووائل رجب ونادين شمس وعلاء البربري. كانت تلك القصص رسالة مباشرة على أزمة انعدام منابر نشر الإبداع من جهة، ووثيقة على عدد من التحولات التقنية في النص القصصي، مثل اللغة الوصفية المباشرة المحايدة، والاهتمام باليومي العادي، والمشهدية المستعارة من فن السينما وغيرها. لكن مع الأسف لم تكن هناك امتدادات لهذه التجربة.
ثم ظهرت مجموعة من المحاولات الفردية كان لها اهتمامات مختلفة؛ تقنيا وموضوعيا ، من بينها، مثلا، تجربة مي التلمساني في "خيانات ذهنية" التي كانت بمثابة فتح للنص القصصي النسائي المعاصر، ومحاولة غادة الحلواني في كتابة قصة جديدة ترتكز على البعد عن الواقعية، والتعبير الموازي الرمزي للحواس، ثم تجربة منصورة عز الدين في "ضوء مهتز" التي جسدت أيضا تجربة شديدة الخصوصية امتلكت كل سمات القصة الجيدة من جهة التكثيف والتركيز من جهة، وأضفت عليها بعدا غامضا وساخرا جديدا على النص القصصي المعاصر، وقدمت فيه وجها مختلفا للأنثى ومشاعرها، وطريقة تعاطيها مع الحياة. ثم محاولتي الأولى في"باتجاه المآقي" وكانت محملة بشبهة الغنائية والميوعة العاطفية، تلتها تجربة أكثر نضجا هي" أشباح الحواس" وفيها حاولت ترسيخ النزعة الغرائبية في اشتباكها بالواقع اليومي والعادي، وتوسيع مساحة بحث العلاقة العاطفية والحسية في مجتمع يشهد تحولات اجتماعية وعولمية لا تخطئها عين.

لكن القصور النقدي أوقع هذه التجارب في فخ اليأس وانعدام الأفق ما أدى إلى اتجاه، أو انتقال، الكثير من الكتاب إلى النصوص الروائية؛ على أمل لفت انتباه النقاد الصامتين بلا جدوى، باستثناء بعض المخلصين للقصة مثل هيثم الورداني الذي قدم تجربة تعتبر امتدادا لتجربة "خيوط على دوائر" وإن أصبحت أكثر جدية، وحداثة، وتجريبا، وتعبيرا عن البطل المعاصر بشكل عام، ثم التجربة الاستثنائية للكاتب حسام فخر الذي قدم عددا من النصوص اللافتة على مستويي الموضوع والتقنية في "وجوه نيويورك" ، ثم "حكايات أمينة" لفت بها الانتباه بالرغم من التحيز النقدي والقرائي السائد للرواية على حساب النص الإبداعي. وحتى في تجربته "يا عزيز عيني" قدم محاولة تجريبية رغم عدم نجاحها لكنها كشفت عن جانب تجريبي يحتاجه النص السردي المعاصر بشكل عام.
فيما يتعلق بي فإنني أعتبر القصة أكثر الأشكال الإبداعية اقترابا من الشعر، من حيث أنها تأتي مثل دفقة وجدانية وشعورية، مكثفة وعميقة، تتجنب الهندسة وتبدو أقرب للانفعال. ولكني أرى أن القصة القصيرة التي أبدعها يوسف إدريس قد استنفذت أغراضها، برغم عبقريتها، وعمقها في فهم تعقد النفس البشرية، ورصدها للتحولات الاجتماعية، وقدرتها الفذة على اجتراح التابوهات واختراقها.
أعتقد أن القصة القصيرة الآن تحتاج إلى آفاق جديدة، تمتثل لمواصفات النص السردي الحديثة بشكل عام، والذي يتعارض مع النص الواقعي، وينحو للخيال والتجريب والسحرية والغرائبية، أو، حتى، إلى فتح آفاق جديدة للواقعية تنتمي لما يمكن تسميته بالواقعية القذرة التي تصور الواقع البشع في الهامش بالقبح الذي لا يحتمل أي تجميل إبداعي من أي نوع. لكن الأسئلة الآن ربما تتحول للنص الروائي أكثر، لأن الرواية الجديدة ما زالت تحاول الإجابة على اسئلتها الإبداعية والجمالية دون إجابة شافية في ضوء الفقر النقدي المفزع الذي تشهده ساحة الإبداع العربي، خاصة في مصر.
المأساة في ظني ليست مجرد كسل النقاد وعزفهم عن المتابعة النقدية ، وإنما تتجاوز ذلك لقصور أدوات النقاد وانحيازها لتقاليد القص التقليدية، وبالتالي عدم تفاعلها مع النصوص الحداثية والتجريبية، ناهيك عن غياب جيل جديد من النقاد المؤهلين بأسلحة النقد الحديث ومتابعة النصوص العالمية ومعرفة الأساليب الحداثية والتقنيات الجديدة في السرد العربي المعاصر، سوى بعض الاستثناءات التي لا تتناسب مع الزخم الإبداعي بشكل عام.
إلا أن المساحات الإلكترونية، بوسائطها الافتراضية الجديدة، استطاعت، في الواقع، خلق منابر إبداعية سواء في شكل مجلات إلكترونية، أو مدونات أو صفحات شخصية يكتب فيها من يشاء ما يشاء، وينشرها على الوسيط الافتراضي، ويخضع لتعليقات من القراء ولعدد من الآراء النقدية الانطباعية، مما تسبب في حالة من الانتعاش، كشفت أيضا عن قاريء مختلف نسبيا عن القاريء التقليدي. فهو قاريء يبدو عليما بتقنيات الاتصال الحديثة، متأثرا بتجارب التدوين، وباللغات الأجنبية إلى حد ما، لديه نوع من الإحساس الفردي الخالص، الذي يظهر في قوة طرح ما يكتبه، كما أنه يبدو لي متأثرا بالحرية التي تتيحها مثل هذه الوسائط الافتراضية الجديدة التي تشهد اقتحاما لمناطق اعتبرت لسنوات طويلة مناطق مسكوت عنها خاصة ما يتعلق بمشاعر الإناث الحميمة والمثلية الجنسية والعذرية والممارسة الجنسية وغيرها من موضوعات شبيهة.
لكني أتشكك في مدى ما يمكن لهذه النصوص أن تقدمه للمنجز السردي إذا لم يواكبها نقد محترف، خاصة وقد بدأت بشائر ذلك في ظهور بعض النصوص المتواضعة التي ما كان لها أن تنشر لولا تضليل المدونين ومنها مثلا مجموعة "كراكيب " لنهى محمود، ونصوص باسم شرفـ، وإن كانت نزعة الأخير التجريبية قد تشفع له بعض الشيء وإن كانت لا تبرر تعجل النشر، وهذان النموذجان هما على سبيل المثال لا الحصر. وفي نفس الوقت فإن غياب النقد يؤدي لتأخر نشر نصوص لافتة يكتبها بعض الكتاب فقط على المدونات مثل الكاتبة اللافتة الموهبة رحاب بسام، والتي يمكن أن تقدم تجربة جادة إذا شرعت في النشر الورقي، إلا أنها مثل كل أصحاب المواهب الحقيقية ليست متعجلة للنشر.
الأزمة في ظني أزمة نقدية، لا بد من علاجها حتى تكتمل الجمل الإبداعية القصصية وتفتح لنفسها آفاقا جديدة يمكنها بها أن تستعيد مجدها القديم، وتفتح للتجريب في النص القصصي المعاصر الأبواب التي تليق به.


تدوين الذات ومحوها:

"جنية في قارورة" رواية إبراهيم فرغلي الجديدة


النسخة الكاملة من المقال

حاتم حافظ

أسوأ ما يمكن أن يفعله النقد هو أن يثبت المعنى، وهو ـ تحديدا ـ ما أنا في طريقي لفعله (!)، فبالرغم من أن رواية إبراهيم فرغلي الجديدة الصادرة عن دار العين "جنية في قارورة" رواية تبدو كأنها تقاوم تثبيت المعنى، بالتقنيات المراوغة أحيانا، وبتشتيت الحكي أحيانا، وبتداخلات عديدة في السرد، بالرغم من ذلك كله، فإنها سوف تكشف عن أن مقاومتها للمعنى ليس إلا تخوفا من الإفصاح، وتوجسا من الصدام مع بنية مجتمعية قرّ في وعيها الجمعي تحفظات عديدة تستبعد (المختلف) خارج تخومها.

يستكمل إبراهيم فرغلي مشروعه الذي بدأه في روايته السابقة "ابتسامات القديسين"، فمع السطور الأولى لروايته الجديدة نعرف أن "حنين" بطلة الرواية وراويتها الأساسية ليست إلا ثمرة الحب المحرم ـ اجتماعيا ـ لاختلاف دين أبويها ـ رامي وكريستين ـ بطلا روايته السابقة. ويبدو أن هذه الحيلة ـ حيلة الإحالة ـ قد راقت لإبراهيم فرغلي، حيث تكررت أيضا في رواية "كهف الفراشات" التي كانت تحيل إلى مجموعته القصصية "باتجاه المآقي" لدرجة أنه قد اضطر لتصدير روايته بنص القصة المحال إليها. غير أنه ـ في ظني ـ أن إبراهيم فرغلي لا يعمد إلى الإحالة وإنما يضطر إليها اضطراره لخوض المعركة نفسها ـ معركة المقاومة ـ مع الخصم ذاته ـ المجتمع المتحفظ ـ طالما أن الخصم يلح على التعامل مع تناقضاته وتيبس أعرافه باعتبارها بديهة!.

في "جنية في قارورة" تعود (حنين) إلى فرنسا بعد زيارة لمصر ـ موطنها الأصلي ـ بعد أن تأكدت أنها لن تعود لمصر مرة أخرى. والرواية في معظمها تروى بصوت حنين عبر مذكراتها التي بدأت في كتابتها فور عودتها إلى باريس، محاولة لاستنطاق التجربة التي عاشتها، بعد زيارة لمصر بغرض اختبار فرصة العيش في القاهرة، وبغرض إنجاز مشروعها للماجستير وموضوعه "العلاقات الجنسية وتأثرها بالمستوى الاقتصادي في مصر"، وبغرض زيارة عمتها نادية في المنصورة علّها تعرف كيف انتهت أمها المسيحية كريستين إلى حيث لا يعلم إلا الله. ثم اكتشاف حنين ـ في النهاية ـ أنه لن يمكنها العيش في القاهرة مثلما اكتشفت من قبل أنه لن يمكنها العيش في دبي بصحبة والدها قبل موته. وذلك بسبب اكتشافها أنها قد صارت فرنسية حتى النخاع وبسبب أنها عادت من مصر "ناقمة على كل شيء"... هل يبدو أن هذا هو كل شيء؟!

في "جنية في قارورة" ينقطع السرد الذي يستعيد التجربة الأبعد والأقرب لحنين، مخليا الساحة لتجربة مسرحية شديدة الإيروتيكية بل والمجون حيث يتضامن الخيال الحسي لصورتين إحداهما سحاقية، كذلك ينقطع الصوت ليستعاد صوت عماد، الصوت الرئيسي في رواية "ابتسامات القديسين"، فينفرط السرد في أجواء غرائبية، فيتداخل الواقعي والأسطوري في خيالات ألف ليلية، كذلك تخترق تجربة حنين بحضور واقعي لشخص لا واقعي يدفع بالتجربة من العفوي للقدري... هل يبدو أن هذا هو كل شيء؟!

في "جنية في قارورة" ـ في رأيي ـ التجربة الأهم ليست في تجربة حنين ولا في تجربة والديها، بل في تجربة (التدوين) التي تخوضها حنين، سواء التدوين الكتابي (كتابة المذكرات) أو التدوين الاجتماعي (تدوين الهوية في خارطة المجتمع).
****

يبدو أن الرواية تضرب المثل على الكيفية التي يمكن أن تكون الحركة في الفراغ شكل من أشكال التدوين، تدوين الهوية، في صفحات الآخرين، وكيف أن هذا التدوين لا يفعل إلا محو الهوية في نهاية الأمر، ففي الوقت الذي يوهمنا فيه التدوين أنه يسعى لكي يثبّت فإنه يمحو، ويزيل، خصوصا حين لا يثبت في النهاية غير فعل التدوين ذاته، أي حين يلفت التدوين النظر إلى ذاته، مخفيا الحقيقة، وماحيها. حنين تدوّن نفسها أمام أبيها (خجولة) وتدوّن نفسها أمام صديقتها (متهورة)، وتدوّن نفسها في الجامعة (باحثة نشيطة). وهي في علاقتها بباتريك كانت تدوّن لنفسها هوية قادرة على نسيان علاقتها بديفيد. وفي علاقتها به أيضا كانت تدون هوية مختلفة عمن مارس معهن الجنس قبلا. وهي في كل ذلك لا تفعل غير محو هويتها التي تنمحي بفعل تعدد فعل التدوين واستمراره. وبذلك فهي ترجئ الإجابة عن سؤال الهوية الذي تطرحه على نفسها باستمرار.

ومن جهة أخرى ـ ورغم إلحاح سؤال الهوية ـ فإن المسكوت عنه في شخصية حنين هو سعيها لعدم تثبيت هوية واحدة لنفسها. ففي تنقلها مثلا بين عشيق وآخر وبين حفلة ماجنة وأخرى ومن منزل صديق إلى مرقص صاخب وتقلبها الحسي رغبة دفينة في محو أية هوية يمكن أن تكون قد دونتها لنفسها أو يكون الآخرون قد دونوها نيابة عنها. فلم تكن ثورة حنين أو غضبها من وصف نتالي لها بالقحبة، غضب ذا نزعة أخلاقية، وإنما رفضا لمحاولة تدوين هويتها في صورة قحبة، وفي ظني أنها كانت ستثور وتغضب لو أن نتالي وصفتها بالقديسة!.

إن حنين التي ترى نفسها كجنية في قارورة في انتظار المنقذ الذي يشبه المريض الإنجليزي (بطل رواية مايكل اونداتجي المعروفة بالاسم ذاته) لا يعنيها أن تكون مصرية أو فرنسية، مسلمة أو مسيحية، محافظة أو متحررة، ما تعبأ به هو أن تكون ذاتها فحسب، إنسانا، على أي هيئة وعلى أي صورة، قبل أن ينداح الصوت. وهي في ذلك في صراع مع (الاجتماعي) القائم على التصنيف في مصفوفات معنونة. فما جعل نتالي الفرنسية تصف حنين بالقحبة ليس إلا الرغبة الاجتماعية في التصنيف، وما إنهاء حنين لعلاقتها بديفيد اليهودي إلا لاستسلامه في النهاية إلى موقف أيديولوجي، وما رفضها البقاء في مصر إلا بسبب العنف الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع الشرقي المطبوع على التصنيف بين الأخيار ـ المتوافقين اجتماعيا ـ وبين الأشرار ـ الخارجين عن القطيع ـ في رغبة لمنح هوية ثابتة لأفراده جميعهم، وتدوينها ككادر ثابت.

إن المجتمع الشرقي الذي تعاملت معه حنين في مصر، يتعامل مع الذات ومع الجسد بعنف شديد، ويفرض مدونة واحدة وحيدة، ويقوم بتثبيتها وكبح أي مراوغة يمكن أن تنشأ عن دالات الجسد. نسرين مثلا تلبس حجابا ليست تقتنع به، ولكنها تنساق لرغبة خطيبها طواعية، فهكذا النساء يفعلن في محيطها. كذلك فإن علي يمكنه أن ينام مع من يشاء ـ مع كثير من المشاعر الطيبة ـ من (الخواجات) ولكنه يرفض إقامة علاقة مع حنين، تمنعه الدماء الشرقية في جسدها، الدماء التي تحيلها من امرأة (خوجاية) إلى قحبة (شرقية).

أما هذا المجتمع فانه يمارس العنف عبر عدة آليات، كالتلصص مثلا الذي يمثل فعلا اجتماعيا لفرض مدونته الخاصة على أفراده، راغبا في أن يتحول الشخص ـ كل شخص ـ إلى هوية مدونة على شاكلته. وحتى لو قام هذا الشخص بتدوين زائف (الحجاب، إيماءات الخجل مثلا) فإن زيف هذا التدوين ليس مما يعبأ له هذا المجتمع المتلصص، المهم أن يتفق شكل هذا التدوين وما يراه المجتمع صائبا. أما حنين فإنها تقاوم هذا العنف بمحاولة تدوين تاريخها الخاص كذات وكجسد. عبر آلية المحو ذاتها، مستدعية لحظة لم تكن الأمور مبهمة فيها، "لم يكن الجنس احتفالية بلا مبرر، احتفالية ما بعد حداثية كأفلام البورنو وكليبات الفيديو كليب"، مستدعية لحظة كان الجنس فيها ثورة، كان ذلك في العم 1968 في فرنسا، وهي لحظة ليس لها شبيه بالطبع لا في مصر ولا في الإمارات. هذه اللحظة المستدعاة تشبه الذات المأمول في الإمساك بها، وهما معا ـ اللحظة والذات ـ يمكن أن يعرفا بأنهما (الصوت) الذي يسأل عنه إبراهيم فرغلي في صدر الرواية عبر استدعاء قصيدة إيمان مرسال. إن استسلامها للفتى الذي التقته مصادفة لدى المسبح كان لرغبتها في تدوين تاريخ مغاير لتاريخها السابق، تاريخ يرتبط بكلمة "بلاد" التي عرفت أنها تعني "وطن"، لولا أن هذا الوطن كان عنيفا جدا تجاه أجساد مواطنيه، باعتبارها صفحة تدوينه.

****

"لماذا أكتب هذا كله وأستعيده بهذا الإلحاح المرضي؟.. هل هي الرغبة في تعذيب النفس؟ أم إنها محاولة لاكتشاف المساحات الغامضة في تكويني النفسي لاستعادة التوازن؟ لا أعرف" هكذا تسأل حنين مفتتحة كتابتها لمذكراتها التي تشبه إلى حد كبير مذكرات أبيها. فلماذا يدونا حكايتهما؟.. هل هي رغبة متوارثة في تعذيب النفس؟ أم محاولة للمعرفة؟ أم؟.. الحقيقة إن هذا التدوين الكتابي الذي تقوم به حنين هو ـ على عكس تدوينها الاجتماعي ـ رغبة في تثبيت ما تمحوه بحركتها في الفضاء الاجتماعي، ورغبة في الاستحواذ الأخير على هوية ثابتة، ولكن حقيقية. ولكن، بفعل اجتماعي شرير، يتحول هذا التدوين الكتابي إلى (استعراض)، لمجرد أن طرفا ثانيا يقتحم العلاقة بين الذات والذات. تصف حنين مذكرات أبيها بالخجولة لمجرد أنه كتبها بينما يعرف أن ابنته سوف تقرأها. تقول حنين "لا أريد أن اكتب مذكرات ناعمة كالتي كتبها أبي. يبدو لي أنه كتبها بهذا الحس المثالي لأنه كان يعرف أنني سوف أقرؤها"، كذلك فإن أبوها يتردد في الكتابة عن صديق مسيحي كان على علاقة بأخرى مسلمة، وتتساءل حنين إذا ما كان تردده لآفة تعصب كانت قارة في شخصيته.

ومن أجمل مشاهد الرواية ـ وأصعبها في رأيي ـ مسرحة العلاقة بين حنين ونتالي، والتي تؤكد هذه الكتابية التي تنمحق إذا ما اقتحم طرف آخر سياجها. تتخيل حنين أنها على خشبة مسرح مع نتالي في مشهد إيروتيكي مستعار من كتابات ما بعد الحداثة، وتتساءل حنين "مع من سيتضامن الجمهور، معها أم معي؟ هل سيتعاطف مع علاقتنا الخاصة ويجد متعته في متابعة اللقاء الأول بين عشيقتين اكتشفت كل منهما حبها للأخرى أم سيكون الاحتمال الدرامي بوجود صراع امرأتين على رجل أكثر إثارة لهم؟، وهي في سؤالها هذا تقارن بين موقف الجمهور من الحقيقة (التدوين الكتابي ـ تثبيت الهوية) وموقفه من الوهم (التدوين كاستعراض ـ محو الهوية)، إن السؤال عما يفضله الجمهور هو سؤال عما يفضله المجتمع، الهوية كحقيقة، أم الهوية كتدوين؟، إن نتالي في علاقتها بجسدها هوية حقيقية، ولكن علاقتها بجسدها تتحول إلى هوية مزيفة حين تصبح استعراض (في حضور المجتمع)، كذلك علاقة حنين بمذكراتها هوية حقيقية، ولكن علاقتها بمذكراتها تتحول إلى هوية مزيفة حين تصبح استعراض (في حضور القارئ)، ولذلك فإن المدينة الزجاجية التي تستدعى كحلم أسطوري وإيروتيكي في الآن نفسه، والتي تلغي، عبر شفافية جدرانها، "تاريخ من المسكوت عنه"، الغرض منها ليس إلا تعبيرا عن الحلم بإلغاء التدوين كفعل، التدوين باعتباره استعراضا، حيث تحضر الأشياء بنفسها وبدرجة حرارتها، حيث يحضر الدال بمعزل عن المدلول، الجسد بهويته بمعزل عن دلالته، والنص بمعزل عن معناه. حيث الحضور ايروتيكا لذاتها وليست لإشباع رغبة!، الحضور العار للحقيقة غير القابلة للتدوين ولا للاستعراض، بدلا من متاهة الحكايات المدونة للحقيقة.

****

تكتب حنين مذكراتها بعد انقضاء فترة التجربة، أي أنها تكتب بينما تحتشد بكل ذكرياتها بتفاصيلها الغرائبية، ولهذا يغلب التحليل على السرد، وما يعيب على الرواية كون حنين تستطيع قراءة تجربتها بكل هذا النقاء رغم معاناة التجربة. ومن جهة أخرى لا تزال الحكايات الألف ليلية تراود إبراهيم فرغلي منذ عمله الأول، وفي رأيي أن هذه الفواصل التي تقطع السرد لا تفيد السرد بل تشوهه إلى حد ما، لقد كان لدى إبراهيم قصة جميلة رغب أن يشوهها عمدا قدر تشوه الأنات التي تمتلكها شخصياته، والتي تشوهت بفعل اجتماعي. ما يكتبه فرغلي نموذج لكتابة التسعينيات التي تتشابه مع كتابات ما بعد الحداثيين وإن كانت تحمل صوته الخاص الذي يمكن تعرفه بين جيله. ولو أن الكثير من الناس على استعداد للتضحية بآلاف الروايات واللوحات بل وعمارة ما بعد الحداثة كلها في سبيل الاحتفاظ بنسخة سليمة من "الجريمة والعقاب".

وأخيرا ففي رأيي أن رغبة حنين في الكتابة العارية التي لا تعبأ بحساسية القارئ تجاه أفكار أو مواقف ما (في تعارض مع كتابة أبيها الناعمة) ليست إلا ما يحلم به إبراهيم فرغلي في كتابته نفسه، كتابة مكشوفة كمدن الزجاج، لا تكترث لقارئ مستكين لعقيدة ومعتقد وعادة وثوابت مستقرة. وهو ما يمكن تعريفه على أنه نشاط مقاوم للجرثومة المزروعة في أعماق الناس "الرغبة الدفينة في الانهيار وتدمير الذات".