"حكاية جينجي" بالعربية.. تغير مستقرات تاريخ
الرواية
عمل ملحمي كتب قبل ألف عام على يد كاتبة يابانية
إبراهيم
فرغلي
حتى أيام قليلة،
كنت لا أزال على قناعة، وفقا للمتفق عليه، أن رواية الإسباني الأشهر ميجيل دي
سرفانتس، المعروفة باسم دون كيخوته دي لا مانشا، تعد العمل الروائي الأول الذي
تأسست عليه مفاهيم وأسس الرواية الغربية كما نعرفها اليوم، وكما استلهمناها نحن
وأضفنا عليها بتراثنا ولغتنا. بالرغم من أنها تنتمي قطعا إلى نوع خاص من الأدب عرف
باسم روايات الفرسان والمغامرات.
لكني الآن بعد أن
قرأت ما يقرب من ثلثي الجزء الأول من عمل ضخم، مبهر، تحت عنوان "حكاية
جينجي"، الصادر عن "هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث" – المجمع
الثقافي، وجدتني مضطرا لمراجعة ما أعرفه عن تاريخ الرواية، لأن هذا النص الذي تمت
ترجمته أخيرا إلى العربية على يد المترجم القدير كامل يوسف حسين في مجلدين من ألفي
صفحة، يعود تاريخ كتابته إلى عام 1000 ميلادي تقريبا، أي أن عمره يتجاوز الألف
عام، ويسبق روايات الفروسية بما يقرب من نصف قرن على الأقل.
أما المفاجأة
الثانية التي يقدمها هذا النص أن كاتبته امرأة تدعى موراساكي شيكيبو، ولدت عام 973م،
فيما توفيت وفق أغلب الترجيحات بين العام 1014، أو 1025، وفقا لبعض المصادر. وهو
ما يجعل الكثير من النقاد، ووفقا لما أورده المترجم في مقدمته للنص، يعتبرون هذا
العمل ليس فقط أول رواية في تاريخ الأدب الحديث، بل وأول نص أنثوي كذلك. اكتشف أو
ظهر بين عامي 1006 و1008 وبعض المصادر تشير أن كتابته استغرقت عقدا كاملا.
والمدهش أيضا أن
هذا النص يكشف كيف أن هذه السيدة بالنسبة للأدب الياباني تعد مثل شكسبير في الأدب
البريطاني، أو كما يقول كامل يوسف حسين "كانت مؤلفتها امرأة يعد عملها في
الأدب والثقافة اليابانيين في مصاف الملاحم الهوميروسية، وأعمال شكسبير، ورائعة
بروست "البحث عن الزمن المفقود"، في بلاد أخرى، وفي غضون عقود قلائل من
إكمالها في أوائل القرن الحادي عشر نظر إليه على أنها عمل كلاسيكي وتعددت الكتابات
عنها على مر القرون".
وقد ترجمت ترجمات
كاملة من الأصل إلى الألمانية والفرنسية والروسية والصينية والكورية، وحاليا يجري
ترجمتها للتشيكية والإيطالية والفنلندية، إضافة إلى الترجمة الإنجليزية التي ترجمت
عنها هذه الترجمة البديعة للغة العربية.
حين قرأت مقدمة
كامل يوسف حسين ثم مقدمة المترجم الذي نقلها للإنجليزية رويال تايلر، كنت أتوقع
نصا ذا لغة عتيقة، قريبة من نصوص بعض السرديات والملاحم الآسيوية القديمة، لكن
المفاجأة تمثلت في وضوح اللغة وانسيالها، من جهة، وفي القدرة المبهرة للكاتبة على
تناول عدد كبير من الشخصيات ورسمها ببراعة وخصوصية تعبر عن موهبة قوية حقا، من جهة
أخرى، خصوصا وأن الحوارات التي تدور بين أبطال العمل تعبر عن القدرة على إظهار روح
المرح والذكاء في الحوارات الطويلة التي تشكل جانبا كبيرا من جسد هذا العمل.
ولدت موراساكي
شيكيبو كما أسلفت في عام 973م ابنة للارستقراطية الوسطية التي أمدت اليابان بحكام
الأقاليم، وتنتمي إلى عائلة فوجيوارا الممتدة، وفي بعض الفروع الأخرى ذات القوة
الفائقة، ولكن اسمها الأول لم يقدر له أن يسجل.
وفي تتبعي لسيرة
المؤلفة على الإنترنت تبين لي أن تلك الفترة من التاريخ الياباني لم يكن من الشائع
ان يذكر اسم السيدات، وبالتالي فوفقا لما يشير المترجم كامل يوسف حسين أن هذا
الاسم هو لقب حيث يشير "شيكيبو" إلى منصب شغله والدها وهو مدير
الاحتفالات في البلاط (يوجد في النص بين أشخاص العمل في بداية الفصل الأول أحد من
يشغلون هذا المنصب)، بينما موراساكي هو اسم البطلة التي أبدعها خيالها لواحدة من
حكاياتها.
عمل والد الكاتبة
حاكما لعدد من المقاطعات اليابانية. وفي حوالي العام 1006 استدعيت موراساكي لخدمة
الإمبراطورة أكيكو (أوشوسي)، عقب وفاة زوجها، ويبدو ان استدعائها كان له علاقة
بموهبتها في الكتابة. وعلى موقع ويكيبديا؛ "الموسوعة الشعبية الالكترونية"؛
معلومة تقول أنها ربما تكون "فوجيوارا تاكاكو" التي ذكر اسمها في مصادر
تاريخية كامرأة في بلاط القصر في العام 1007.
ويشار في بعض
المصادر أن الهدف من كتابة هذا النص كان تسلية السيدات والنساء في البلاط الملكي.
جينجي، بطل
الحكاية، هو ابن إمبراطور من إحدى المحظيات، التي فقدت أباها، ومن ثم لم يكن لها
أي دعم يتجاوز إخلاص الإمبراطور الشخصي، وهو ما لم يكن كافيا وفقا للتقاليد
الإمبراطورية خصوصا وقد كان للإمبراطور ابنا من زوجته الرسمية، وبالتالي يقوم الأب
بإبعاد جينجي عن العائلة الامبراطورية ومنحه اسم عائلة بحيث يمكنه أن يخدم البلاد
باعتباره من العامة من جهة، وبحسبانه مسؤولا حكوميا رفيعا من جهة أخرى.
وصحيح أن هذا
الفتى، الوسيم بدرجة تفوق الوصف، الذي يتولى المناصب الرفيعة لاحقا في البلاط، يجسد مركز الحكاية، لكن تأمل النص يكشف أن
"حكاية جينجي" تدور أولا وأخيرا حول النساء، كما يشير كامل حسين، وكما
يتجلى بالفعل في سطور النص، بحيث يبدو وجود جينجي رغم أهميته ومركزيته تكأة للتعرف
على مشاعر النساء وطرق تفكيرهن، ووضع المرأة في البلاط في تلك الحقبة .
ومن اللافت حقا كيف
كان النص يستخدم بعض العبارات أو الكلمات التي يبدو أنها كانت تراعي الوضع
الأخلاقي للمجتمع الهاييني، من مثل قول الكاتبة أن جينجي رأى امرأة يحبها في ظلام
الغرفة، وهي هنا كناية عن أنه مارس معها الحب. ويبدو ان الكاتبة كانت كثيرا ما
تستخدم كلمة "رأى" للتعبير الإيروتيكي عن الممارسة الحسية.
أيضا كنت، في
أثناء القراءة، أحاول اختبار مدى أصالة سمات بعض الكتابات اليابانية المعاصرة،
وخاصة ياسوناري كاواباتا، التي تتعلق بارتباط أبطال العمل، والإنسان عامة
بالطبيعة، أو بإظهار تلك الوحدة الباطنية بين روح الإنسان وروح الطبيعة، وبالرغم
من أن أغلب وقائع العمل تدور في الغرف المغلقة وباحات القصور الملكية، لكني تبينت
في النص، في عدد من المشاهد التي تدور خارج البلاط نفس هذه السمة، ومن بينها مثلا
ما سوف أقتطف هنا من الفصل العاشر ص337: "ما إن مضى عبر الامتداد الهائل
للسبخة حتى غلبته الكآبة، كانت زهور الخريف تحتضر، وبين أجمات نبات السُعادي
الذاوي كان صرير الحشرات خفيضا ومحدودا. وخلال تنهد الريح الحزين وسط اشجار
الصنوبر، تناهت إلى سمعه في بعض الأوقات أصوات آلات موسيقية، وذلك على الرغم من
أنها كانت خافتة للغاية" .
وهناك العديد من
مثل هذه الفقرات، تماثلها كذلك الفقرات التي تصف تردد الأبطال على المعابد، ووصف
الطقوس والأفكار الروحية. ولكن ما يمكن تأمله أكثر بكثير، بطبيعة الحال، هو العديد
من العادات والتقاليد، وطقوس الحياة اليومية لليابانيين في تلك المرحلة التاريخية.
فيما يتعلق
بتاريخ هذا النص يوضح كامل يوسف حين أنه لم يقدر لأي مخطوطة للحكاية من أي وقت
قريب من عصر موراساكي شيكيبو البقاء، وأقدم شذرات نصية معروفة تظهر في "جينجي
مونوجاتري إيماكي"، وهي مجموعة غير كاملة من النصوص الإيضاحية العائدة لأواخر
القرن الثاني عشر. وبحلول القرن الثالث عشر تعرض النص للتحريف بعد أن نسخ مرارا،
وانطلق باحثان بصورة مستقلة لإعادته إلى أصله، كان أحدهما هو مينا موتو نو
ميتسويوكي (ت 1244)، واستكمل عمله ابنه تشيكايوكي في عام 1255. إضافة إلى محاولة أخرى
لتجميع النص على يد الشاعر والأديب الكبير في اليابان فوجيوارانوتيكا (1162- 1241)
جرت في نفس الفترة وقد كتب تيكا في يومياته يقول أن نسخته اختفت في تسعينات القرن
الثاني عشر واضطر الى البدء في تجميع نسخ أخرى وقارنتها ببعضها البعض واكتمل ذلك
في العام 1225. وهو المرجع الذي تعود إليه ميع الطبعات الحديثة للرواية.
ولا بد من
الإشارة إلى أن المترجم كامل يوسف حسين في الحقيقة يوفر في تقديمه للترجمة نصا
نقديا ومعلوماتيا ومعرفيا غاية في الأهمية، لأنه يقدم فيه، إضافة لملخص الفكرة،
وتاريخ جمعها، وتنقيحها، وأبطالها وكاتبتها، صورة عامة عن طبيعة العلوم والمعرفة
والقراءة في ذلك العصر، والموقف الفكري من الأدب مقارنة بالفلسفة والفكر والعلوم
في ذلك الوقت، ودور النساء في القراءة، وغيرها من التفاصيل الدقيقة عن تقدير زمن
نص العمل، ولغته. كماأنه على امتداد الفصول الأربعة وخمسين التي تمثل متن الحكايات
لا يتوقف عن الإشارات والتعريفات المذيلة في الهوامش، توضيحا لمعنى مصطلح، أو طقس،
أو اسم أو مكانة اجتماعية، أو معلومة تاريخية.
والمؤكد أن أي
عرض لهذا السفر الضخم الممتع، لا يمكن أن يغني عن القراءة. قراءة نص عن ثقافة
ينبغي لنا حقا أن نتعرف إليها، لأن ما نراه اليوم من نهضة، له أصول وجذور وتراث
قديم، ربما يكون في هذا النص المثير مما يمكنا من التعرف على جانب من هذا التراث.
كامل يوسف حسين
أخيرا أقول
بأمانة أنني حين اسمع عن جوائز ترجمة هنا وهناك، وتكريمات للمترجمين، ولا أجد اسم
الراهب في محراب ترجمة الأدب اليابني المعاصر كامل يوسف حسين يصيبني الإحباط ولن
أقول الكدر. فهذا الرجل المخلص الذي قدم للمكتبة العربية عددا كبيرا من أسماء
الكتاب اليابانيين، ومثله نصوصا فاتنة اختارها بعناية، وبعين بصير خبير، يستحق منا
بعد أن نحييه بقراءة هذا العمل الضخم الفاتن أن يكرم ويقدر بما يليق بجهده
ومكانته.
No comments:
Post a Comment