مُسندم.. جزر جبلية
تحتضن «الشحوح» وتحرس المضيق
إبراهيم فرغلي - تصوير حسين لاري
إن لم تكن هذه
هي «الواقعية السحرية»، فماذا تكون؟! جبال شاهقة، تشكلها طبقات صخرية ملونة بألوان
الأرض، تحرس المكان، في ثبات. تطل على وديان، بعضها ليس سوى قفار، بلا زرع أو ماء،
ووديان أخرى تتزيا بالأخضر، فإذا هي بساتين لا يمكن لخيال أن يتوقع وجودها في مثل هذا
المكان. تصل إليها المياه عبر قنوات غير مرئية حفرت مساراتها في باطن الجبال، إذا أنصتَّ
أمكنك أن تسمع رقرقة المياه من مكان خفي، فـ «تَرِقُ» هيبة الصمت الرهيب.
في وسط البحر،
الشاسع، المطل على مضيق هرمز؛ تنبثق من أعماق المياه تكوينات جبلية ضخمة، كأنها حيتان
عملاقة خرجت تتنشق الهواء، فتحجرت! وجزر جبلية تلوذ بالبحر وتسكن إليه، لا يلوثها صخب
أو ضجيج، تعيش بين رحمة الصخر وسلام البحر، يقطنها سكان مسالمون، من قبائل «الشحوح»
العمانية؛ طيبون مثلما كل أهل عمان، يعيشون على الصيد، والرعي، وبعض الحرف التقليدية.
لمئات السنوات
عاشت قبائل الشحوح في هذه المنطقة، في أعالي الجبال، بنوا بيوتهم، وحفروا آبار المياه،
وأطلقوا العنان لأغنامهم ترعى، بينما يتواصلون، بعضهم بعضًا، بلهجة تبدو لمن لا يعرفها
غريبة، سوى أنها، في النهاية تندرج في جسد لهجات القبائل العربية.
صحيح أن الشحوح
قبيلة لها أصل واحد، لكنها تفرعت وتوزعت على مدى السنين، خاصة أنهم عرفوا بتنقلهم وترحالهم
عبر المناطق في فصول السنة المختلفة، ما أدى إلى انتشارهم في أماكن بعيدة بعضها عن
بعض، حتى أن بعضهم يعيش في جزيرة جبلية معزولة بالبحر، لا يمكن الوصول إليها إلا بالقوارب،
يتحدث أهلها لغة غريبة تختلط فيها كلمات تستمد أصولها من لغات عدة، فهي مزيج من الفارسية
والعربية والتركية والإنجليزية، وبعض المرادفات البرتغالية.
هؤلاء هم أهل
«كُمزار»؛ الجزيرة الجبلية التي تقع في أقصى أطراف مسندم، ولا تبعد عن ميناء بندر عباس
الإيراني سوى 22 ميلا بحريا فقط. فمن هم أهل كمزار العمانية؟ ولماذا يتحدثون هذه اللغة
الغريبة؟ وكيف عاشوا في أعالي الجبال سنوات قبل أن يستقروا أخيرا على الساحل؟ ولماذا
يطلق أغلب الرجال من أهلها شعور رءوسهم حتى تصل للأكتاف؟ باختصار: ما هي قصة هذه القبيلة
الكمزارية التي تتفرع من قبائل الشحوح؟
بهذه الأسئلة بدأت
الرحلة، مع زميلي المصور حسين لاري، وبرفقة مرافقنا عبدالله العامري، وسائقنا سالم
الذي تولى القيادة بنا من مسقط برا، إلى صحار، ومنها إلى مسندم، مرورا على معبرين للحدود
بين عُمان والإمارات، حيث سارت السيارة قليلا في الفجيرة، ورأس الخيمة، إذ إن مسندم
تفصل بعض أجزائها عن الحدود العمانية مناطق تابعة لدولة الإمارات، ثم وصولا لخصب عاصمة
محافظة مسندم، وأخيرا إلى كمزار.
فور أن خرجنا من
المنفذ الحدودي الإماراتي، وولجنا المنفذ العماني الذي تبدأ بعده حدود محافظة مسندم،
وجدنا الطريق قد بدأ يتخذ شكلا فريدا؛ فإلى اليسار كان هناك الساحل العماني على الخليج،
يمتد كشاطئ لا متناهٍ بأزرقه البديع. أما إلى اليمين فقد تعملق الجبل بامتداد الطريق،
شاهقا، مهيبا، كاشفا جمال طبقاته الصخرية الرسوبية الفاتنة، مخيفا في آن معا. بينما
الطريق الأسفلتي أمامنا يمتد كثعبان يتلوى، بين البحر والجبل؛ يمينا ويسارا، بلا كلل،
وكأنه يلعب بنا لعبة مسلية. لكن المفاجأة أن هذا الطريق الأسفلتي الممتد من ولاية بخا
حيث كنا، ووصولا إلى خصب، حيث نقصد، قد تم تمهيده قبل فترة وجيزة، إذ إنه لم يكن، وحتى
سنوات قليلات، إلا طريقًا ترابيًا وعرًا، والعهدة على زميلي حسين لاري الذي كان قد
سبق إلى زيارة المنطقة في عام 1995، بصحبة د. محمد المنسي قنديل. بينما كانت
زيارة «العربي» الأولى للمنطقة نفسها في عام 1980، حيث لم تكن هناك وسيلة للوصول إليها
سوى الطائرات الحربية.
الكهرباء في أعالي
الجبل
هذا الدليل الدامغ
على تنمية شاملة وصلت إلى أقاصي شمال السلطنة، كانت له شواهد أخرى، إذ اكتشفنا لاحقا،
عندما شاهدنا بعض بيوت السكان ممن يفضلون سكنى الجبال، في الأعالي، وعلى القمم، أن
تلك البيوت، حتى لو لم يتجاوز عددها أحيانا بيتًا واحدًا، وصلتها الكهرباء، بتوصيلات
مدت فوق الجبال باستخدام الطائرات الهليكوبتر في أرجاء مسندم، وفي ولاياتها الأربع:
خصب (العاصمة)، دبا، بخا، مدحا.
أما البعد الجديد
للمنطقة، فهو تحولها إلى منطقة سياحية بامتياز، لم نحتج إلى كثير جهد لملاحظته منذ
وصلنا الفندق المطل على الخليج في خصب، الذي يبدو أقرب للمنتجعات، إذ فاضت فيه وجوه
أجنبية، أوربية وآسيوية، وبعض العرب، أسلموا أنفسهم لسحر فريد من نوعه تصنعه الجغرافيا
الفريدة لهذه المنطقة التي تتشكل فيها علاقة خاصة بين البحر والجبل.
لمحنا الفندق من
بعيد، على تل مطل على الخليج مباشرة، بينما كنا على الطريق الساحلي الذي كان يرتفع
بنا أحيانا حتى نقترب من السحب التي كانت ندف منها تظلل سماء خصب حين وصلنا في منتصف
النهار.. الفندق لا مكان خاليا فيه. والحقيقة أننا اضطررنا للمبيت ليلة في صحار، لعدم
إمكان توفير غرف حتى يوم وصولنا هذا، ولذلك فما إن انتهينا من الإجراءات حتى فضلنا
أن نبدأ في اكتشاف المنطقة، أملا في تعويض اليوم الضائع.
بدأت جولتنا بـ
«حصن خصب» الذي يعد واحدا من أبرز المزارات الأثرية هنا، وقد رُمِّم وحُوّل مزارًا
سياحيًا، وكذلك حُوِّل جزء منه متحفًا منزليًا يقدم نماذج للحياة اليومية والتقاليد
والفنون في منطقة مسندم بشكل عام. شاهدنا الحصن، من بعيد، يحتضنه - كما كل شيء هنا
-الجبل. تتناثر أمامه عدة نخلات، ويواجه بابه الأثري العتيق مدفعان مصوبان باتجاه البحر،
وقاربان من قوارب خصب ذات التصميمات الخاصة التي تشتهر بها منطقة مسندم. من هذا الباب
العتيق ولجنا الحصن، عبر مدخل ضيق، مظلم. وشعرت أنني انتقلت من زمن إلى آخر، كأن عبور
الباب هو انتقال في الزمن.
يقع الحصن في الجزء
القديم من المدينة، ويطل على الجانب الشرقي من ولاية خصب، وتشير المصادر التاريخية
إلى أنه شيد على بقايا قلعة قديمة موغلة في القدم قبل تعزيز بنائها من قبل البرتغاليين
في القرن السابع عشر، ضمن خططهم للاستيلاء على مضيق هرمز، لكنهم لم ينجحوا، وكان الإمام
ناصر بن مرشد قد طرد البرتغاليين من الأراضي العمانية، بعد أن بذل جهدا في توحيد البلاد
خلال فترة إمامته (1624إلى 1649). ومن بعده قام الإمام سلطان بن سيف اليعربي بترميم
الحصن. أما سلاطين آل بوسعيد فقد أولوا الحصن اهتماما متزايدا، واستخدموه كبرج للمراقبة،
وكمنزل لعائلة الوالي، ويرجع تاريخ الحصن الموجود حاليا إلى نحو 250 عاما، وتم ترميمه
في عام 1990.
أما التطوير بالشكل
الذي وصل إليه الحصن الآن - حيث تم تأهيله بتوصيلات الكهرباء، وبقاعات متحفية، ومعارض
للمشغولات اليدوية - فيعود إلى عام 2007.
قبل أن نصعد إلى
أبراج الحصن شاهدنا في الفناء نماذج للقوارب التي تشتهر بها مسندم، ونموذجًا من نماذج
العريش الكمزاري المعلق، إضافة إلى بعض الأدوات المستخدمة في البيوت مثل الرحى، والتنور،
وغيرهما.
أصعد درجات السلم
الحجرية التي تقود لأحد الأبراج، بينما أتامل خطواتي، متخيلا آلاف الأقدام التي خطت
على الدرج من قبلي، على مدى قرون: غزاة البرتغال الذين أرادوا السيطرة على مضيق هرمز
من هذا المكان، وفلولهم، ثم حكام عمان وعائلاتهم، جنود وحراس، أسرى ومعتقلون، نساء
وأطفال، وخدم: آمال وأحلام، أحزان وأفراح، مباهج العيش، ومخاوف من العدو القادم عبر
البحر القريب الذي أطل عليه عند آخر الدرجات التي تقود إلى القاعات الداخلية للحصن.
متحف للتاريخ
عندما دخلت إلى
إحدى القاعات الداخلية جفلت، إذ إنني بوغت بوجود مجموعة من السيدات يفترشن الأرض، لكنني
سرعان ما أدركت أنهن لسن سوى نماذج مصنوعة على هيئة بشرية كجزء من المتحف المنزلي الذي
يضم عددا من الغرف، تحتوي كل منها، أو تجسد، مشهدا حيا من الحياة والثقافة والأزياء
والعادات لأهل مسندم. غرفة النوم في بيوت مسندم. عروس وعريس بالزي التقليدي. شيخ يعلم
الأطفال دروسا في اللغة والدين. تاجر يبيع البضائع العمانية التقليدية، نماذج من الطب
الشعبي، وغيرها. إضافة إلى قاعات تضم عددا من «الفترينات» الزجاجية التي تعرض العديد
من القلائد والحلي النسائية المصنوعة بأيدي فنانين من أهل عمان.
اختتمت الجولة
في الحصن بقاعة المكتبة التي تضم عددا من الوثائق النادرة؛ بينها رسالة النبي محمد
(صلى الله عليه وسلم) إلى أهل عمان للدخول في الإسلام، (اعتنق أهل عُمان الإسلام في
حياة النبي محمد وهزمت القبائل العمانية الساسانيين في معركة بالقرب من دبا في عام
632م ودخل أهل مسندم بعد تلك المعركة في الإسلام). ومن الوثائق أيضا مخاطبات ولاة خصب
إلى شيوخ القبائل، في مسائل تتعلق بتنظيم عمليات الغوص، أو بالعلاقات بين الشحوح والقبائل
الأخرى، وغيرها.
انطلقنا من «حصن
خصب» باتجاه وادي «سل أعلى» في الطريق إلى ولاية دبا، وسرعان ما انتهى الطريق الأسفلتي،
وبدأ طريق وعر تختلط فيه التربة بالحصى، تحيط به الجبال من الجانبين. إلى اليسار كانت
هناك مجموعات صغيرة من البيوت تتناثر أسفل الجبال مباشرة. ثم بدأنا الصعود بالسيارة
إلى الجبل، عبر طريق ترابي أطرافه تقود إلى «خور نجد» الذي يقع أسفل الجبل. كان علينا
أن نصل إلى قمة الجبل على ارتفاع 1800 متر عن سطح البحر، ثم نبدأ الهبوط مرة أخرى لنصل
إلى الخور. وفي تلك البقعة توقفنا نتأمل الخور من شاهق، في منظر بانورامي رهيب يجسد
الخصوصية التي تتمتع بها هذه المنطقة. بينما تتناثر ألوان من النباتات الجبلية، وتحلق
من بعيد أعداد من طيور بحرية.
ثم عدنا أدراجنا
مرة أخرى لنقصد وادي «سل أعلى». في الوادي شاهدنا عددا من البيوت المتجاورة، وكلها
تتجمع أسفل الجبال. وغير بعيد منها تناثرت مجموعة من الأبنية الصغيرة التي بدت أغلبها
مهجورة، مبنية بالصخور والحجارة.
بيت القفل!
التقينا شابا كان
له فضل إلقاء الضوء على الكثير مما لم يكن لنا أن نفهمه من دون مساعدته. فقد أوضح لنا
سالم أحمد زيد الخنزوري الشحي أن تلك البيوت القديمة الصغيرة المهجورة تعرف باسم «بيت
القفل».
حاولت دخول «بيت
القفل» مرتين، أخفقت في الأولى، ونجحت في الثانية. وفي كلتا المرتين كان لابد من الزحف
على الركبتين، لأن المدخل ضيق جدا ولا يزيد ارتفاعه على نصف متر، أما عرضه فبالكاد
يسمح لمرور شخص نحيف. في المرة الأولى حاولت دخول بيت قفل مهجور، ولم أدرك أنه يمكن
أن يكون مأوى للسحالي، وبعض الزواحف، فأجفلت عندما رأيت إحداها، وانسحبت بسرعة، زحفا
على ركبتي، عائدا للخلف، مقشعرا من فرط اقتراب وجهي من وجه السحلية المدهشة في الداخل.
أما المرة الثانية
التي أتيح لي فيها دخول ناجح لـ«بيت القفل» فقد تم بمساعدة سالم الخنزوري أيضا؛ الذي
دعانا لزيارة بيت عمه محمد علي سليمان الشحي، وهو عجوز له خبرة في بناء بيت القفل.
استقبلنا الرجل بكرم بالغ في بيت معاصر، مقسم إلى قاعات وغرف، لكنه قبل أن يستضيفنا
في المجلس، دعاني لزيارة «بيت قفل» ملحق بالبيت، إذ تم البناء الجديد متاخما له، بحيث
يستفيد منه كمخزن.
تقدمني الرجل لتشجيعي،
فنزلت على ركبتي، وزحفت؛ للمرور من المدخل الضيق للوصول إلى الباب الصغير الذي يوحي
بأنه مدخل لبيت من بيوت الأقزام! ثم وضعت قدمي على درج صغير فألفيت نفسي في «بيت القفل».
بيت صغير مستطيل الشكل، أو بالأحرى حجرة، لا توجد بها نوافذ من أي نوع، في الطرف الأيمن
تعلو منصة صغيرة كانت تستخدم كفراش. أما الجهة الأخرى فبها أيضا منصة صغيرة، ضمت العديد
من الأدوات القديمة التي كانت تستخدم في الماضي، وأحيانا في الوقت الراهن: الرحى لطحن
الطحين، أوعية مختلفة الأحجام من الفخار والنحاس، الميزان القديم الذي يزن به الأهالي
بضائعهم من الأغذية، «الحالولة» وهي وعاء فخاري لتبريد المياه. الحجلة (قربة ماء)،
وغيرها من أدوات خاصة بحفظ الطعام.
سألت «الشايب»
عن أسباب عدم وجود منافذ للتهوية، فأخبرني أن الشحوح عادة ما كانوا يتنقلون، خلال مواسم
العام، وفي الشتاء فقط يجلسون في هذه البيوت، أما في الصيف فتتحول إلى مخازن لحفظ أغراضهم.
وخوفا من السطو عليها من قبل قطاع الطرق كانت تصمم بهذا الشكل، ويتم غلق الباب بنظام
قفل خاص مكون من قفلين مستوحى من أقفال الزنازين العتيقة، ولذلك سمي باسم «بيت القفل».
لم أنجح في الحصول
على إجابة شافية عن أسباب تصميم الأبواب بهذا الشكل. قال لي سالم إن السبب يعود للبرد،
ولأن المكان كان يستخدم كمخزن في أغلب العام. أما العم محمد سليمان؛ فقد أوضح أن صعوبة
الحصول على الخشب كانت سببا من أسباب اختيار ذلك الحجم الصغير لأبواب تلك البيوت، لكنه
أشار سريعا للخوف من قطاع الطرق. وأظن أن «المخاوف» هي بالتأكيد سبب تصميم بيوت كهذه،
فهي أولا تقام أسفل الجبال مباشرة، كأن روادها يؤمنون ظهورهم بالجبل، ثم هي بلا منافذ
من أي نوع، وأخيرا أبوابها الضيقة التي لا تتيح الدخول إليها بسهولة.
هكذا رسم لنا بيت
القفل أول معالم طبيعة الحياة في هذه المنطقة المدهشة، فالشحوح كانوا يتنقلون من الوديان،
إلى أعالي الجبال، ثم إلى السهول، وأخيرا إلى الساحل، على امتداد فصول السنة: الشتاء،
الربيع، القيظ، الصيف. ويختلف النشاط الذي يمارسونه أيضا، فبينما يرعون الأغنام في
أعلى الجبال، وفي الوديان، فإنهم يمارسون الصيد على الساحل، أما في السهول فهم يمارسون
الزراعة.
كشف لنا سالم الخنزوري
أن المياه، ومدى توافرها، مثلت معيارا مستمرا لاستقرار الشحوح في مكان دون غيره، وأوضح
أن الشائع في الزمن القديم، لمن كانوا يعيشون في أعلى الجبال أن يحفروا آبارا، لكي
يخزنوا فيها المياه، وعرج بنا إلى مكان قصي، شاهدنا فيه بئرا من الآبار القديمة، لكنها
الآن تُستخدم لسقيا الغنم.
في مساء اليوم
نفسه، وبعد عودتنا، لاحظت في أثناء مرورنا على الطريق الرئيسي لخصب لوحة مكتوبًا عليها
«حارة كمزار»، وفهمت أن الكثير من أهل كمزار يعيشون في هذه الحارة، إما لقضاء أوقات
للاسترخاء والراحة خلال الصيف، أو للإقامة الدائمة حيث حصلوا على فرص عمل في خصب. وهكذا
أجلت أسئلتي عن كمزار حتى صباح اليوم التالي، حيث كان من المقرر أن نلتقي أولا محافظ
مسندم السيد سعيد بن محمد البريكي، ثم ننطلق إلى كمزار عبر البحر، ومن خلال القارب
الذي وفره لنا المحافظ مشكورا، لنقلنا إلى كمزار، والتنقل في ربوع عدد من الجزر الجبلية
هناك.
كُــــمـزار
«تشابي حال؟ خويشي؟»
هكذا سألني عبدالله الكمزاري، أحد سكان كمزار ممن يعيشون في خصب، الذي عرض مرافقتنا
في رحلتنا إلى كمزار. ولأنني كنت قد تعلمت منه بضع كلمات في الليلة الماضية من لغتهم
المدهشة هذه فقد أجبته مبتسما: «خويشي.. الحمد لله»، ثم سألته: «تشي جيا؟» فأجابني
مشيرا إلى عمق البحر أمامنا: «تشون كمزار».
وفور تحرر الزورق
من قيوده في ميناء خصب، انطلق بسرعة كبيرة في الطريق إلى كمزار. كان الهواء قويا جدا
بسبب اندفاع القارب، والصوت عاليًا شديد الصخب، فاكتفينا بتأمل السحر حولنا: سلاسل
الجبال تحيط بنا مشكّلة تشكيلات جمالية فاتنة. قرية قانة التي تعانق الجرف القريب من
خور شم والتي يتم الوصول إليها عن طريق البحر، وتبدو البيوت الصخرية الموجودة فيها
كأنها في الجرف نفسه. ثم مررنا على خور «غب علي» الذي يقع عند مخرج مضيق خصب، ويعد
الأعمق في المنطقة. أما إلى اليسار فظهرت جزيرة مسندم، التي تعد هضبة بحرية تعلوها
قرية مملوءة بالمساكن والمساجد، ويعيش سكانها على الصيد مثل أغلب أهالي المنطقة. وعرفنا
من مرافقينا أن بعض هذه المناطق تتسم بشعاب مرجانية جميلة يأتي السائحون لمشاهدتها
غوصا، (لكن ما فاتنا مشاهدته في رحلتي الذهاب والعودة هو مجموعات الدلافين التي عادة
ما تظهر في المكان، لكنها انشغلت عنا في ذلك اليوم، مع الأسف).
كان الجبل إلى
اليمين ممتدا، كأنه منحوت بأيدي فنانين يرون في الصخر ما لا تراه عيون تقنع بالنظر
من دون التأمل. وبدت حدود الجبل كأنها ترسم لنا خط السير، وكنا ننتظر انحرافه لليمين
حتى ننحرف بدورنا إلى الخور الذي تقع فيه كمزار، إلا أننا قبل أن نتجه إلى اليمين،
فوجئنا بانبثاق تشكيل صخري يصل طوله إلى نحو أربعة أمتار، كأنه حوت عملاق خرج ليتنفس
فتحجر في مكانه، وبعده بقليل بوغتنا بعملاق حجري آخر كأنه أسد تعملق وجلس على الصخور
ليراقب المكان فأعجبته الجلسة وفضّلها أبدية!
أخيرا ظهرت «كُمزار»
في الأفق. اقترح عبدالله وعبد السلام - الذي تبرع بمرافقتنا واستضافنا في كمزار- أن
نتجه أولا إلى الساحل المنفصل عن كمزار، والمتاخم له، الذي يعد فيه الصيادون من الشباب
شباك الصيد، ويصلحون فيه قواربهم. اقتربنا منهم، وكان جمع من الصيادين قد صنعوا مظلة
وجلسوا تحتها يجهزون الشباك. ملامح وجوههم العربية بها مسحة أجنبية، كما شأن أبناء
السواحل عموما، بعضهم أطال شعر رأسه، لكن ليس إلى الدرجة التي كانت معروفة سلفا عن
أهل كمزار الذين كانوا يطيلون شعور رءوسهم حتى الكتف. حييناهم وردوا إلينا السلام.
أشار عبدالله إلى بقعة بارزة أعلى الجبل، أشبه ما تكون بغرفة حجرية. أوضح لي عبد الله
أنه مكان يجلس فيه «الجبلي»، وهو الشخص المسئول عن توجيه الصيادين إلى الأماكن التي
يرى أنها تفيض بالأسماك، بحيث يتحركون بقواربهم وفقا لتوجيهاته.
من بعيد بدت لنا
القرية تجمعا سكنيا بين جبلين.. تتلاصق فيه البيوت. وعلى الشاطئ رسا عدد محدود من القوارب،
التي توقفت لنقل بعض الأهالي، وهو أمر شائع هنا إذ إن القوارب التي تمخر بين كمزار
وخصب لا تتوقف ليلا أو نهارا. استقبلنا شاب له ملامح شرقية أطال شعر رأسه قليلا، وهو
أحد الصيادين القلائل الذين بقوا لاستقبالنا والتجوال معنا في المنطقة. ومن بعيد كنا
نرى السيدات والفتيات وبعض الأطفال, تجلس السيدات مستندات إلى جدار بيت من البيوت المطلة
على الساحل، سرعان ما أسدلن براقعهن على وجوههن تحاشيا لوجود الغرباء. من بعض ما شاع
عن كمزار أن النساء فيها ذوات عيون زرقاء، ولكننا لم نلحظ ذلك، لأن من شاهدناهن وضعن
براقعهن بسرعة، أما من أتيح لنا أن نراهن في أزقة القرية وحاراتها فكن ذوات عيون سوداء.
وبالسؤال عرفت أن الفتيات في كمزار يحصلن جميعا على نصيبهن من التعليم، وينتقلن إلى
مسقط للدراسة الجامعية.
كان علينا أن نمر
بين البيوت المتلاصقة، لنصل إلى واد ضيق يعرف باسم » وادي مرواني» ليقودنا إلى الجبل
الذي يحرس كمزار، والذي كان مستقرا لأهالي المكان قبل مئات السنين، قبل أن يتحولوا
من رعي الغنم في أعالي الجبل، إلى الصيد على الساحل. الهدوء هنا لا مثيل له. والتجاور
بين البيوت يكاد يجعلك تشعر أنك تمشي بين أهل عائلة توزعت مساكنهم في رقعة محدودة.
والمساحة بالفعل
ضيقة ومحدودة لدرجة أن المقابر هي جزء من المكان، تتوزع بين البيوت، في مساحات صغيرة
مسيجة بالأسلاك، وتتوزع فيها الشواهد. ويمر عليها أهل المكان بألفة.
أوضح عبد السلام
أن السبب في ذلك يعود لضيق المكان، لكن انتشار المقابر بهذا الشكل كان سببا، لأول مرة
في إصابة أهل القرية بوباء، قبل عشرات السنين.
بين جيلين!
كان أهل كُمزار
يتحدثون بعضهم مع بعض بلغتهم الخاصة، أما معنا فهم يتحدثون العربية بطلاقة. سألت إذا
كان الجيل القديم من أهل كمزار يتحدثون العربية وأجابني أحد الشباب: «لا.. بعض الشياب
لا يعرفون العربية». طلبت أن ألتقي أحدهم، وبالفعل حضر إلينا عجوز هو «علي عبدالله
علي»، في الثمانين من عمره. لحيته الكثة بيضاء تماما، ويغطي رأسه الخالي من الشعر بغترة
بلا عقال. وتولى أحد الشباب الذي أصبح الآن معلما في مدرسة كمزار، الترجمة.
لم يكن «علي عبدالله»
من الجيل الذي عاش أعلى الجبل، إذ إنه عمل مثل أبيه بالصيد، بالشباك والأقفاص، لعشرات
السنين بلا كلل. لكنه، من القلة القليلة من أهل المنطقة الذين لم يغادروها إطلاقا،
لا في الوقت الذي سافر فيه البعض إلى الكويت والعراق والإمارات وقطر للعمل، في الخمسينيات
والستينيات، ولا حتى للسياحة مثل أغلب أقرانه، ولعل هذا ما يفسر عدم إجادته للغة العربية.
لكن أحد الشباب أوضح أن التعليم له علاقة بالمسألة، فالجيل الذي لم يتعلم لم تتح له
فرصة تعلم العربية. أما الآن فالأطفال يتعلمونها في المدرسة (تحمل المدرسة اسم أحد
شيوخ المنطقة الذي عاش بها لسنوات قبل رحيله وهو الشيخ محمد بن صالح المنتفقي)، وفهمنا
أن الأطفال في سنوات دراستهم الأولى يعانون بعض الصعوبات في تعلم العربية، لأنهم يتحدثون
بالكمزارية فقط حتى يبلغوا سن التعليم.
علي عبدالله يرى
أن الدنيا تغيرت كثيرا، وأن أول المتغيرات هو ضيق المكان على سكان كمزار الذين يزيد
عددهم الآن على 3500 شخص يعيشون جميعا في هذه البقعة المحدودة. إضافة لاختلاف طرق الصيد
بعد توافر القوارب الحديثة المزودة بمكائن. كما أن الحياة كانت مختلفة تماما وبسيطة
حتى دخول الكهرباء للمنطقة في الثمانينيات من القرن الماضي، وبدء استعمال الأدوات الحديثة
في البيوت.
أوضح لنا علي عبدالله
أن «كمزار» عرفت في الزمن القديم بتوافر المياه العذبة في بعض الآبار، وكانت قوافل
التجار تمر على كمزار للحصول منها على المياه. أما الآن فالمياه المحلاة تصل إلى كمزار
من خصب. وكما أغلب الصيادين كان يتقن تجفيف السمك، وتمليحه؛ وهي الصناعات المشهورة
هنا. وكان أهل كمزار يقايضون التجار بالأسماك، ويحصلون منهم على احتياجاتهم من الأغذية
والبهارات وغيرها مقابل السمك. أما الصناعة الأخرى التي عرف بها أهل كمزار فهي صناعة
القوارب الخشبية التي تتسم بخصوصية تصميماتها وتشتهر في منطقة مسندم بشكل عام.
كما التقينا عبدالله
محمد صاملان وهو أيضا صياد عجوز لا يتقن اللغة العربية، ومثل علي لم يبرح كمزار إلا
للسياحة في أبو ظبي مرات عدة. أوضح لنا أن كمزار تشتهر أيضا بتمليح الأسماك، وصناعة
شباك الصيد، وبعض الحرف التقليدية مثل صناعة الفخار.
أما أصل اللغة
الكمزارية التي لا يتحدثان غيرها فلا يعرفان عنها شيئا. سألته: «هل كنت تطيل شعرك في
فترة الشباب؟» فابتسم قائلا إن إطالة الشعر في كمزار هي فضيلة، لكنها عادة اختص بها
سكان الجبل من الرعاة أكثر من الصيادين، وكانت محل فخر ووجاهة، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة
إلى الصيادين، لأنها كانت تضايقهم أثناء الصيد.
أوضح لنا عبد السلام
أن أغلب الصبية الذين يلتحقون بالمدارس الآن لا يستطيعون إطالة شعورهم، لأن إدارة المدرسة
تلزمهم بقص شعر رأسهم. ومازال بعض الشباب من الصيادين هم الذين يحتفظون بهذه العادة.
بالنسبة إلى سكان
الجبل فقد أصبحوا نادرين، وباتت أغلب البيوت القديمة مهجورة. لكننا، مع الأسف، لم نستطع
الوصول للبيوت الجبلية بسبب وعورة الطريق للجبل، والتي لم يعد يهتم بها أحد بعد نزول
الغالبية إلى الساحل.
أوضح لنا الشباب
أنهم يقضون أمسياتهم على الشاطئ، أو في أماكن التجمع مثل هذا المأوى من الخوص الذي
جلسنا فيه، يلعبون الأوراق، أو يتسامرون ويشاهدون التلفزيون، وفي عطلات نهاية الأسبوع
يقضون سهراتهم في خصب.
لكنهم أجمعوا على
ارتباطهم الوثيق بالمكان: «أين يمكن أن نجد سلاما وهدوءا مثل هذا؟». ومعهم حق، فالشعور
بالطمأنينة شعور حقيقي في هذا المكان، إضافة إلى خلوه من الكلاب والحمير، كما أكدوا
لنا، وباستثناء الماعز فإن بعض الثعالب الجبلية قد تظهر ليلا في بعض الأحيان. الإحساس
بالأمان، وبحالة التعاون بين السكان كأنهم عائلة كانت محل تعليقات وتأكيد بعض المدرسين
المصريين والتونسيين الذين التقيناهم من المدرسين المقيمين هنا.
لكن «كمزار» تصبح
مهجورة تماما بحلول شهر يونيو حيث ينتقل الجميع إلى خصب، بسبب حرارة الجو، وتتوقف بها
كل الأنشطة بما فيها عمليات الصيد، وحتى نهاية شهر أغسطس.
الندبة.. تقليد
خاص جدا!
عندما انتهينا
من تناول وجبة الغداء التي دعانا لها أهل كمزار معبرين عن كرم بالغ: (سمك شعري، وأرز،
وتمر، وفاكهة وعصائر، وقهوة وشاي) سأل مرافقنا ضاحكا إذا كانوا سيقومون بالندب، فنفوا
ذلك ضاحكين. واستفسرت عن الندبة بدوري، ثم شاهدتها لاحقا، لأتعرف على واحدة من العادات
التي ميزت قبائل الشحوح منذ زمن بعيد.
يقف الرجل العجوز
بين دائرة من الرجال والشباب، ويشرع في إطلاق صيحات متتابعة تشبه عواء الذئب، بينما
يرفع ذراعه حتى يحاذي جبهته، ويبقيها معلقة، ثم يطلق متوالية من كلمات لا يمكن فك شفرتها
تبدو مثل صيحات متتالية.
وبسؤال العديد
ممن التقيناهم هنا عرفنا أن «الندبة» هي تقليد قديم لدى قبائل الشحوح؛ بدأ كطريقة للتحذير
من هجوم القبائل المجاورة في الزمن القديم، حين شهدت المنطقة صراعات بين القبائل، أو
للدعوة للقتال. ثم بمرور الوقت تحولت إلى تقليد يقوم به الضيف تعبيرا عن شكره لكرم
مضيفيه، ولاحقا تحولت الندبة إلى تقليد يمارس في الأعراس وحفلات الزفاف.
أصل اللغة الكمزارية
كنت أشعر أنني
لم أصل إلى إجابة شافية عن أصل اللغة الكمزارية، وطبيعتها، لكن المصادفة قادتنا مساء
لمقابلة باحث كندي يعيش بين خصب وكمزار في محاولة لتدوين هذه اللغة الشفاهية.
أصر عبدالله الكمزاري،
الذي اصطحبنا إلى كمزار على دعوتنا للعشاء في منزله في خصب، في حارة الكمزارية، وهناك
التقينا «إريك أنونبي» Erik
Anonby،
الكندي، المقيم في هولندا، المتخصص في دراسة اللغات الشرقية، الذي حضر مع زوجته «كريستينا»
للحصول على تصريح من السلطات البحثية والأكاديمية المختصة ليبدآ في دراسة اللغة الكمزارية
وتدوينها باللاتينية.
أوضح إريك أنه
بدأ الاهتمام بهذه اللغة في أثناء دراسته للغة الفارسية، حيث درس إحدى اللغات الفارسية
وتعرف باسم «لغة لوري»، وسمع أنها شبيهة بلغة شفاهية تعرف باسم «الكمزارية» فقرر أن
يتحقق من ذلك.
يرى إريك أنه يمكن
أن نصل إلى اللغة الكمزارية من خلال دراستها ومقارنتها باللغات الأخرى وخاصة الفارسية.
وفي خلال الدراسة، يقول إريك «اكتشفنا أن مفردة مثل «مياه» هي «آب» في الكمزارية، وهو
استخدام قديم لنفس المرادفة في الفارسية القديمة، لكنها تحورت إلى «آو» قبل ألف عام،
وهو مؤشر نفهم منه أن تاريخ اللغة الكمزارية قد يعود لألف عام. وهكذا».
لكن «إريك» يؤكد
أنه لا توجد أي أدلة على أن الكمزاريين أصلهم فرس، أو برتغاليون كما شاع خطأ، لأن اللغة
الكمزارية خليط لغات عديدة منها الفارسية والعربية والتركية والإنجليزية، وهناك بعض
الكلمات مشتقة من العربية الفصحى، وبعضها مشتق من اللهجة المحلية لقبائل الشحوح، بالإضافة
إلى عدد محدود جدا من الكلمات البرتغالية. وهم يعتبرون أنفسهم عربا، وإذا سألتهم عن
أصولهم فهم لا يعرفون سوى أنهم من كمزار.
فالثابت أن المنطقة،
بسبب موقعها القريب من مضيق هرمز كانت، ومازالت، جاذبة للعابرين من التجار، ما جعل
أهلها يتعايشون مع الكثير منهم، وبالتدريج التقطوا كلمات ودخلت في نسيج لهجتهم.
وهذه الحقائق أكدها
لنا السيد أحمد محمد عبدالله الكمزاري، عضو مجلس الشورى العماني عن المنطقة، في حوار
مستقل أجريناه معه في مكتبه بخصب. وأوضح أن الكمازرة ككل لا ينتمون لأي ثقافة أخرى،
بل إنهم يتشرفون بانتمائهم العربي الذي يتجلى في كل مظاهر الحياة والسلوك. وقال أن
الدليل على أن اللهجة الكمزارية لا تنتمي لثقافة أخرى هو أن أهل تلك الثقافات الأخرى
عندما يستمعون إليها لا يفهمونها، والعكس صحيح. بمعنى أنها لهجة تكونت من أهل المنطقة
أنفسهم منذ سنوات بعيدة بسبب اختلاطهم بالعديد من التجار الأجانب، فكون المنطقة على
مضيق هرمز جعل منها ممرا بين الدول. وبالتالي كان أهل كمزار يلتقطون كلمة من هنا، وأخرى
من هناك، حتى تكونت لهجتهم الخاصة، ولذلك هي لهجة منطوقة لا تكتب، وتفتقر للقواعد،
والكلمة الواحدة فيها لها أكثر من معنى.
أما بالنسبة إلى
العادات والتقاليد فهي تماثل كل عادات أهل المنطقة من الشحوح.
سألت السيد أحمد
الكمزاري عن تأصيل فكرة الحياة في الجبال فقال إنها لم توثق بعد، وهناك مجموعة من الأوراق
التي كانت تخص محمد بن صالح المنتقفي البصري الذي وفد إليها منذ زمن بعيد، لكن الأوراق
فقدت بعد وفاته. والثابت أن أحد أسباب اللجوء للجبال هو ارتفاع منسوب مياه البحر، والخوف
من القراصنة الذين كانوا منتشرين في فترة بعيدة.
في ما يتعلق بمستقبل
كمزار في ضوء قلة مساحتها بالنسبة إلى عدد السكان أوضح أن الخطط التي وضعتها الدولة
تحاول إيجاد البدائل، بحيث يحافظ السكان على وجودهم في منطقتهم، حيث سيتم تكسير جزء
من الجبل لتوسيع رقعتها، وردم جزء من البحر، وربما شق طريق بين الساحل والجبل، بمعنى
أن الاتجاه هو إلى تطوير المنطقة وتوطين الناس في أماكنهم وتجنب النزوح إلى المدن.
إضافة إلى إيجاد فرص عمل سواء في مجال السياحة أو الدوائر السياحية في خصب.
عودة إلى إريك
الذي أوضح أن هناك محاولة موازية لتدوين اللغة الكمزارية من قبل شخص من كمزار هو «علي
حسن علي»، الذي يعمل منذ ثلاث سنوات على قاموس كمزاري، عربي، إنجليزي، فارسي، كردي.
أما بالنسبة لإريك وزوجته فإنهما ينتظران الحصول على التصريحات الحكومية الرسمية قبل
الشروع في مشروعهما لتدوين اللغة.
«الروضة» مرورا
بقمة جبل حارم!
في اليوم التالي
قررنا العودة إلى المنطقة الجبلية على الطريق إلى «دبا»، حيث مررنا بمنطقة الخالدية
التي تبدو مثل واحة مملوءة بالمياه والخضرة، وبألوان من النباتات الجبلية وأشجار السرو،
ثم انتقلنا إلى منطقة «السيّ»، ورافقنا سالم الخنزوري. كان علينا أن نصعد في طريق جبلي
وعر، وشاهق، بشكل يفوق كل ما صعدناه من جبال، لكي نصل إلى منطقة الروضة.
هذا الجبل هو جبل
حارم الذي يعد أعلى جبال مسندم، إذ يبلغ ارتفاعه 2087 مترا. وعلى امتداد السير في هذ
الطريق الجبلي كان سالم يطلب التوقف ليحصل لنا على بعض النباتات العشبية الجبلية العطرية.
ويعدد لنا فوائدها. وعندما بلغنا مرحلة عالية من الارتفاع طلب سالم أن نلقي نظرة على
هضبة يمكن رؤيتها من موقعنا، فشاهدنا مساحة مسطحة يتجاور بها عدد من البيوت، والأبنية
المخصصة للمواشي. كانت هذه هي منطقة «الرحيبة»، وبعد دورة أخرى علوية توقفنا لنتأمل
بيتا حجريا مبنيًا على بروز في الجبل أخبرنا سالم أن ساكنه ظل يعيش فيه وحيدا حتى توفي
قبل فترة قصيرة، وأن ذلك الرجل الذي يدعى سلطان رفض كل دعوات أهله وأبنائه ليعيش معهم
في القرى المجاورة.
بين آن وآخر نجد
أماكن يمكن التوقف فيها والتمتع بمشاهدة الأودية الصغيرة في المنحدرات السفلى، بينما
في أعلى قمة جبل حارم، أمكننا أن نرى محطة الرادار.
توقفنا على منطقة
فسيحة واسعة مملوءة بأشجار السدر، وأشجار «المِزج» التي تنتشر في المنطقة وتصنع من
سيقانها عصا الجرز الشهيرة في مسندم. و«الجرز» هي عصا تشبه الفأس إذ إن قمتها عبارة
عن قطعة معدنية تشكل رأس العصا، وهي تعتبر رمزًا من رموز تراث أهل مسندم، وكانت في
السابق تستخدمها كسلاح تقليدي. وهي تصنع الآن بكثافة في قرية «لما» وهي أيضا قرية بحرية
لا يمكن الوصول إليها إلا بالقوارب.
أخيرا وصلنا إلى
منطقة الروضة، وهي واد فسيح مملوء بالأشجار، والأعشاب والخضرة، لا يمكن أن يصدق أحد
وجودها بين الجبال. وعادة فإن السكان يعيشون في هذه المناطق الخضراء طوال فترة الزراعة
التي تمتد من الشتاء وحتى نهاية الربيع، قبل أن ينتقلوا للسواحل في فترة الصيف.
في اليوم التالي
ودعنا مسندم، بجبالها وأهلها الطيبين، ومن الطائرة الصغيرة، التي نقلتنا إلى مسقط،
كنت أتأمل الجبال التي تشكل المكان مبهورا بجمالها، وبالعلاقة المدهشة بين الطبيعة
والبشر، وكيف أن الجبال على قسوتها الظاهرة تتغلف بالرحمة والرقة، ودليلي هذه القبائل
التي عاشت قرونًا في المنطقة محتمية بالجبال، وبالرغم من ذلك فإن نفوسهم تفيض بالدماثة
والطيبة التي تميز كل من التقينا في مسندم، وفي عمان إجمالا، فهنيئا لهم ببلادهم الجميلة،
وهنيئا لبلادهم بهم.
الشحوح كما ورد
ذكرهم في كتاب إسعاف الأعيان للسيابي:
الشحوح، وهم من
لقيط بن الحارث بن مالك بن فهم وهو الملقب عند أهل عمان شح، حين شح بالصدقة في خلافة
أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبسببه كانت وقعة دبا، وهي من الوقائع الكبرى. والشحوح
هم أولاد لقيط المذكور، وهو المعروف بذي التاج، أي ادعى الملك بعمان له، وتلقب بذي
التاج.
ومنازل الشحوح
بالساحل الشمالي من عمان غير مجهولة، وهم كثيرون بالنسبة إلى جيرانهم من القبائل الأخرى،
منتشرون بتلك الأطراف من خصب إلى رأس الخيمة، إلى الجبال المعروفة بجبال الشحوح،المتصلة
بسلاسل الجبال المرتفعة باتصال إلى وادي العور وتمتد إلى البريمي.
وسمي ذا التاج
كما قلنا، لأنه ادعى الملك له عن بقية أولاد مالك بن فهم. ومنهم الشيخ العلامة الفقيه
الدراكة كعب بن سور أو ابن سوار، قاضي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في البصرة.
No comments:
Post a Comment