من بين بيوت الأدباء التي أتيحت لي فرصة زيارتها أحببت البيت الصيفي لبرتولد بريخت. بيت صيفي أوروبي، بالسقف الخشبي المخروطي الداكن اللون، تتخلل واجهته والجانب المطل علي البحيرة نافذة زجاجية بحجم الجدار تقريبا محددة بأطر خشبية صغيرة. جاءت زيارتي لبيت بريخت بمحض الصدفة، حين كنت في زيارة لإحدي أفراد العائلة د.سونيا حجازي في برلين واقترحت اصطحابي، مع عائلتها الصغيرة، إلي بيت صيفي علي بحيرة في قرية بوكو التي تبعد نحو 70 كيلومترا من برلين. وكان بيت بريخت الصيفي وزوجته هيلين فايجل، هو البيت المتاخم. أحببت هذا المكان لأنني أظنه المكان المثالي لكاتب، علي النقيض من بيوت زرتها عمدا: مثلا صدمني بيت فيكتور هيجو بفخامته الارستقراطية، وفراش نومه الوثير المغطي بناموسية تتدلي من أربع أعمدة خشبية تحيط بالفراش، بينما منزل هرمان هسة، علي بساطته، وارضياته الخشبية، لم يكن سوي موقع ميلاده، والأمر نفسه بالنسبة للبيت الريفي شرقي الطراز الذي ولد فيه إيفو أندريتش قبل ان ينتقل ليعيش في فيشيجراد، علي الحدود مع صربيا قريبا من نهر درينا، مع أمه بعد وفاة ابيه. أشجار الصنوبر الباسقة، شجيرات الورد البري، كأنها أشجار السماء تحيط بالبيت البسيط من كل مكان، فيما تطل غرفه الداخلية علي البحيرة الرمادية الغامضة الفاتنة: بحيرة شيرموتزيل المحاطة بكثافة خضراء من كل الاتجاهات حولها إلي الجوار مبني خشبي صغير تناثرت فيه بتنسيق قطع من ديكور مسرحياته، وبينها العربة الخشبية الشهيرة في مسرحية الأم الشجاعة. هذا المبني القريب تماما من البحيرة كان في الواقع غرفة الكاتب، غرفة بريخت كاتبا. من نوافذ البيت المتاخم كنت أتأمل البحيرة: أتساءل كيف رآها بريخت؟ بم أوحت إليه؟ إلي ما تفضي تلك الضفة الأخري القريبة كثيفة الأشجار والخضرة؟ غابة أخري مثل الغابة التي تقع خلف بيت بريخت نفسه؟ أظن أن ثمة علاقة وثيقة بين بيئة الكاتب ونصه. الكاتب المحاط بالغابات، والبحيرات الغامضة وتلال الأخضر اللانهائي المترامية، لا بد أن يكتب نصا مركبا، ففي الغابة عليك أن تسير بين أعداد لانهائية من الأشجار الباسقة، لا تسمح لك برؤية أي أفق، عليك أن تخترقها، أن تحفز حواسك: أن تنصت لأصوات الطيور، وحفيف الأشجار، وخشخشة أوراق الشجر تحت قدميك، وتتكهن بما لا تراه. عليك أن تمنح خيالك طاقته القصوي لكي تتنبأ بما تأويه الضفة الأخري من البحيرة. بينما بيئتنا نحن مسطحة مكشوفة، صحراوية، بسيطة، أفقها محدود. فكرت أيضا في أن نزعة الأسطورة والغرائبية عندي ربما مستقاة من البيئة التي تشكل فيها وعيي، في سلطنة عمان، محاطا بالجبال، والكهوف، عوالم كاملة، ومتاهات، في بطون الجبال، الرطبة، الغامضة الكتوم. أنا أيضا غامض وكتوم كما يطلق علي المقربون. أحببت بيت بريخت ربما لأنني لم أمتلك حتي اليوم مكانا للكتابة، ولعلني لو وجدت مكانا كهذا يوما سيستبد بي الحنين في فضائه للمقاهي العديدة التي كتبت فيها جميعا،
وبالخصوص لكل ركن متاخم لنافذة تطل علي الحياة.
نشرت في صحيفة روزاليوسف 13 سبتمبر2009
2 comments:
أهنئك على هذه الموضوعات الجميلة.مودتي
د.هدية الايوبي
باريس
سعيد بمرورك هنا جدا يا دكتورة وشهادتك اعتز بها كثيرا
محبتي
Post a Comment