رحيل الطيب صالح..أسطورة الغائب
الحاضر بامتياز
إبراهيم فرغلي
ترددت طويل قبل قراءة "موسم
الهجرة إلى الشمال" قبل سنوات طويلة، كعادتي كلما سمعت عن عمل أدبي جماهيري،
أو متفق عليه. لكن النص الفريد تمكن من إسكات أصوات ارتيابي وترددي، بل، ومع
استغراقي في النص، بدا فاتنا، قادرا على إغوائي لمنطقه، كنص، يمتلك لونا من
التجريبية، تتراوح بين مستويات سرد خطابية وصفية، وشفاهية، وثالثة تتناول
المونولوج الداخلي للشخصية، له نبرة خاصة، والأهم من ذلك كله، أنه نص مكتوب بحرية
كاملة.
هذا الحس بالحرية لم يتعلق
بالتعبير عن المواقف الحسية بين مصطفى سعيد وعشيقته فقط، وإنما تعدى ذلك للتجريبية
في النص، مما جعله يعبر عن موضوع الصدام الحضاري الدامي بين ثقافتين تتهم كل منهما
الأخرى ولا زالت في صوغ فني لا يعدم الدقة ولا الإيقاع الموتر، والمتأمل في أحيان
أخرى مقدما نموذجا لنص رفيع المستوى.
بينما ظل البطل وعشيقته يعيشان في
خيالي طويلا كنموذج لذلك التناقض المرعب الذي يصوغ علاقة شديدة التعقيد عمادها
(الحب –الكراهية- الانتقام). وكذلك مشاهد القرية السودانية والتفاصيل، التي كان
يحفرها بدقة شديدة، وهي سمة في أعماله عموما، كاشفا نسيجا مجتمعيا معقدا وبسيطا
وأصيلا في آن.
ولعل هذا الحس بالحرية هو الذي
اعطى للرواية ثقلها مقارنة بأعمال أخرى سبقت في تناول الموضوع ذاته وعلاقة المثقف
العربي بالغرب، وبينها مثلا عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، لكنها بالتأكيد كانت
مختلفة في تلك النبرة المتحررة التي تضمنها نص الطيب صالح باقتدار.
ثم قرأت عمله البديع عرس الزين
فتأكد إحساسي بأني إزاء كاتب متمكن، من أولئك الكتاب الذين يبحث الفرد عن أعمالهم
جميعا.
لكنه كان مقترا في إنتاجه، إذ لم
ينتج سوى خمسة أعمال، صنع بها اسطورته الخاصة، وهذا واحد من أبرز سمات الطيب صالح
حين تتأمله. فقد استطاع أن يظل حاضرا في المشهد الثقافي والأدبي العربي بقوة، على
رغم قلة إنتاجه، كما استطاعت روايته أن تستقطب اهتمام القراء من جيل لاخر، كأنها
كلما مر بها الزمن كلما تبين قارؤها ظلا أو طيفا كان غائبا من قبل.
ومثلما كان مقلا في إنتاجه كان
مقلا في الظهور الإعلامي، أو في إجراء المقابلات الصحافية، وأذكر انني في إحدى
المناسبات الثقافية في القاهرة اوائل التسعينات حاولت التسلل إلى غرفة فندقه بعدما
حاولت الاتصال به طويلا بلا جدوى، لإجراء حوار صحفي. لكنه رفض ذلك بشكل قاطع، لم
يخل من المودة التي حاول بها تلطيف حسمه، مؤكدا أنه ليس لديه ما يقوله. وتلك
مفارقة لافتة اخرى، فبالرغم من إصراره التام على عدم الظهور في المشهد الإعلامي،
وعزوفه ونأيه عن الأضواء، فقد ظل مكانه في الوسط الأدبي، ممتلأ، وحضوره، بالمكانة
والصيت، قويا بدرجة لا يمكن تجاهلها.
عندما تلقى جائزة ملتقى الرواية
العربية في القاهرة لم يعدم جمهورا عريضا من الكتاب والقراء معا، ممن تحمسوا
لحصوله على الجائزة، لكن قبوله لها إثر رفض صنع الله ابراهيم للجائزة نفسها في
الدورة الأسبق، وبسبب تعليقاته السلبية الضمنية لموقف صنع الله، إثر إعلان فوزه
بها اصاب عدد كبير من المثقفين المنحازين لموقف صنع الله بنوع من الفتور. لكن ذلك
لم يحرك مكانته ككاتب كبير، أو يقلل من قدره لديهم كروائي من طراز رفيع كثيرا، فقد
كان ذلك مما لا يختلف عليه.
بالرغم من اتهامه المستمر بالتكاسل، وتوقف
مشروعه الإبداعي أو نضوبه. ولعل هذا على نحو خاص أحد ابرز مميزاته؛ لأنه استطاع أن
يظل في قلب المشهد الأدبي، دائما رغم كل ذلك.
قبل أسابيع قليلة أعلنت جهات
سودانية عديدة عن ترشيحه لجائزة نوبل،
لكنها من جهة أخرى، قدمت بذلك دليلا ساطعا على عمق الأثر الذي رسخه الطيب صالح،
وتأكيده أن مشروع الكاتب ليس مشروعا كميا، بقدر ما هو مشروعا فنيا، يتضمن ما يرغب
أن يعبر عنه، مخلصا، وإلا فليتوقف.
لكن ما يثير الدهشة بالفعل هو
طغيان حضوره للدرجة التي لم يتمكن معها اي صوت روائي سوداني آخر ان يبرز من بعده،
بالرغم من أن روايته الذائعة الصيت يعود نشرها لأول مرة للعام 1966. هل كانت
موهبته استثنائية لتلك الدرجة؟ ام أن المناخ السوداني لم يستطع إفراز موهبة نظيرة؟
لا يقين لدي في هذا الصدد، لكن إذا
كان إحساسي بالحرية في كتابة النص أحد ما لفت انتباهي مبكرا في قراءة هذا العمل
فإنه من الممكن فهم الأمر في سياق تعرض "موسم الهجرة إلى الشمال" للمصادرة
من قبل السلطات السودانية، لكن المفارقة أن ذلك القرار أتخذ بعد ما يزيد عن نحو
ثلاثين عاما على صدورها. وبغض النظر عن الدوافع والظروف، فقد كان موقفا مريبا، أو
على الأقل تاخر كثيرا، فقد نشرت الرواية وترجنمت واثرت في اجيال عديدة، ليس من
القراء فقط، بل ومن الكتاب ممن تناولوا الموضوع ذاته لاحقا من رؤى مغايرة عدة.
لكنه ربما أحد المؤشرات على المناخ الرقابي الذي قد يكون سببا من اسباب تعطل
الحركة الأدبية السودانية.
إستطاع الطيب صالح ان يقدم في
اعماله القليلة تلك صورا دقيقة للقرية السودانية، والتراث الشعبي، وأدوات الزينة
للمرأة السودانية، ونماذج من الشعر الشعبي السوداني، والتقاليد الاجتماعية،
باختصار قدم ذاكرة مكان عابرا الزمن، باقتدار، كما تمكن من أن يقدم للأجيال العربية
من الكتاب نموذجا للكاتب الحقيقي الذي لا تستهويه الدعائية، ولا وهج الأضواء، وان
يقدم لتاريخ الرواية نماذج رفيعة من النصوص التي يتزين بها تاريخ السرد العربي
المعاصر، وفي كل ذلك ما يعزينا في الكاتب الراحل الكبير، الذي تمثل وفاته خسارة
جسدية لمحبيه، وإرثا لا يستهان به للأدب والثقافة العربيين.
No comments:
Post a Comment