أبناء الجبلاوي لإبراهيم فرغلي والبحث في علاقتنا بالإرث العظيم
حاتم حافظ
يخدعنا ابراهيم فرغلي هذه المرة, يخبرنا أنه قد انتهي من كتابة رواية فإذا به لم يصنع إلا متاهة سوف نظل لسنوات نحلم بالأمل في الفكاك منها.
يستدعي فرغلي في روايته الجديدة أبناء الجبلاوي ـ ما هو أكثر من التناص ـ يستدعي روايات نجيب محفوظ بأشخاصها وفلسفاتها بل ولغتها كذلك ليس كأدب فحسب ولكن ـ أيضا ـ كإرث تشكل العلاقة بين رواية فرغلي وإرث محفوظ مفتتح الرؤية لا في علاقة هذا الجيل ـ التسعيني ـ بإرث أدبي عظيم ولكن أيضا في علاقة هذا الجيل بتراثه, ولهذا فإن إشارة فرغلي لمحفوظ فيما بعد انتهاء الرواية قائلا عنه الذي أضاء لنا طريقا لبناء الرواية, باللغة والفلسفة, فمنحنا المعاول لنعرف كيف نضرب بها المبني الروائي بإزميل الحداثة إشارة دالة علي الطريقة التي تعمل بها روايته.
هذه رواية يمكن لنا ـ باعتبارها متاهة ـ أن نقرأها من نهايتها, أو هكذا علينا أن نفعل حين نكتشف أن الصوت الايروتيكي الذي كان كبرياء يسمعه في بداية الرواية, وعبر مشاهده, هو نفسه الصوت الذي جلبه لنا كاتب الكاشف كشرارة لإطلاق المعاول في جسد الإرث الذي نحمله كصخرة سيزيف. فرغلي يقسم الرواية لعدة أجزاء مشكلا متاهته أو متاهتنا, فبعد أن ينتهي الجزء الأول والذي يظهر لنا كبرياء كشخص يبحث عن هويته ولا يعرف له أبا أدمنت تأمل وجهي في المرآة, آملا أن أركب في مخيلتي صورة لأبي, نفاجأ في الجزء الثاني بأن ما قرأناه ليس إلا فصول رواية كتبها كاتب فاشل كاتب الكاشف لنبدأ في التعرف عليه كشخص يبحث هو الآخر عن هويته رغم أنه يعرف أبيه جيدا, ولكنه بعد سفره لدراسة الفلسفة في باريس وحتي بعد عودته يظل يلح علي محاولة التأقلم مع العالم, ويظل في وعيه تجربته مع الغيرة كمفهوم متبدل الصورة والمعني في ثقافتين مختلفتين, ثقافة المنشأ وثقافة الإدراك.
حتي حبيبته جيسبكا فإنها تعرض علي نجوي حبيبة كبرياء مشاركتها الظهور في فيلم تسجيلي يسجل تجربة فتاتين من ثقافتين مختلفتين في علاقتهما بجسدهما, خصوصا إذا عرفنا أن نجوي كانت تتعري لكبرياء دون أن يمسها سانتشيت لفكرة أن جسدي أصبح فكرة جمالية خاصة.ورغم أن قصة اختفاء أعمال نجيب محفوظ الفانتازية يمكن أن تسلب عقولنا, بما لها من اصداء داخل الرواية, كبيروقراطية الدولة وتخلفها مع التعامل مع أزمة بمثل هذا الحجم, أو بإنطلاق غيبيات المصريين وتوهمهم أن شخوص محفوظ بدأت في الظهور في أماكن بعينها, أو بتحويل المسألة لدي البعض إلي ألعاب فيديو, فإن حضور روايات محفوظ وليس اختفاؤها يظل هو السؤال المطروح في الرواية, لأننا لن نعرف في الرواية كيف اختفت روايات محفوظ, لأن المهمة الموكلة لكبرياء والتي صاحبته فيها رادوبيس لن نعرف نهايتها, فما سوف نعرفه هو مصدر الصوت الايروتيكي. ففي ظني أن الرواية تضع الصوت الذي أحيا الجيران من موت المشاعر, وصمت الأرواح, ورتابة الملل, وأقنعة الزيف بإزاء إرث محفوظ, باعتبار الأول هو المكبوت في ثقافة تسارع نحو تصحرها, وإزاء سؤالنا عن هذا الصوت ومصدره يجب أن نستدعي الإرث لا لنعرف كيف أضعناه ولكن لنعرف ماذا نفعل به.ولهذا فإن الرواية تبني باستلهام روح محفوظ ليس فحسب علي المستوي اللغوي ولا الفلسفي( الأخير تمتليء به الرواية) ولكن أيضا علي مستوي الحداثة التي بدأها محفوظ.
ورغم أن الرواية مثلا ضمن استدعائها لعدد كبير من روايات محفوظ وعدم اشارتها لرواية الطريق, فإن الأخيرة تظل منبت السرد لدى فرغلي, في السؤال عن الأب, عن الإرث الذي خلفه, في تحوله إلي عبء يجب تفكيكه لتشييد حداثة بديلة, لا علي مقولات تقليدية ولكن علي أرضية المكبوت, بعد تحريره. ولهذا فإن ايروتيكية الرواية ـ وهو ملمح ليس هينا ـ ضرورة لا ترفا روائيا, وليس تزيدا.
فرغلي نفسه بصوت كاتب الكاشف يصف النصوص التي لا تتناول الجنس بأنها روايات ديكتاتورية, ولهذا فإننا ـ علي عكس روايات فرغلي السابقة ـ يمكننا الانصات لكلام عن السياسة ـ فالدولة البوليسية التي تبدأ خطة بمسمي سري كاميرا لكل مواطن محاولة اكتشاف أين ذهبت نصوص محفوظ هي نفسها الأم الصارمة التي حولت نجوي لكائن يمتلك أصوات أربعة لا يعرف أيها نفسه, وهو نفسه الأب الصارم الذي جعل من رفيق شخصا أنانيا يبحث عن اللذة أينما كانت, وهو أيضا مبرر تحول الجميع إلي شبه أرقام في ملفات الدولة. وهي نفسها داعي المتاهة التي تتخلق لنا عبر سارد افتراضي يكتب رواية عن كاتب يكتب رواية عن آخر يكتشف أن الصرخة الذي يسمعها ليست إلا لوعة اكتشاف حبيبته لذاتها في معية الكاتب الذي صنعه وصنعها!
هذه رواية لن تنتهي بقراءتها, فمثلها مثل الصرخة الايروتيكية, ستظل تطاردنا كنبوءة, ما لم نتدارك علاقتنا بالإرث الذي خلفه الأب, حتي ولو كان هذا الأب مجهولا بالنسبة لنا, وما لم نقم برحلتنا الخاصة في مركب في النيل مثلما فعل كبرياء بمعية رادوبيس, حتي ولو كنا نحمل ـ مثله ـ ذراعا مكسورة فلا يجب أن نهمل الدفة أبدا بإزاء المستقبل
مقال لحاتم حافظ نشر في الأهرام المسائي في أغسطس 2009.
No comments:
Post a Comment