يصعب جدا التوسع في مقدمة التقرير وابراز أهم الاحداث لأن حدثا واحدا هو الذي يشغل
الاهتمام كله وهو الثورة، التي اندلعت في مصر منذ يوم الثلاثاء وتفكك النظام والدولة وعمليات سلب ونهب لا مثيل لها في مصر، ونزول الجيش وظهور الرئيس مبارك يوم الجمعة في التلفزيون لالقاء كلمة عن اقالة الوزارة واعلانه السير في طريق تعزيز الديمقراطية، واستمرار المظاهرات المطالبة بعزله. وكان كاريكاتير زميلنا وصديقنا الموهوب عمرو سليم في 'المصري اليوم' امس، عن مبارك يجلس لمشاهدة المظاهرات في التلفزيون وهي تهتف 'الشعب يريد إسقاط النظام'، فقال:
الحمد لله ما اسميش النظام.
كما اصدر الرئيس قرارين آخرين، الاول تعيين اللواء عمر سليمان مدير المخابرات العامة نائبا له، والثاني تعيين وزير الطيران المدني احمد شفيق رئيسا للوزارة، كما تمت اقالة أحمد عز من الحزب الوطني. ونشرت 'الاخبار' امس في صفحتها الثانية عشرة خبرا قالت فيه:
'غادرت الصالة رقم أربعة بمطار القاهرة الدولي اثنتان وعشرون طائرة تشارتر ما بين صغيرة ومتوسطة تحمل مجموعات من جنسيات مختلفة من بينهم عائلة المستثمر المصري حسين سالم وهم زوجته وابنته بجوازات سفر اسبانية، كما طلب من سلطة الطيران المدني تصريح لاقلاع طائرة احمد عز أمين التنظيم والعضوية بالحزب الوطني والذي قدم استقالته.
وحتى الساعة السادسة مساء امس لم تتم الموافقة على التصريح بالاقلاع. هذا ومن المعروف ان حسين سالم هو الذي عقد صفقة توريد الغاز لاسرائيل. ومن الواضح تغير لهجة الصحافة الحكومية تجاه امين تنظيم الحزب الوطني الحاكم.
وكتبت صحيفة الاخبار في صدر صفحتها الاولى 'سقوط احمد عز'. واضافت 'خربها واستقال'.
وقالت الصحيفة 'يعتبر البعض ان عز احد اسباب اثارة الجماهير بقراراته وسياساته داخل الحزب الوطني'.
والى بعض مما عندنا:
ثورة مصر تكسر غطرسة النظام
ونبدأ بثورة مصر بعد ان تحولت مظاهرات ثلاثة ايام الى ثورة حقيقية في يومها الرابع، ونجح المصريون في كسر غطرسة النظام وتركيعه لأول مرة منذ ثلاثين سنة، وكنا قد أشرنا منذ بداية العام بعد توالي الاحداث على الجريمة الارهابية ضد كنيسة القديسين في الاسكندرية واندلاع الفتنة الطائفية وما سبقها من تزوير غير مسبوق لانتخابات مجلس الشعب وبدرجة غير متصورة من الاستهتار،
أكدنا ان مصر بدأت تطوي صفحة تاريخية وتبدأ أخرى، وان مظاهر المرحلتين تتداخل وقد يصعب رؤية المرحلة الجديدة بسبب ذلك، وان الشرارات التي تندلع هنا وهناك من وقفات احتجاج واضرابات واعتصامات لاسباب اقتصادية واجتماعية وفئوية سوف تتحول الى حريق كبير، وكل من يراهن على سلبية المصريين وعدم ثورتهم ضد النظام لا يعرف حقيقة تاريخ مصر ولا تاريخ الشعوب وثوراتها.
وحين تتضح الظروف لمرحلة تاريخية جديدة يبدع كل شعب أساليبه.. وقد بدأت المرحلة التاريخية الجديدة ولذلك لن تستطيع أي قوة داخلية أو خارجية ان توقفها، قد تعطل تقدمها بعض الوقت، لكنها ستحقق اهدافها، وهدفها المعلن هو انهاء النظام، وقد حدث هذا الى حد كبير، واصيب بشلل شبه كامل في وظائفه. وفي الحقيقة فان مظاهر دخول النظام الى هذه المرحلة بشكل متسارع بدأت بتزويره الفاضح لانتخابات مجلس الشعب، وباستهتار لا حدود له ودفاع الرئيس عنها، وسخريته من المعارضين عندما قال عن محاولتهم تشكيل برلمان شعبي، خليهم يتسلوا بدلا من الالتقاء بهم والاستماع الى شكاواهم، وفجأة بدأت الصدامات تتلاحق. المصادمات مع الاقباط في العمرانية والتي امتدت الى مناطق أخرى والهجوم على محافظة الجيزة، وتوتر العلاقات بينه وبين امريكا والاتحاد الاوروبي والفاتيكان، واتهاماته لامريكا بمحاولة التدخل في شؤون مصر ومعركة مصر مع الرئيس الفرنسي ساركوزي، أي ان النظام وقع في مشاكل وخصومات مع اقرب واخلص اصدقائه وزاد توتر النظام خاصة بعد ان اعلن عدد من الوزراء بأنه سيتم الغاء الدعم وازدادت سخونة الموقف رغم نفي النظام.. ثم جاءت الدعوة للتظاهر وانفجر الوضع. والغريب ان النظام واجه ضخامة المظاهرات وبروز عنصر الشباب فيها بنفس أساليبه القديمة وهي انها من عملاء واخوان مسلمين وأحزاب مهزومة في الانتخابات دون ان يعترف بأن مطالبهم مشروعة. والغريب ايضا ان الرئيس لم يبد أي اهتمام بالحادث اعتقادا ان مظاهرة الثلاثاء لن تختلف عن غيرها، ولكن استمرارها في اليوم التالي الاربعاء كان كفيلا بأن يواجه الامر بشكل سياسي، لكنه لم يتحرك الا بعد ان زاد الضغط الامريكي والاوروبي ثم جاء يوم الجمعة وما حدث فيه، وبعد أن امتدت المظاهرات والاشتباكات في معظم المدن والمراكز واضطر لانزال الجيش وحظر التجول فتحداه المتظاهرون. وبالتالي اصبح الشارع في قبضة الجماهير والجيش فقط.
والملفت هنا ايضا هو الدور الامريكي. صحيح ان وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون كانت لها تصريحات ثلاثة فيها قدر من التشدد والتحذير من استخدام العنف وادانة استخدامه وقطع كل الاتصالات الهاتفية والمحمول والانترنت، ثم تصريحات المتحدث باسم البيت الابيض وكان اخطر ما في كلامه التلويح لاول مرة بقطع المساعدات العسكرية وكان رئيس الاركان الفريق سامي عنان موجودا في امريكا وسمع وجهة النظر. ووجه الرئيس مبارك خطابا مساء الجمعة في وقت متأخر تنفيذا - في رأيي لما تم الاتفاق عليه مع امريكا، والا لماذا ينتظره اوباما ليلقي بدوره خطابا عن الاحداث في مصر ويحرص على ان يقول انه تحدث مع مبارك. ويؤكد انهم يراقبون مدى تنفيذ تعهداته، وفي الحقيقة فلا احد يعرف الان تفاصيل ما دار بين الرئيس وأجهزته، وبينه وبين الامريكيين ابتداء من يوم الاربعاء، أي ثاني أيام التظاهرات، ولكن ذلك كله وغيره ربما سينكشف بأسرع مما نتخيل، لنعرف جزءا مما دار في هذه الايام الغربية من تاريخ مصر، وخاصة داخلها وبين اجهزتها في كيفية مواجهة الاحداث.
تسريبات عن دعم الامن للفوضى
وقد بدأت من أمس عمليات التسريب وكان ابرزها في 'المصري اليوم' التي كان المانشيت الرئيسي في صفحتها الاولى هو مؤامرة من الامن لدعم سيناريو الفوضى وقالت بالنص: 'علمت المصري اليوم ان مسؤولا أمنيا رفيع المستوى أصدر أوامره لجميع قطاعات وزارة الداخلية باخلاء مواقعهم والانسحاب من الشوارع والمقار ونقاط التفتيش والمرور وترك اقسام الشرطة في الوقت الذي كشف فيه شهود عيان عن قيام عناصر أمنية باحراق عدد من اقسام الشرطة، وقال مصدر أمني ان هناك جهة أمنية تابعة لوزارة الداخلية فرضت كلمتها على خطة الوزارة وقررت الانسحاب ودعم سيناريو الفوضى واطلاق سراح المساجين والبلطجية والمسجلين خطر، والمساعدة في اعمال التخريب والنهب عبر غض الطرف عنها. واضاف المصدر أن هناك روحا انتقامية تسيطر على عدد من القيادات الامنية بعد الاحداث الدامية التي انتهت بانسحاب قوات الامن امس، مشيرا الى ان هؤلاء القيادات يحاولون بث تلك الروح الى صغار الضباط لدفعهم الى النزول الى الشارع لممارسة انتقام عشوائي ضد الجماهير والممتلكات العامة وسط شائعة قوية سرت مساء امس باصدار تعليمات بالتعامل بالرصاص (أي مع الجماهير).
'الأخبار':
العادلي خربها
أما الاخبار الحكومية فكان مانشيت صفحتها الرابعة هو 'العادلي خربها'، أين اختفى رجال الشرطة، وكان العنوان لتحقيق شارك في اعداده زميلانا لمياء متولي ومخلص عبدالحي، والحقيقة انه لم تكن هناك اي علاقة بمحتوى التحقيق وهو عبارة عن آراء لأناس عاديين فيما حدث.
وقد جاء في المقدمة:
'ساعات من الفراغ الامني الذي يبدو وكأنه قد تم بفعل فاعل حيث انسحبت قوات الشرطة مرة واحدة من جميع المواقع التي كانت بها مظاهرات بمجرد شعور حبيب العادلي وزير الداخلية بقرب اقالته عند الاعلان عن صدور قرار نزول الجيش.
لكن ظهر أمس ايضا تسريب ثالث مضاد في 'الشروق' التي قالت: 'علمت 'الشروق' من مصادر أمنية ان العادلي قدم تقريرا الى القيادة السياسية يفيد بعدم قدرة اجهزة وزارة الداخلية على تحمل مظاهرات يوم الجمعة لزيادة عدد افرادها وتنظيم القائمين عليها واصرارهم على تواصل المظاهرات. كما طلب من مبارك خطة سياسية تتمثل في تخفيف الاجراءات واصدار قرارات من شأنها منع المظاهرات وتنقذ الشعب الثائر، الا ان القيادة السياسية رفضت كل محاولات التدخل السياسي، وحذر الوزير من ان وزارة الداخلية في خطر وغير قادرة على مواجهة المواطنين بدون أية حلول سياسية.
اذن فهناك جهة تركز الاتهام على وزير الداخلية واستعداد الامن لتسريب المعلومات التي تثبت ان الرئيس نفسه هو الذي رفض توصيات الوزير باتخاذ قرارات سياسية، أي الاستجابة لبعض مطالب المتظاهرين، وهو ما ينبئ عن ان محاولة اي فريق تعليق المسؤولية في عنق وزارة الداخلية وتحميلها كل الاخطاء سيدفع مسؤولين أمنيين لكشف الكثير من الاسرار للدفاع عن انفسهم وهو ما اتوقعه على الاقل لمواجهة موجة العداء الشعبي لهم.
معارك الثورة:
فتور همة الصحف الحكومية
وحتى يوم الخميس كانت الصحف الحكومية وعدد كبير من انصار النظام فيها لا يزالون يخوضون معارك دفاعا عن الحزب صاحب الاغلبية الشعبية الكاسحة.
وكانوا على ثقة بأنه سيتم القضاء على المظاهرات الثلاثاء والاربعاء والخميس والاهم ثقتهم المفرطة في ان الدعوة لمظاهرات يوم الجمعة سيتم القضاء عليها بواسطة الامن، ولذلك وجدنا زميلنا وصديقنا ورئيس مجلس ادارة مؤسسة 'دار التحرير' السابق محمد أبو الحديد يقول يوم الخميس في 'الجمهورية':
'القضية ليست قضية نظام سياسي او قضية حاكم ومظاهرات غضب ضده.
تذكروا جيدا انه على مدى الست سنوات الماضية لم تخل القاهرة وغيرها من محافظات مصر من المظاهرات والاعتصامات والاضرابات والوقفات الاحتجاجية والمسيرات. تذكروا جيدا ان هذا النظام السياسي وعلى رأسه حسني مبارك هو الذي فتح الابواب واسعة امام هذا الحراك السياسي والاجتماعي بالتعديلات الدستورية التي اجراها عامي 2005 2007، ومن قبلها باتاحة كافة منابر التعبير بحرية كاملة عن الرأي من صحافة حزبية وخاصة وفضائيات، ومجالس محلية ونيابية ونقابات مهنية وعمالية، فضلا عن وسائل الاحتجاج في الشارع، التي اشرت اليها.
ولا يفعل ذلك نظام ضعيف، فقد طال الرئيس نفسه وعانى ما طاله من تجاوزات الكثيرون التي نعرفها جميعا فلم يتراجع ولم يغلق بابا لحرية التعبير سبق ان فتحه حتى ان الصحافة القومية وقنوات التلفزيون الرسمي تحولت الى اقلية بالقياس الى عدد الصحف الحزبية والخاصة والقنوات الفضائية الخاصة.
ما هو النظام السياسي في أي دولة في العالم كبرى أم صغرى، ديمقراطية أم غير ديمقراطية، الذي حصل على رضا شعبه بالكامل عنه، او لبى لجماهيره كل مطالبها، بل من هو الحاكم او الحكومة في مصر الذي حقق رضا الناس عنه او لبى كل مطالبهم، لا عبدالناصر أرضى الجميع، ولا السادات حل كل مشاكل الناس؟
والذين لا يرضون اليوم عن حكومة الدكتور نظيف لن يرضوا ايضا عن اي حكومة قادمة بغرض حدوث التغيير، لان هناك دائما مع كل قرار او قانون او اجراء جديد تتخذ اي حكومة في اي عصر، مستفيدين ومضارين، اي راضون وغاضبون'.
ثم استدار أبو الحديد الى حزب الوفد ليهاجمه بقسوة قائلا عن مشاركته في مظاهرات يوم الثلاثاء:
'عار على حزب الوفد الجديد وعلى قياداته المشاركة في تحويل يوم عيد الشرطة الى يوم للغضب، عار على حزب الوفد الجديد ان يهيل التراب على زعيمه ومؤسسة فؤاد سراج الدين الذي كان وزيرا لداخلية مصر يوم معركة الشرطة المصرية ضد قوات الاحتلال البريطاني وهو الذي أصدر تعليماته لرجاله في الاسماعيلية بالصمود وعدم التسليم.
عار على الحزب ان يحول نقطة مضيئة في تاريخه وتاريخ مؤسسته الى نقطة سوداء ويشارك في تحويل الاحتفال بعيد الشرطة الى يوم التحدي للشرطة، لقد قتل الوفد فؤاد سراج الدين أول امس'.
'الأخبار' تنتقد انتهازية الأحزاب
وشاركه الهجوم في نفس اليوم رئيس تحرير 'الاخبار' وعضو مجلس نقابة الصحافيين زميلنا وصديقنا ياسر رزق بقوله:
'وبين انتهازية بعض الاحزاب ورغبتها في الثأر من نتائج انتخابات مجلس الشعب، وعشق بعض الشخصيات المعارضة للاضواء وتصدر المشهد والصورة، تسللت عناصر جماعة الاخوان المسلمين بتكليفات من قياداتها لركوب الموجة واختطاف المظاهرات فاندست تلك العناصر وسط المتظاهرين لتهييج الحشود، وتحويل المظاهرات السلمية الى احداث شغب'.
ونتحول الى 'الشروق' في اليوم نفسه، ومديري تحريرها واولهما زميلنا وائل قنديل، وهو يوجه الينا نصيحة غالية هي:
'لا تصدقوا علي الدين هلال وهو يقول ان الذين خرجوا في مظاهرات الامس بعشرات الآلاف ليسوا 'مصر'، لا تصدقوا ان علي الدين هلال استاذ العلوم السياسية يصدق علي الدين هلال أمين اعلام حزب الحكومة وهو يهرف بهذا الكلام غير السياسي بالمرة عندما يذهب الى ان عشرات الآلاف يخرجون للتظاهر بينما تعداد مصر 80 مليونا، لا يعرف شيئا على الاطلاق وكأن المصريين راضون وقانعون وسعداء بطيب الاقامة في سجن الحزب الوطني وسياساته.
ان الدكتور هلال ورموز حزبه يعلمون جيدا ان 25 يناير 2011 لحظة فارقة في تاريخ مصر، وربما لا يقل أهمية عن ذلك اليوم في 1952.
وأظن أنه بعد الذي جرى أول امس فان الجميع في انتظار ان يخرج علينا احد الآن ويقول 'فهمتكم'.
هذه هي مصر الحقيقية
والثاني كان زميلنا عماد الدين حسين الذي مر على أماكن المتظاهرين وشاهدهم وناقشهم وعاد الى مكتبه ليقول والدموع في عينيه فرحا:
'أقسم بالله العظيم أنني بكيت فرحا، وأنا ارى مصر الحقيقية تولد من جديد في قلب ميدان التحرير ليلة امس الاول الثلاثاء.
من لم يعش هذه الساعات العظيمة او يسير في واحدة من المظاهرات الكثيرة، التي اجتاحت القاهرة الكبرى والمحافظات فقد فاته الشيء الكثير.
الاخوان والناصريون والماركسيون كانوا موجودين، ويمكنك ان تعرفهم من ملامحهم او طريقة كلامهم او ملبسهم لكنهم كانوا قلة، الاكثرية كانت مواطنين عاديين، في ميدان التحرير تقررت امور كثيرة وعلى الحكومة ان تستوعب الرسالة، وعلى الحزب الوطني ان يفهم ان كل ما حدث في الانتخابات الاخيرة كنسته هتافات المتظاهرين. هناك حقائق كثيرة تتشكل الآن في مصر'.
تزوير الانتخابات
كان القشة الأخيرة
طبعا هذه اشياء كثيرة تتشكل وقال عنها في اليوم نفسه في 'المصري اليوم' زميلنا في 'الاهرام' عمرو الشوبكي:
'من يتصور ان يوم 25 يناير حدث عابر في تاريخ مصر مخطئ خطأ جسيما، وان فتح ملف تزوير الانتخابات وادارة المؤسسات العامة وفساد الادارة وخطايا الحلول الامنية سيعرف الى أي مدى جرى تجريف للحياة السياسية والثقافية واهدار لكرامة البشر وغياب اي نظام للمحاسبة، الناس لا ترى حلا الا النزول للشارع.
لقد حصدنا ليس فقط نظاما غير ديمقراطي، انما نظام معدوم الكفاءة والخيال جعل لاول مرة في تاريخ مصر المعاصر، معيار الاقتراب من السلطة ليس فقط الولاء، كما جرى في العصور السابقة، انما الجهل والفساد وانعدام الكفاءة، فشهد ذلك الانهيار الحقيقي في مؤسساتنا الحكومية وشهدنا صحفا حكومية تفنن القائمون عليها في تخريبها وهو امر لم نره في ظل هذه الصحافة المؤممة نفسها في عهدي عبدالناصر والسادات، وعرفنا ان رواتب رؤساء مجالس ادارات كبريات الصحف الحكومية تصل الى مليون واثنين مليون جنيه شهريا وتتعامل الدولة معها باعتبارها من الامور العادية دون وجود جهة واحدة تراقب اموال الشعب 'السايبة'.
ما فعله قادة الحزب الوطني الجدد في الانتخابات الاخيرة مسؤول مباشرة عما شاهدناه الثلاثاء الماضي، ليس فقط باختيار مرشحين معدومي الخبرة والمهارة السياسية ومنعزلين عن الناس انما ايضا في تحويل ما عرف بحزب الدولة منذ الاتحاد الاشتراكي وحزب مصر والطبعة الاولى من الحزب الوطني الى شركة خاصة يقودها أمين تنظيم زاوج بين السلطة والمال هادما في الطريق كثيرا من تقاليد هذه الدولة'.
الثورة وشر البلية
وعلى رأي المثل القائل 'شر البلية ما يضحك'، خرجت الصحف الحكومية الصادرة يوم الجمعة، موضوعها الرئيسي عن اجتماع هيئة مكتب الحزب الوطني الحاكم برئاسة صديقنا الامين العام ورئيس مجلس الشورى صفوت الشريف وكل من الدكاترة صديقينا مفيد شهاب الدين، وعلي الدين هلال، ثم جمال مبارك أمين أمانة السياسيات، ورجل الاعمال ومحتكر انتاج الجديد وأمين التنظيم أحمد عز، الذي دارت اشاعات عن هروبه للخارج بأمواله.
وكان واضحا عملية التركيز على أحمد عز الذي اطلقت عليه ذات الصحف لقب 'العبقرية التنظيمية' الذي خطط في انتخابات مجلس الشعب في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ونجاح خطط عدم حصول الاخوان المسلمين على أي مقعد، واسقاط كل المستقلين الذين عارضوه وهاجموا الحكومة في المجلس السابق، والضربة التي وجهها لحزب الوفد ايضا، وتحول بغرور شديد الى كاتب ومحلل سياسي في ثلاث مغامرات بـ'الاهرام' يعطي فيها دروسا للاحزاب عن كيفية تكوين شعبية كشعبية حزبه، وعبقرية تنظيمية كعبقريته، ولم تكتف الصحف بابراز صور هذا الاجتماع وعز منهمك في كتابة ملاحظات اثنائه، وانما نشرت 'الجمهورية' خبرا بعنوان بارز بجوار الصورة هو: هيئة المكتب بكاملها وعز يمارس عمله، وقالت فيه:
'دحضت هيئة مكتب الحزب الوطني في اجتماعها امس برئاسة صفوت الشريف الشائعات التي ترددت عن سفر احمد عز امين التنظيم الى الخارج بعد الاحداث الاخيرة، هيئة المكتب كانت موجودة بالكامل وحضرها دكتور مفيد شهاب وزكريا عزمي وجمال مبارك والدكتور علي الدين هلال، وطبعا امين التنظيم أحمد عز.
ولم تمر ساعات على صدور الصحف باخبار الاجتماع والبيان الذي القاه صفوت الشريف على الصحافيين، الا وكانت الجماهير المنتشرة في ميدان التحرير وعبد المنعم رياض قد اقتحمت مقر الامانة العامة الذي عقد فيه الاجتماع، وقامت باحراقه وسط الهتافات والتهليل ولم تجرؤ أي عربة مطافئ ان تأتي لتطفئ النيران، وحتى الجيش الذي وصلت مدرعاته امام التلفزيون على بعد حوالى مائتي متر من المبنى لم يحاول التدخل، واستمرت النيران يوم الجمعة حتى أتت على كل التجهيزات في المبنى ومنها أماكن التنظيم، وبعد الحريق بساعة اعلن الحزب عن استقالة احمد عز من الامانة العامة وهو ثاني شخص تتم التضحية به بعد رئيس الوزراء احمد نظيف الذي اقاله مبارك في خطابه لامتصاص الثورة، وانطلقت موجة الحرائق لمعظم مقرات الحزب الوطني والمحافظات وتدمير محتوياتها. ولم يظهر اعضاؤها الذين وصلوا الى مليونين وثمانمائة الف ليتجمعوا ويدافعوا عنها. بل لو كان احمد عز استدعاهم بواسطة الموبايلات التي وزعها عليهم وطلب منهم النزول للشارع لفاقت اعدادهم اعداد المتظاهرين ولكن يبدو -وربكم الاعلم - انهم يصلون صلاة الاستخارة، يدافعون عن الحزب الذي آمنوا به وتزوجوه أم يطلقونه ويبحثون عن الرابح القادم.
أين الاستقرار
الذي تباهى به النظام؟!
ومن نماذج شر البلية حكاية الاستقرار التي كان النظام يتباهى بأنه حققها، ودولة المؤسسات والقانون التي بناها لدرجة ان الرئيس مبارك وهو في خطابه الاخير كرر حكاية الاستقرار وانه مسؤول عن توفيره للمصريين. وفي نفس اللحظة كانت مؤسسات الدولة قد تحللت واختفت باستثناء المؤسسة العسكرية أي الجيش وجهازي المخابرات العامة والمخابرات الحربية، واما مؤسسة الامن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية فقد تعرضت لضربات قاتلة في ظرف ساعات فقط ابتداء من مساء الجمعة واضطر الرئيس للامر بانزال الجيش وانفجرت الفوضى وظهرت عصابات السلب والنهب في الشوارع دون ان تجد شرطة تتصدى لها ولم يجد المصريون غير ان يقوم سكان كل شارع بتشكيل فرق حماية من شبابه ورجاله مسلحين بالشوم والعصي والسكاكين ووضع احجار ضخمة او معوقات في مداخل ومخارج الشوارع وايقاف اي سيارة او دراجة بخارية والطلب من راكبها ابراز تحقيق شخصيته فإذا كان من السكان سمحوا له، أما اذا لم يكن منهم يطلبون منه العودة من حيث أتى، وحدث ذلك بعد حالة الذعر التي احدثتها احدى العصابات في منتصف شارع 105 الموازي للشارع الذي اسكن فيه، وبعد أن وصلت الاخبار عما يحدث في منطقة زهراء المعادي، وقد تصادف في الطريق الزراعي الموازي لشارعنا والواقع خلف مستشفى المعادي العسكري ان تم ايقاف سيارة نصف نقل واتضح ان فيها ثلاثة قاموا بسرقة احد المحلات في ابراج عثمان الواقعة جنوب المستشفى، وتجمع حولهم السكان وكل من اراد ان يثبت حبه لمصر هي أمي ساهم بما تيسر؛ ركلات او ضربة من شومة وسط صياح واطلاق رصاص في الهواء، وصياح وضجيج وصراخ من سيدات في النوافذ والشرفات اعتقدن ان المنطقة تتعرض لهجوم، واضطر شيخ المسجد ان يعلن في المايكروفون بشرى وهي ان الرصاص يطلق من جانب السكان الذين يحمون الشارع وتم القبض على الغرباء فانطلقت بعض الزغاريد وتم تسليمهم الى قوة من الجيش مرابطة قريبا من الشارع.
وفي منطقة زهراء المعادي جاءت الانباء بوجود عصابات تقطع الطرق وتوقف السيارات وتطلب من ركابها تسليم ما معهم من نقود وخلافه وتعرض شقيق زوج ابنتي الصغرى لهذا الموقف ولكنه نزل من السيارة وقال لهم:
بتقولوا ايه يا ولاد..
فقال احدهم لزملائه:
سيبوه، سيبوه.
والغريب ان خفة ظل المصريين ظهرت على بعض هذه العصابات، فكانوا يتوقفون امام بعض العمارات ويطلبون من السكان ان يلقوا اليهم بنقودهم ومصوغاتهم حتى لا يضطرونهم للصعود اليهم، وأخذها بأنفسهم.
وكان افراد هذه العصابات مسلحين بالسيوف وبعضهم كان يحمل اسلحة نارية.
محاولات لنهب
المتحف المصري
أما الملفت فيما حدث فهو ان يكون درس ما حدث لمتاحف العراق من نهب في اعقاب الغزو الامريكي في ابريل سنة 2003 ودخول بغداد ونهبها تحت حماية ورعاية هذه القوات حاضرا في ذهن بعض هذه العصابات وأرادوا ان يفعلوها مع المتحف المصري في ميدان التحرير، وسرقة تاريح اجدادهم الفراعنة وليثبتوا انهم احفاد روكا الحرامي وزير الملك رمسيس الثاني، وهو الشخصية التي ابتدعها زميلنا بـ'الاخبار' عبدالقادر علي، وعندما تصل الامور الى ان يوجه الكثيرون نداءات الى الجيش والشعب لحماية تاريخ مصر وتراثها من السرقة والتدمير، ويسارع الشباب المتظاهر الذي احرق مقر الامانة العامة للحزب الوطني الواقع خلف المتحف مباشرة من الجهة الغربية له الى تشكيل سد بشري حول المتحف لحمايته الى ان وصلت قوات الجيش، فلنا ان نتخيل الى اي مستوى وصل الاستقرار والامن والامان.
ومن اعجب مظاهر شر البلية ما سمعته من شقيقي الاصغر محمد كروم المقيم في منزل العائلة بحي بولاق ابو العلا الشعبي، بأنهم فوجئوا بعصابات تأتي لسرقة المحلات في السبتية وغيرها. وكانت دهشته من جرأتهم للقيام بهذه العملية في احد معاقل ابناء واحفاد الفتوات.
وقد خرج اليهم الشباب والرجال بالسنج والمواسير والسيوف لمطاردتهم.
وعندما تصل الامور الى ان يظهر في التلفزيون اللواء اسماعيل عثمان ويهدد هذه العصابات بأن الجيش سيتعامل معهم بقسوة حماية لأمن الشعب والوطن والممتلكات العامة والخاصة، ويطلب من الشعب مطاردتهم وحماية انفسهم وعائلاتهم واستخدم تعبيرا ملفتا، وهو الدفاع عن شرفهم مما يوضح لنا مدى الذهول الذي وصلت اليه الحالة.
وقد تلقيت صباح اليوم الاحد اتصالا من احد اقاربنا ومن كبار التجار في الوراق بمحافظة الجيزة، وعضو المجلس المحلي عن الحزب الوطني جمال كحيل وهو الفرع الثاني لأسرتنا الكحالية، وهو يسألني ان كان يرسل الينا حماية اذا احتجناها، وكان سعيدا جدا بالسيطرة التي فرضها الاهالي، خاصة الشباب على المنطقة وانهم يوقفون كل السيارات ويطلبون من راكبيها التحقق من شخصياتهم وتفتيش عربات النقل والنصف نقل فاذا عثروا فيها على بضائع مسروقة احتجزوا من فيها وقال اننا حولنا احد المخازن في المنطقة الى سجن مؤقت فيه حتى هذه الساعة عدد من اللصوص لتسليمهم الى السلطات عندما يبدأ العمل فيها.
كيف بكى رئيس الحكومة المشؤومة
أما آخر ما عندنا اليوم بالنسبة لشر البلية، فهو بكاء رئيس حكومة الشؤم والنحس والبيزنس وما اشبه وما يستجد الذي قدم استقالته وهو ما جاء في تحقيق زميلينا بـ'الاخبار' عيسى مرشد وشريف خفاجي، اذ قالا عن الاجتماع:
'استغرق عشرين دقيقة وافق فيه بالاجماع على خطاب الاستقالة استجابة لطلب الرئيس مبارك وتنفيذا لما جاء في كلمته الى الامة، وسيطر الحزن والوجوم على الدكتور نظيف والوزراء منذ لحظة وصولهم الى القرية الذكية، وبدأ الدكتور نظيف الاجتماع بقوله: احنا حانقدم استقالتنا وسنتولى مباشرة الاعمال لحين تشكيل الوزارة الجديدة، ثم انهار رئيس الوزراء باكيا بشدة وبكى بعض الوزراء تأثرا بما آل اليه حال مصر وخروجهم من الوزارة في هذه الظروف وبهذه الصورة.
No comments:
Post a Comment