مشوار
في صُحبة ماجدة الجندي
كثيرا ما كانت تستوقفني واحدة من الصور
التي كانت تصحب مقالات ماجدة الجندي في صحيفة "الأهرام"، يُطلّ فيها
وجهها بابتسامة هادئة مطمئنة تمتزج بمسحة من السماحة، لكنها لا تخفي لمحة قلق
شاردة تطل من عينيها. كلما رأيت تلك الصورة استوقفتني، ربما لشعوري أن هذه الصورة
تمكّنت، بشكل ما، أن تقتنص روح ماجدة الجندي كما أعرفها. الأم التي تري في أمومتها
أولوية أولى على أي قيمة أخري؛ المتسامحة، المهمومة بما يحدث حولها بشكل يكاد يكون
مرضياً، إذ ترى في كل ما يمر بالبلد مؤثراً على مستقبل أبنائها.
حين سمعت خبر مرضها بالسرطان، هنا في
الكويت، حيث أعيش منذ سنوات، شعرت بروحي تَهْمَد فجأة كأنها تلقت صفعة مدوية، وفي
لحظات كان عقلي قد اصطخب بعشرات الصور لـ"مدام ماجدة"، كما أناديها، أو
"الأستاذة" كما أطلق عليها أحياناً أخرى، وكانت الصور تتداعي لذهني بشكل
سريع ومتعاقب وتملأ قلبي بالحزن، بالحنين، وبالافتقاد.
اللقاء الأول في مقر مجلة "الأهرام
العربي" القديم، اجتماعات القسم الثقافي الذي كانت ترأسه آنذاك، حيث تزاملتُ
مع الصديق سيد محمود ومحمد بركة وسواهما. اليوم الذي اقترحت فيه علىَّ أن أنتقل
للعمل معها في صفحة "غذاء العقول" التي أسستها في "الأهرام"،
في العام 2000 في عهد إبراهيم نافع، كصفحة كُتب أسبوعية متخصصة. اليوم الذي أعلنت لي فيه خبر تعييني في
"الأهرام"، بعد سنوات طويلة من الانتظار، حيث جاءت مهرولة إليَّ أمام
باب مقر "الأهرام العربي" القديم، في الطابق الثالث بالمبني القديم
لمؤسسة "لأهرام"، وعلى وجهها ترتسم ملامح انفعالاتها، فَرِحة وسعيدة
ومبتهجة كما لم أرها، لتحتضني وهي تخبرني بقرار التعيين، كأنها هي التي تم
تعيينها. اليوم الذي تلقيت فيه أول ترقية في "الأهرام" لأصبح أصغر رئيس
قسم مناوب في الأهرام. لحظة إعلاني لها عن قرب زواجي وتشجيعها لي، ومحبتها
لاختياري لهايدي؛ التي كانت قد عملت معنا لفترة في "الأهرام العربي".
المكالمة الهاتفية التي تلقيتها منها بينما كنت أتجول وحيداً، قلقاً ومتوتراً
وخائفا، في المستشفى، قريباً من غرفة العمليات، حيث أنتظر ولادة ابنتي الكبرى ليلى،
ولا تزال كلماتها المشجعة ترن في أذني، بل ولا زلت أذكر مكان تلقيي اتصالها، الذي
جاءني كأمل، بصوت حنون ومشجع.
نعم مرَّ شريطُ الذكريات بسرعة، فيما كانت
تتداعى لقطات عدّة لمواقف وملامح ماجدة الجندي، وبينها ملامح من أشجانها التي كانت
تحكي لي عن اسبابها أحياناً، وبعضها كان
يتعلق بشؤون عامة في البلد كانت تتابعها يومياً وهي تشعر بالأسى، وبعضها الآخر كان
يتعلق بشؤون حياتها الخاصة، وبقلقها المستمر على ابنها الأكبر "محمد"
وابنتها "ماجدة"، عبر مراحل عديدة في حياة كل منهما. كما تذكرت بكائها
المرير في أيام وفاة والدتها - رحمها الله-
وافتقادها الرهيب لها في الأيام التي أعقبت الوفاة.
كانت التداعيات تنداح على ذهني بلا توقف،
مروراً حتى بلحظات الغضب التي مرت بها إثر خلاف مع شخص أو آخر، وكثيراً ما كنت أنا سبب ذلك الغضب لأسباب مهنية عدّة، لكنها كانت مشاحنات وقتية سرعان ما تنتهي وتمر،
وسرعان ما تستعيد هي هدوءها وحنانها كأن شيئا لم يكن. وأذكر أنها في إحدى مرات
غضبها، لأسباب لم أعد أذكرها الآن، أحالتني لمدير التحرير آنذاك، الأستاذ محمد
زايد رحمه الله، الذي جلس معي قليلاً، واستمع إليَّ ثم قال لي: أنا لا أشعر بوجود
مشكلة، "روح لها بس وقل لها كلمتين حلوين والموضوع هيخلص"، وعملت بنصيحة
الرجل، واستقبلتني مدام ماجدة بفرحة أم عاد إليها ابنها العاق!
مرّ شريط الذكريات بعقلي، وشعرت بسخونة
مقلتيّ، وبحزنٍ قاتمٍ شديد يحلّ على روحي. ولم يخفف من قلقي إلا صوتها، حين جائني
على الهاتف، عابراً المسافات والزمن، وهي تحكي لي تفاصيل المرض، والظروف المأساوية
التي صاحبت وصادفت وتزامنت مع تلك الفترة، حيث كان أسامة سرايا رئيس تحرير
"الأهرام" الأسبق، قد عزلها فجأة من الإشراف على الصفحة، وبلا سابق
إنذار، ولأسباب سياسية لا يمكن وصفها في تقديري سوى بالواهية والتافهة، أما تفاصيل
الأسباب فقد أشارت إليها مدام ماجدة في مقال لها نشر قبل فترة في صحيفة
"التحرير".
كنت أعرف وقع هذا الأمر عليها، لأنها لم
تكن تعتبر "صفحة الكُتب" التي أسستها واجتهدت في أن تجعل منها واحدة من
أكثر صفحات الثقافة نجاحاً، في "الأهرام"، وربما في الصحافة المصرية،
أقول لم تكن تعتبرها مجرد صفحة تشرف عليها، بل كانت أملها في الحياة، ونافذتها على
العالم، ومكمن تحققها، وسبيلها في ممارسة متعتها في الكتابة، ويقينها في أنها
وسيلتها لنشر المعرفة إلى عقول عديدة كانت تنتظر المعرفة وتشغف بها ولا تعرف كيف تصل
إليها.
وبالرغم من استيائي من إبعادها عن الصفحة،
فلم أكن في قرارة نفسي مندهشاً، فقد كانت الثقافة في "الأهرام"، خلال
العقد الأخير على الأقل، من أضعف أقسام الصحيفة، والحائط المائل كما يقال، موضوعة
تحت أهواء قسم الإعلان، الحاكم الفعلي للمؤسسة، والذي كان يخطط تقريباً محتوى وشكل الصحيفة؛ وفقا لأهواء
المعلنين. وأصبحت المؤسسة العريقة، مثل مصر كلها، مستلبة لصالح أصحاب رأس المال
والنظام معاً، وهو نظام لم يحترم الثقافة ولا المثقفين، والشواهد أكثر من أن تُعد
في هذه المساحة على أي حال.
ومع تولي رئاسة تحرير"الأهرام" شخصاً
لا علاقة له بالثقافة، مثل أسامة سرايا، وهو الأمر الذي كان مثار تندرنا جميعا حين
كان رئيساً لتحرير مجلة "الأهرام العربي"، كان من المتوقع أن تزداد
الأمور سوءً. ولو كان هناك رئيس تحرير من قامة أساطين الصحافة المصرية في عهدها
الذهبي، لكان حرياً بهذه الصفحة؛ "غذاء العقول" أن تكبر وتتحول إلى ملحق
مهم عن الكتب.
لكن أسامة سرايا لم يكن استثناء في
الحقيقة، ومع الأسف، في الصحف القومية والمستقلة على السواء، فقد كانت الصحافة
الثقافية ضحية أشباه الصحفيين وبعض أشباه المثقفين الذين تولوا الصحافة على مدى
العقدين الأخيرين.
بقيتُ على اتصال معها خلال فترة وجودها في
الولايات المتحدة للعلاج، كلما سمحت الظروف بالاتصال. وكان صوتها في أيام العلاج
بالكيماوي يأتيني متعباً، مرهقاً، وكانت كلماتها أحيانا تخرج بطيئة وربما بصعوبة،
لكني كنت رغم ذلك أشعر بأنها ستتجاوز محنتها، وعندما تمتلك أقل قدر من الطاقة
تمكنها من الحديث سرعان ما تشرع في الكلام عن البلد واحوال البلد، وكنت أستمع إلي
صوت محمد ابنها بجوارها يلومها على الانشغال بالأخبار السيئة القادمة من مصر خوفاً
عليها.
والحقيقة أيضاً أنني حين عرفت ما بذله
محمد وماجدة أو "ماجي"، كما يطلق عليها، من أجل أمهما خلال فترة مرضها
كنت أقول لنفسي أن أمومتها الطاغية لم تذهب هدراً حقاً.
وكانت المفاجأة، لمدام ماجدة قبل غيرها،
هي ماجي، ابنتها التي كانت تتعامل معها كصديقة، لكنها في النهاية كانت دوما تراها
من منظور أمومتها هي التي تحتاج لرعايتها، لدرجة أن مدام ماجدة، في بداية مرضها،
كانت، إضافة لمفاجأتها الشخصية بطبيعة مرضها، متوترة ومحتارة في الكيفية التي يمكن
بها أن تخبرها بها عن مرضها. وإذا بتلك الفتاة الصغيرة التي كانت في مقتبل حياتها
، تكشف عن جانب من النضج وتحمل المسؤولية، مكناها ليس فقط من أن تتماسك حين علمت
بمرض الأم، بل وأن تتكيف مع حقيقة وطبيعة المرض بنضج وأمل كامل في أن الشفاء يحتاج
إلى جهد كبير لا بد من أن يبذل، وقررت أن تحمل والدتها بالمعنيين المعنوي والمادي،
وتنطلق في درب العلاج، وقرأت كل شئ عن المرض وكيفية علاجه ومراحل العلاج، لتعبر بأمها
إلى طريق الشفاء من المرض، بكل ما تملك من قوة، وسخّرت حياتها لهذا الهدف، ربما
لنحو عامين أو أكثر، حتى تكلّل مسعاها، وأمنيات كل محبي مدام ماجدة بتجاوز محنتها
المرضية .
الحقيقة أن علاقتي بمدام ماجدة علاقة
استثنائية، تبدأ ربما من حيث لا تتذكر هي، فقد كنت في بداية عملي بالصحافة أعمل
مراسلاً لمجلة اسمها "الدولية" كانت تصدر في باريس، وكنت أرسل لتلك
المجلة حوارات مع عدد من الكتاب في مصر، وكنت أحاول الوصول إلي الاستاذ جمال
الغيطاني لأجري حواراً صحفياً معه، ولم تفلح محاولاتي في الوصول إليه،وأخيراً
اتصلت بمنزله في مساء أحد الأيام، فجاءني صوت مدام ماجدة، ودوداً، بالغ اللطف،
وحكيت لها عن رغبتي في إجراء الحوار مع الأستاذ جمال، فطلبت مني أن أعيد الاتصال
بعد فترة، وكانت قد رتبت لي الموعد، وبالفعل ذهبت إليه في مكتبه في "أخبار
الأدب" بعد يوم من هذا الاتصال.
وهكذا ظلّ انطباعي عنها قبل أن أعرفها
أنها إنسانة بالغة اللطف والود، ثم تشاء الأقدار بعد أكثر من حوالي سبع سنوات على
ذلك الاتصال أن أعمل معها في "الأهرام العربي"، ثم في
"الأهرام" لاحقاً.
أقول أن العلاقة مع الأستاذة ماجدة كانت
استثنائية ليس فقط لأنها صاحبة أفضال عديدة علىَّ، ذكرت بعضها ولم أذكر أفضالاً
أخرى عديدة، بل ولأن ظروف العمل جمعت بيننا لنحو عشر سنوات تقريبا، وأتاحت لي أن
أتعرف عليها عن قرب، وأن أشاركها الكثير من تقلبات الحياة، حزناً وفرحاً وغضباً
وأملاً.
كما جمع بيننا حب الكتب، من خلال العمل
المشترك في صفحة الكتب لسنوات طويلة، وأظن أننا كنا على قدر كبير من التفاهم في
مفهوم الصفحة وهدفها، ولذلك كنت أشعر أنني أعمل بحرية مطلقة، فهي كانت تثق فيّ
بشكل شبه مطلق، وأظن أن انطلاقي من مدرسة "روزاليوسف"، حيث عملتُ في
بداية حياتي، كان جزءً مكملاً لعلاقتي بمدام ماجدة، التي كانت واحدة من رموز مؤسسة
"روزاليوسف"، ومجلة "صباح الخير"، قدّمتْ فيها تاريخاً طويلاً من العمل الصحفي
بالغ التميز، في التحقيقات الصحفية، كان كل موضوع منها بمثابة درس بليغ في الكتابة
وجمع المعلومات والتحري عن القضية موضوع التحقيق، كما تشهد أيضاً لموهبتها الكبيرة
عدة حوارات ومقابلات أجرتها مع العديد من الشخصيات العامة في مصر والعالم، سواء في
"روزاليوسف" أو في "الأهرام"، وسوف يتضمن القسم الثاني من هذا
الكتاب مجموعة الحوارات التي أجرتها مع عدد من كتاب العالم ونُشرت في صفحة
"غذاء العقول".
أظن أن هذا المشترك كان سبباً لتفاهمنا
بسرعة حول شكل الإخراج الفني لصفحة الكتب، التي أرادت مدام ماجدة أن تضع فيها
لمستها المؤسَسَة على المفاهيم الجمالية التي كانت عنواناً مميزاً لمدرسة
"روزاليوسف"، والتي شاركنا في تنفيذها الزميل المخرج الفني نبيل السجيني.
ربما كنت أختلف مع مدام ماجدة في بعض
وجهات النظر التي تختص بفلسفة الصفحة وفكرة عرض الكتب، في سياق التطور الطبيعي
للصفحة، متحيزاً لضرورة النقد أحيانا، حتى باختيار كتب لا تعجبنا لكي ننتقدها،
خشية الإفراط في مدح أفكار الآخرين دون نقدها، وتجنباً للانحراف، أحياناً، إلى
منهج يعكس الإعجاب بالكتاب، أي أن يتحول الأمر إلي الكتابة عن "الإعجاب
بالكتاب" وليس بمضمونه. لكنها كانت تؤمن بمفهوم الحق الكامل في المعرفة والتي
ينبغي أن تتاح وتقدم للقارئ، وأن تتاح له فرصة التعرف على الكتب من خلال عرض شيق
وجذاب، وكانت تعتقد أن النقد يأتي في اختيار الكتاب من البداية.
وفي كل أسبوع كنت أستمع منها لتفاصيل ما
تقرأ، أو حيرتها بين كتابين يثيران إعجابها وتشعر بالحيرة عن أيهما تكتب، تتحدث عن
شغفها بما تقرأ، وتنتقل من ذلك إلي ما يتماس مع موضوع الكتاب في واقعنا الذي كان
يصيبها بمرارة حقيقية، وكان أكثر ما يثير إحباطها أنه بالرغم من كل ما يقال ويكتب،
فإن أحدا من المسؤلين لا يكترث او يعقب او يرد أو يوضح.
أما العذاب الحقيقي، (عذابها هي لأنها
كانت تأتي مبكرا لتكتب المقال، وعذابي شخصياً لأسباب مهنية بحتة)، فكان يبدأ صباح
أيام الإثنين من كل أسبوع حين كانت الصفحة تصدر أيام الثلاثاء، ولاحقا في صباحات
الثلاثاء حين تغير موعد الصفحة وبدأت تصدر أيام الأربعاء.
فقدكانت مدام ماجدة، مثل الكثيرين من
أبناء مدرسة "روزاليوسف"، لا تكتب إلا تحت ضغط الوقت، وفي كل أسبوع كانت
تعطيني المقال الأسبوعي لها، الخاص بعرض الكتاب، قبيل ساعات قليلة من موعد
الطباعة، وهكذا كان علىَّ أن أركض إلى قسم التنفيذ لجمعه، ثم تصحيحه، والجلوس مع
المصححين للتدقيق.
وبالرغم من أن مدام ماجدة تمتلك خطاً
جميلاً، ذكياً، ورشيقاً، لكن كانت لديها مشكلة مع النقاط، إذ أنها عادة ما تخط الكلمات
ثم تنثر النقاط لاحقاً بعد كل عدة كلمات، وكان على، بسبب خبرتي التي تشكلت مع
السنين في خطها، ومعرفتي بذهنيتها الكتابية والكلمات الشائعة التي تستخدمها وتنسج
بها أسلوبها الخاص، أن أفك بعض الطلاسم وأن أضع النقاط فوق الحروف للمصححين.
حينما أعدت قراءة صفحات "غذاء
العقول" من أجل إعداد هذا الكتاب، استعدت عمراً من سنوات المهنة، وسنوات صحبة
مدام ماجدة، الإنسانة، والصديقة، والرئيسة المباشرة ، والأم، بل والابنة أحياناً.
كما استعدت، مع كل صفحة تقريباً، ذكريات اختيارها للكتاب، وكلامها عنه، ثم تفاصيل
تنفيذ الصفحة في قسم المونتاج في "الأهرام" بصحبة المنفذين، وبينهم،
الأستاذ على الفار؛ أو "عم علىّ" كما أناديه، رئيس القسم الفني الذي كان
يتولى إخراج الصفحة وتنفيذها لنا بمحبة.
غاية القول أنني استمتعت كثيراً بإعادة
قراءة هذه المقالات، واكتشفت أنني تحت ضغط القراءة في أثناء أيام العمل كانت
تفوتني لمحات جمالية عديدة، بل وإشارات في غاية الذكاء والأهمية فيما تتناوله من
مضامين.
أما المقدمات الاستثنائية التي كانت تميز
كل موضوع فهذه كانت من الصعب أن تنسي أيا كان وقت قراءتها. فقد كنت استمتع كثيراً
ببراعتها في كتابة مقدمات موضوعاتها.
وثائق مهمة ونواقيس إنذار
إن أهمية هذه المقالات في الحقيقة، لا
تتوقف عند كونها تقدم دليلاً مهماً، ومرجعاً أساسياً لعشرات من أهم ما صدر في
اللغة العربية من كتب، وبعض الكتب الأجنبية، الفرنسية على نحو خاص، خلال العقد
الماضي، التي ينبغي قراءتها لكل من يهتم بالمعرفة. بل تتعدى ذلك لكونها تبدو اليوم
كوثائق بالغة الأهمية على رصد تفاصيل الانهيار الذي تعرضت له مصر على مدى العقود
الثلاثة الأخيرة حتى سقطت أخيراً في يد الإخوان لتعيش أكثر سنواتها هوانا في القرن
الأخير.
انا مع الاستاذة ماجدة الجندي في حفل توقيع كتابها "كما تدور عجلة الفخار |
كنتُ كثيرا ما أشعر أن كتباً عديدة بدت كل منها
كأنها نواقيس إنذار تقرع تحذيراً من انهيار شامل مقبل، ويعدد مظاهر أسباب هذا
التداعي والانهيار، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتعليمياً وأخلاقياً وثقافياً.
لكن كيف لإدارة جاهلة تحتقر الثقافة أن تقرأ أو ترى أو تسمع شيئاً، وإن رأت فقد
اختارت أن تتغاضى عمّا يقال ويكتب، وأن تريح نفسها، متخلية عن مسؤولية جسيمة في
نهضة بلد كبير مثل مصر، بتوزيع كل ملفات
الدولة إلى إدارة وزارة الداخلية، كحال كل النظم الشمولية الديكتاتورية الفاشية
والفاشلة، التي كانت تتداعى وتنهار داخلياً لأسباب عديدة، أولها اتساع مهامها بما
يفوق طاقتها، ولتغير فلسفتها بما استدعى تغيرا في مهامها من حفظ أمن العباد إلى
حفظ أمن النظام، وهو فارق شاسع، وأيضا من فرط الفساد وقلة الكفاءة، كحال كل مصر
تقريباً إذ أسبغ النظام سمته على البلد.
في كل مقالة مما أعدت قراءته هنا لإعداد هذا الكتاب كنت أكتشف ذكاء
ماجدة الجندي في اختيار الكتاب، وفي
التقاط أهم إحالاته على الواقع الراهن، وخصوصا تلك الكتب التي انشغلت بتفسير مظاهر
ما كنا نعيشه من فساد وشيخوخة إدارية للوطن في عهد مبارك، بالشكل الذي جعلني أرى
رصدا أمينا ودقيقا‘ على مدى العقد الأخير كاملا، لكل مظاهر مبررات سقوط الدولة
وانهيار المجتمع التي كانت تلوح ظاهرة للعيان، ولكل ذي بصر وبصيرة.
وبعضها كانت تبدو لي اختيارات ذكية، من كتب
التاريخ التي تسقط ما كان فاحشاً في الماضي لكنه يذكرنا بما يجري يوميا في مصر
خصوصا ما يتعلق بسوء الإدارة، ومظاهر الشمولية والديكتاتورية والفساد. بل إنني
أستطيع القول بضمير مطمئن أن مبررات قيام الثورة المصرية، وما تجلى بعدها من
انفلات أخلاقي وسياسي، ومن كل مظاهر العبث، لاحت لي مع كثير من العروض التي كتبت
عنها ماجدة الجندي، محذرة وكاشفة ومعقبة بقولها :"اللهم قد بلغت ..اللهم
فاشهد".
وبعض الكتب التي اختارتها حقا كانت تثير
الألم، والشعور بالغبن والقهر، خصوصا مثلا حين تتناول كتابا يكشف شيئا من مؤامرات
الغرب باتجاه عالمنا فقير الوعي والثروة. أما العديد منها فكان حقا يبدو لي بمثابة
غزل متأن وحقيقي من امرأة واعية لنسيج متين وجميل بمعنى أن تكون مصرياً. كأنها
كانت تراكم هذا الإحساس ليدرك من يقرأ من المصريين عمق وأصالة ومدى حضارة ما ينتمي
إليه.
ولعل ما يلفت الانتباه في كثير من تلك
الاختيارات هو الهمّ الكبير الذي أولته ماجدة الجندي في اختياراتها للكتب التي
تتأمل أحوال الفقر والفقراء في مصر، وأسباب فقرهم، والبحث عن سبل انتشالهم من هذه
الظروف البائسة التي تُسأل عنها إدارة حكومية فاشلة على كل المستويات. لكن ما لفت
انتباهي أيضا أن الكثير مما تناولته الاستاذة في هذه القراءات لم يكن يسلط الضوء
على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية فقط، بل ويقدم حلولاً أيضاً، بمعني أنه في
ثنايا الكثير من هذه الكتب ما يمكن أن يقدم "روشتة" للتنمية والنهضة
الحقيقية لمن يرغب حقاً في التفكير وفي تحقيق المستقبل الأمثل الذي تستحقه مصر.
طبعا اهتمامات ماجدة الجندي تنوعت، أيضاً،
بين السياسة والاجتماع والأدب والاقتصاد والفنون، بل وحتى المطبخ والتراث الشعبي،
ليس فقط لإيمانها بأن الصفحة تتوجه لجمهور من القراء العاديين من حقهم أن يتعرفوا
على كل ألوان الكتب، لكنها أيضا كانت تعبر عن ذوق شخصي رفيع، ومعرفة عميقة بفكرة
الهوية والوطنية، والاعتزاز برموز العمل الوطني على مدي تاريخ مصر، ومعرفة عميقة
بالمزيج الخصب لتراث مصر الممتد من عصر الفراعنة إلي اليوم، بكل ما مر عليها من
حقب وحضارات.
كما تدور عجلة الفخار
في عرضها للأعمال الكاملة للباحث الراحل
الدكتور سيد عويس أشارت، من بين ما تشير إليه، إلى اهتمام سيد عويس بمقولات الحكيم
المصري "إيبور"، الذي اتخذه عالم الاجتماع المتفرد نبراسا له، وفي إحدى
كتبه يلتقط من مقولاته التي كتبها إيبور قبل نحو أربعة آلاف عام ما يلي: "لما تدور الدنيا كما
تدور عجلة الفخار! فاللص الآن هو صاحب
الثروة، لماذا أطلقت الخادمات ألسنتهن، وعندما تتكلم السيدة يثقل ذلك الخدم؟!
حقاً، لماذا أصبحت الطريق غير محروسة؟
انظر الآن! لقد وصل بنا الأمر إلى الحد الذي جعل عدداً قليلاً من غير
المسئولين يحرمون البلاد من الملكية، انظر فإن أصحاب الحِرَف لا يقومون بأي عمل قط
وأعداء البلاد يفقدونها حرمتها".
وقد لفتت انتباهي مقولة إيبور الحكيم،
لأنني لاحظت أن الكثير مما كتبته ماجدة الجندي من عروض الكتب كانت تفعل شيئا يشبه
في جوهره ما أراد أن يقوله إيبور. بمعنى أنها كانت تختار كتبا قديمة، وأحيانا
معاصرة لكنها تخص ثقافات أخرى، أو أزمانا أخرى، لكنها تلتقط منها ما يحيل على
الواقع المصري الذي عاصرته خلال كتابة تلك العروض خلال العقد الأخير من حكم مبارك،
وقد كانت مقولة الحكيم المصري "إيبور"، في ظنّي، من بين تلك الالتفاتات
المهمة، ومن هنا استوحيت عنوان هذا الكتاب "كما تدور عجلة الفخار". الذي
أتمنى أن أكون وفقت في اختياره ليليق بالفعل بهذه النصوص.
قبل أن أدعو القارئ الي الاستمتاع بهذه
القراءات الذكية لهذا العدد من الكتب المهمة في مختلف فروع المعرفة أنوه أنني،
لظروف المساحة وعدد صفحات الكتاب، اكتفيت بعدد محدود من عروض الكتب مما كتبته
ماجدة الجندي ونشر في "غذاء العقول" على مدى الفترة بين عامي 2000 وحتى
2009 ، واضطررت لحذف بعض العروض التي تكررت موضوعاتها، كما اضطررت أيضاً، تحت ضغط
المساحة، لاستبعاد بعض العروض الخاصة بالكتب الأدبية، أو بالدوريات، حيث استعرضت
الأستاذة ماجدة بعض الملفات المهمة التي نشرت في دوريات مثل "أحوال
مصرية" وبينها ملف بالغ الأهمية عن الهجرة المصرية، وكذلك أعدادا من مجلة
"أمكنة" وبعض ما تناولته "وجهات نظر" في الملف الاقتصادي.
استبعدت ايضاً، آسفاً ومضطراً وبعد أن كنت
راجعتها بالكامل عروض بعض الكتب التي اختارتها لتكتب عنها في مناسبات خاصة، إضافة
إلى رسائلها في معارض فرانكفورت للكتاب وصالون باريس بالرغم، من أهمية ما تقدمه
تلك الرسائل من نماذج احترافية في المتابعة الصحفية، ودروساً في كيفية توظيف
الثقافة الشخصية في التقاط أهم ما يحدث في مثل تلك الفعاليات الثقافية الدولية
المهمة، وذلك لأنني آثرت أن يكون لهذا الكتاب منطقاً متجانسا إلى حد ما، للحفاظ
على طابعه ككتاب مختص بقراءة وعرض الكتب.
وللأسف لم تتح المساحة المتاحة الفرصة
لوجود كافة العروض التي كنت أتمنى وجودها، لكن عزائي أهمية العروض التي تم
اختيارها في النهاية لتمثل متن الكتاب، وآمل أن تكون الموضوعات المستبعدة محلا
لكتاب آخر بإذن الله.
وفضلت أن أضيف في القسم الثاني من الكتاب
مجموعة من الحوارات المهمة التي أجرتها الاستاذة مع عدد من أبرز كتاب العالم،
وبينهم مثلاًجونتر جراس، أمبرتو إيكو، أندريه ماكين، جون لاكتير، رشدي سعيد ومحمد
حسنين هيكل وسواهم.
في الأخير لا يفوتني الإشارة إلى الشكر
الواجب للدكتورة "فاطمة البودي"؛ التي تحمست لفكرة نشر هذا الكتاب حتى
قبل أن أنهي جملتي وانا أقدم لها الاقتراح، إذ قاطعتني وهي تردد بحماس :"فوراً.. فوراً يا ابراهيم..
وهدية من الدار"، فشكراً جزيلاً لهذه السيدة النبيلة، التي تقدم من خلال "دار
العين للنشر" مهمة ثقافية نبيلة حقاً في عصرٍ أصبح فيه الكثير من الناشرين
يضعون الأولوية للأرباح على حساب الفكرة الثقافية نفسها.
كما أشكر الصديق الفنان "أحمد
حجازي"، المخرج الفني لمجلة "البيت"، الذي ساعدني في تولي مهمة جمع
أرشيف ماجدة الجندي في "الأهرام" وإرساله لي في الكويت، ثم توليه
الإشراف على جمع مادة الكتاب كاملة بحماس ومحبة.
أخيراً.. يا مدام ماجدة.. أرجو منك أن
تقبلي هديتي هذه، ليس نيابة عني فقط، بل وعن كثير من محبيك، تعبيراً عن تقديري
وحبي لشخصك، وامتناني الكبير لواحدة من أكثر الشخصيات تأثيراً في حياتي، وأنا أعرف
أنك كذلك بالنسبة لكثيرين آخرين..
إبراهيم فرغلي
مقدمتي لكتاب ماجدة الجندي "كما تدور عجلة الفخار" الصادر عن دار العين
No comments:
Post a Comment