مصر جديدة بلا تمييز
المقال نشر بالألمانية في الصحيفة السويسرية الصادرة في زيورخ
- NZZ
إبراهيم فرغلي
أين نحن؟ بالتأكيد امتطينا آلة زمن وعدنا لعدة قرون مضت، إذ لا يعقل أن تنتمي المشاهد التي نراها ونسمع عنها اليوم الى القرن الحادي والعشرين. مواطن قبطي مصري تقطع أذنه على يد مجموعة من المجرمين، بعيدا عن كونهم مسلمين أو ايا كانت ديانتهم، ومجموعة من السلفيين يقومون بهدم كنيسة. ثم في مشهد يعود للقرون الوسطى بامتياز، نرى ملتحيا تعبر سحنات وجهه عن زمن غابر بعيد، يقسم أنه وأتباعه لن يكونوا رجالا إذا لم يدخلوا الأديرة والكنائس بحثا عن "أختهم" المسلمة التي يدعون أنها أجبرت على التنصر وأودعت في إحدى الكنائس.
فما الذي يحدث هنا بالضبط؟ ولماذا اندلعت هذه الأعمال الدرامية بعد اندلاع الثورة المصرية الأهم في التاريخ المعاصر؟
بداية ينبغي ملاحظة أن كلا الجانبين سواء كانوا السلفيين، أوالأقباط الذين ردوا على العنف بمثله، كلاهما لم يكونا من أنصار ثورة 25 يناير في مصر، فقد امتنع السلف والإخوان المسلمين عن التظاهر واصدروا فتوى بمنع التظاهر بدعوى تحريم الخروج على الحاكم، وكذلك فعلت الكنيسة المصرية التي ناشدت رعاياها بعدم الخروج للتظاهر في يوم 25 يناير. وهذه دلالة مهمة على التضامن – السياسي- بين المؤسسات الدينية ومؤسسة الحكم في مصر.
والواضح، أن هناك قوى داخلية من أنصار النظام المخلوع ممن يحرضون على إشاعة الفوضى والإبقاء على مظاهر الفساد التي وسمت تلك الفترة. وبعضها أطراف خارجية محافظة كانت ترى في مبارك نظاما يخدم تلك النظمة بتحييد دور مصر وتضعيف مكانتها لصالحهم في المنطقة.
والأخطر من هذا كله هو التعامل الأمني مع ملف العنف الطائفي حيث أن أغلب الأحداث تنتهي – تحت ضغط الأمن- بالتصالح بين الأطراف، (تشير إحصاءات إلى 52 واقعة عنف طائفي العام الماضي انتهت جميعا بالتصالح) ولم يحاكم حتى اليوم اي ممن اقترف هذه الجرائم. وهذا سبب آخر من اسباب الاحتقان المستمر بين الطرفين على مدى العقود الثلاثة الماضية.
السؤال المهم الآن هو لماذا يكون الموضوع الطائفي سهلا في التخطيط لتحقيق سيناريوهات الفوضى في مصر؟ اذكر انني قبل ان أشرع في كتابة رواية "إبتسامات القديسين"، وموضوعها عن الأقباط والمسلمين في مصر، كنت أسأل المقربين مني عن آرائهم في العلاقة بين المسيحيين والمسلمين كموضوع لرواية وكانت أغلب الإجابات أن الموضوع لا يستحق وأن العلاقات طيبة بين الجانبين.
لم أقتنع لأنني كنت أرى مشاهد التمييز في كل مكان، وبينها تعليقات أصدقاء من المسلمين عن أصدقاء آخرين من المسيحيين، واستبعاد الكثير من فتيات صديقات مسلمات كن يرفضن فكرة الوقوع في غرام مسيحي مصري دون تفكير بأن المسيحي المصري أقرب إليهن في السلوك والثقافة من أي مسلم من السعودية أو باكستان مثلا. أو أن يرفض صديق مسلم أن يأكل قطعة شيكولاتة منحتنا اياها راهبة في كنيسة حين ذهبنا لتغطية موضوع صحفي عن منطقة حي الزبالين في القاهرة إثر سقوط صخرة على مساكنهم. فلا يمكن إنكار أن هناك تمييزا في حقوق المواطنة لصالح المسلمين على حساب الاقباط في مصر؛ بداية من المادة الثانية في الدستور المصري التي تنص على ان الإسلام دين الدولة وأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع، مرورا بقانون بناء دور العبادة الذي يضع عراقيل أمام بناء الكنائس في مقابل بناء المساجد، إضافة إلى التمييز الإعلامي. مع قائمة طويلة من الأسباب وبينها تدني مستوى التعليم وزيادة معدلات الفقر وانخفاض الوعي بسبب مستوى الإعلام الرديء والانغلاق على الذات، مما ساهم في ترسيخ مفهوم (نحن – هم) في حديث الجماعة القبطية عن المسلمين أو العكس على حساب مفهوم المواطنة القائم على مرادفة "نحن جميعا مصريين".
واكتشفت في اثناء استعدادي للكتابة ان مصادر الأدب والفنون عن العلاقة بين الاقباط والمسلمين في مصر شحيحة للغاية، فلا توجد افلام تتناول حياة الاقباط الخاصة، هناك استثناءات محدودة منها فيلم باحب السيما لهاني جرجس، ولا مسلسلات درامية، باستثناء مسلسل "أوان الورد" من بطولة الممثلة المصرية يسرا، والروايات تكاد تكون معدودة ومحدودة، حتى تلك التي كتبها اقباط مثل إدوارد الخراط، لا تميل للتركيز على الحياة الخاصة للقبطي المصري، وهكذا قمت بزيارة عدد من الأديرة والمناطق القبطية الأثرية، خصوصا منطقة الكنيسة المعلقة، مستغلا عملي كصحفي، وترددت على الكاتدرائية في القاهرة لحضور موعظة البابا شنودة الأسبوعية، وترددت على مكتبة الكاتدرائية لتكوين فكرة حية عن الذهنية المسيحية.
لكن المفاجأة كانت عقب نشر رواية ابتسامات القديسين، إذ تبين لي أن الجانبين من المتعصبين لم يحبوا الرواية، فالمسلمون لا يريدون أن يروا مظاهر التمييز التي يمارسونها على غيرهم، والمسيحيون، عبر الإنترنت، وعبر قراءة مغلوطة للرواية وصفوني بأنني مسلم متوحش، وكشفوا عن استيائهم لفكرة أن الرجل في الرواية مسلم والفتاة مسيحية وأكثرهم تعقلا كان يرى أننا يجب أن نتعايش لا ان نمتزج بعضنا ببعض.
وأدركت أنني ينبغي أن أكتب جزءا جديدا من الرواية من دون أن أبالي بأي حساسية تجاه أي من الطرفين، وهذا ما أفعله الآن بالفعل.
اعتصم الأقباط في مصر، وانفضوا بعد وعود بتنفيذ المطالب. فهل ستكون هذه الأحداث الدامية هي آخر ما نشهده من أحداث عنف طائفي في مصر؟
اغلب الظن أن الإجابة هي لا، لأن السبيل الوحيد لوقف هذا الاحتقان، ليس بالمصالحات والشعارات وإنما عن طريق تحقيق الثورة هدفها النبيل في أن تصبح مصر دولة قانون، وما ينبغي ان يترتب عليه من استعادة الأقباط لكل حقوقهم المنقوصة، في الترشح للرئاسة والمناصب السياسية القيادية في الدولة، وحق بناء الكنائس بلا تعقيدات قانونية، وضرورة الغاء التمييز الديني من بطاقات الهويات في مصر، وفي تضمن المناهج التعليمية مواد اخلاقية تعلم المصريين جميعا شيئا عن كافة الأديان لخلق وعي جديد بالتعددية لدى الأجيال الجديدة، إضافة إلى قائمة مطالب الحرية والعدل التي تطالب به الثورة المصرية، والتي اظنها ستنجزها، مهما اقتضى الأمر، ورغم انف كل الرافضين والمتعصبين، لأن روح هذه الثورة، كما ظهرت في ميدان التحرير، هي روح الطبقة الوسطى المتسامحة الواعية والمتطلعة لمصر جديدة لكل المصريين بلا تمييز.
No comments:
Post a Comment