إبراهيم فرغلي يدعو لتأمل ظاهرته بعيداً عن أرقام المبيعات
علاء الأسواني..من نموذج المفكر إلى صانع البروباجاندا
تناولت عملين من أعمال الكاتب علاء الأسواني (عمارة يعقوبيان، وشيكاغو)، في متن هذا الكتاب (المقال ينشر ضمن كتاب بعنوان شهوة الكتابة يصدر قريبا)، متوقفا أمام النصين نفسيهما، اللذين أظنهما بعيدين تماما عن مسار التجربة الحداثية في الكتابة الأدبية في مصر لأسباب ذكرتها بالتفصيل في المقالين المشار إليهما.-----------------------------------------------------------------وأضيف أن الشكل الكتابي الكلاسيكي الذي يعبر عن مكان منسجم، (عمارة يعقوبيان) هو شكل يكاد يكون بسيطا، ومناقضا. حقيقة إن المكان الجغرافي الذي تمثله مصر، لم يعد متجانسا بسبب التفاوتات المرعبة التي تحدث الآن، طبقيا وثقافيا، كما أن وسائل التقنية والاتصال الحديثة، بكل ما تتضمنه من أنماط التواصل الحداثية، قد أحدثت ثورة في معني الزمن، فلا يمكن أن يكون النص الآني معبرا عن زمن تقليدي بسيط متصل متقدم للأمام، إلا عن عدم وعي بالتطورات الحقيقية في الوعي البشري، وفي فكرة انضغاط الزمن، وتشظيه بسبب العديد من التطورات والمتغيرات القيمية والاجتماعية والثقافية في العالم، وفي البيئة المحلية المصرية.فالمجتمع المصري الآن أيضا، بفضل ظروف عديدة، لم يعد بيئة واحدة ولا يعبر عن زمن واحد، فدخول حي عشوائي الآن في القاهرة، هو ولوج في زمن آخر، قيميا وزمنيا، بلا أدني مبالغة، في نفس الوقت الذي تختلف فيه مجتمعات أخري تمثلها مجتمعات الطبقات الأرستقراطية الجديدة، أو مجتمعات الفقر المدقع في أحياء شعبية، أو في الريف، أو في الصعيد، أو البدو في سيناء، وغيرها من مواقع استقرار البدو المصريين بشكل عام. وهو موضوع واسع يحتاج لمراجعات عديدة، من الجانب النقدي الأدبي والجمالي. ومحاولة الأسواني في هذا الصدد، مبتسرة لانحيازها لموقع جغرافي بسيط ومتجانس، لا يعبر بصدق عن البيئات المكانية الحقيقية للهامش الذي يحاول اقتحام المركز.
لكن ما أريد التوقف عنده هنا هو الدلالات التي تعكسها ظاهرة علاء الأسواني، بدءا من تمرير النصين بوصفهما عملين أدبيين مميزين، وإسباغ قيمة أدبية عليهما استنادا للمبيعات الهائلة، في مناخ نقدي أقل ما يمكن أن يوصف به أنه مناخ ضعيف وهش، مرورا، باستثمار الأسواني الظاهرة لمحاولة ترسيخ نموذج دعائي للكاتب، وصولا إلي استخدام الخطاب السياسي والإيديولوجي في تدعيم صورة الكاتب العربي كمناضل سياسي، وترسيخ نموذج النص الأدبي العربي كوثيقة اجتماعية يقدمها للغرب، بينما يستخدمها الأخير بمنطق المتلصص علي الثقافة العربية، كوسيلة إضافية لتأكيد الصورة المعدة سلفا عن العرب كشعوب متخلفة، وكمجتمعات لا يمكن أن تنتج سوي الإرهاب والتطرف، والتخلف، وأن كتّابها لا يمكن أن ينتجوا فنا بقدر ما يمكنهم إنتاج سرديات سياسية عن المجتمعات التي ينتمون إليها. ولعل هذا ما يبرر ابتعاد مؤسسات الترجمة عن النصوص التي تعبر عن نقلات حداثية وتجريبية في الكتابة العربية والسعي للترويج وترجمة نصوص تبرر هوجة الترجمة التي التفتت للنص العربي تأثرا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر.أعتقد، وفقا لشواهد عديدة، أن نصي علاء الأسواني، ليسا استثناء، وأن ظروف تمريرهما، خاصة نص يعقوبيان، لم تعتمد كثيرا علي المبرر الفني، بقدر ما كانت هناك، وباستمرار مبررات دعائية بامتياز.
فالمعروف أن نص "عمارة يعقوبيان" لم يجد طريقه للنشر بسهولة، لأسباب عديدة، بينها عدم تميز أعمال الأسواني الأولي التي نشرها قبل يعقوبيان، إضافة لأنه كان محسوبا، بشكل أو آخر، علي اليمين الإسلامي، حين كان يكتب في صحيفة الشعب ذات التوجه الإسلامي، في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، وروج لمفاهيم أخلاقية في قراءة النصوص الأدبية، آنذاك. قبل شهرته تقدم الأسواني لهيئة قصور الثقافة، وتحديدا لسلسلة (أصوات أدبية) التي كان يشرف عليها آنذاك الكاتب الروائي محمد البساطي، بنص رأي فيه البساطي أنه لا يرقي للنشر، لكن الأسواني نشره في طبعة محدودة ثم بعد ذلك بسنوات نشر "يعقوبيان" لدي دار ميريت، وبدأت موجة من الدعاية للنص، بعضها جاء تشجيعا للكاتب، من قبل الصحافة الثقافية المصرية والمسئولين عنها، بسبب جرأته في بعض أجزاء الرواية في نقد مباشر للسلطة، ومن قبيل حمايته ودعمه، وربما تواطؤاً مع رجل استطاع أن يقول ما يرغب آخرون في قوله ولا يقوون عليه فيما يتعلق بنقد السلطة، واحتفاء برجل دمث له علاقات واسعة، ولأسباب أخري، بينها قدرة الأسواني نفسه علي الدعاية لأعماله بشكل جيد، بحديثه المستمر- استباقا- عن أرقام توزيع رواياته، وعبر سلوكيات دعائية عدة، بينها السبق في نهج لم يسبقه إليه كاتب آخر عن إعلان الكاتب لأرقام مبيعات كتبه، وإقامة حفل في الجامعة الأمريكية جاء فيه الفنان عادل إمام ليعلن أنه قارئ ممتاز لم يكن يترك ورقة صحيفة في الطريق إلا وقرأها! ليعلن لنا بعد ذلك أنه بعد قراءة يعقوبيان اكتشف أنه أمام رواية عظيمة، وكذلك فعلت الفنانة نادية لطفي في الحفل ذاته، وجلال أمين، وغيرهم.ثم الإعلان عن بيع الكتاب للسيناريست وحيد حامد لتحويله لنص سينمائي، قبل فترة طويلة من إنتاج الفيلم، كما اتخذت الاستراتيجية الدعائية تحويل أفلام وثائقية تسجيلية عرضت في قناة النيل للأخبار، في بدايات صدور الرواية، من موضوعها الرئيسي وهو عمارة وسط البلد لتصبح، فجأة، مختصة بعمارة يعقوبيان، دون غيرها، وغير ذلك الكثير من وسائل الترويج والتسويق، دون إغفال أن النص، أو الحالة، وجدت هوي في نفوس متلقين كثر.بينما أعتقد أن ما يكتبه الأسواني، من منظور تأريخ تطور النص السردي المعاصر، نص ينتمي لزمن قديم من زمن السرد المعاصر، ويتنافي تماما مع كل ما أنجزته معاول الحداثة الروائية علي يد جيل الستينيات وما بعدها. فهو نص مشوق، يعتمد تتابع الحكاية، في بناء كلاسيكي، يعتمد مضمونا ينتمي لتصورات الرواية الرومانسية، من حيث تصوير شخصيات شريرة وأخري طيبة دون الولوج لعمق الشخصيات ومحاولة كشف تعقد النفس البشرية كما يجب أن يعكسه الأدب، وتغيب عنه الرؤي الفلسفية التأملية، وهو ما يكشف عن وعي ذي بعد واحد بمفهوم الرواية التي يقول عنها الروائي الفرنسي التشيكي ميلان كونديرا:"روح الرواية هي روح التعقيد. كل رواية تقول إلي القارئ ليست الأمور بسيطة كما تتخيل، وتلك هي الحقيقة الخالدة، لكن أصبح من الصعب سماعها وسط ضوضاء الإجابات السهلة السريعة التي تأتي أسرع من السؤال وتمنعه من القيام بدوره".أما القراءات الاجتماعية التي تطوع بها بعض المثقفين، أو بعض القراء الأخلاقيين للأدب، فلا تقدم كثيرا لمدلول النص جماليا، وهذا بيت القصيد، وأضرب المثل بيعقوبيان لأنه النموذج الأبرز لظاهرة تسويق الكاتب لنفسه في أكثر أنماطها فجاجة. هذا لا ينفي، بطبيعة الحال، أن الأسواني قد بذل جهدا في كتابة نص مشوق لجمهور بسيط واسع، عن وعي كامل بما يفعله. ولعله، علي قناعة بأن ما يكتبه أدب كبير، أو لعله أقنع نفسه بذلك متخذا من شواهد "البيست سيللر" دليلا دامغا، لكن ذلك لا يكفي، مهما بلغ الضجيج الإعلامي، ومهما تفنن المسوقون والمروجون. بل بالعكس، فقد كان الأكثر مبيعا علي مدي تاريخه الأكثر مدعاة للريبة والشك لخضوعه لشبهة التجارية، لأن الأدب الكبير يعتمد أولا وتاليا علي إنجاز الكاتب في نحت لغة خاصة به، وأسلوب خاص، وفكرة عميقة، ولا أظن ذلك قد تحقق في نصوص الأسواني. أما التواجد الإعلامي والحضور الجماهيري فلا يعني كثيرا لمسيرة النص الفني.
في الولايات المتحدة سنجد أن كاتبا مثل دان براون صاحب "شفرة دافنشي" قد باع من كتبه عشرات الملايين، لكنه لا يصنف أدبيا مع كبار الكتاب أمثال فيليب روث، أو بول أوستر، كما لا يقارن أيضا بهيمنجواي أو ميللر، ولا يزعم هو أكثر مما يفعله.الشاعر اللبناني أنسي الحاج له مقولة يقول فيها :"وغداً، بعد أن تختفي أصوات كثيرة وينحسر الموج، سيماط اللثام عن جواهر قليلة في قعر الجرّة المقدّسة". وأزعم أن كثيرا مما يطنطن له الآن لن يكون في قعر تلك الجرة».
ظاهرة علاء الأسواني، في الوقت نفسه، تستحق التوقف، لدلالاتها، في تغيرات صورة الكاتب، التي كان أبرز تجلياتها نموذجين أساسيين في مصر هما نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وقد كان لكل منهما أشياع وأنصار، يتحمس الفريق الأول لكاتب دءوب، يعتبر الكتابة جزءا من معني وجوده، يكرس لها حياته وينظم إيقاع الحياة لأجلها، بينما أشياع الثاني ينتصرون لما يسمونه وحشية الموهبة، والقدرة علي التقاط الأفكار الكبيرة من مشاهد الإنسانية وتكثيفها بروح الفن، والتقاط لحظات التناقض العميق في التركيبة النفسية للبشر، وصوغها قصصيا.وأيا ما كان أمر الكاتبين فقد كان كل منهما امتداداً لتراث طويل من الكتاب الذين قدموا صورتهم كمنتجين للأفكار، وداعين للقيم العقلية والليبرالية، وتحرير العقل المصري من أوهام الغيبيات، ولم يكن أي منهم مسوقا لنفسه كصاحب سلعة، فهذه تركوها للناشرين والجهات المختصة، وإنما كان كل منهم يعي جيدا أنه مفكر في المقام الأول، ومنتج أفكار، وليس خبيرا في التسويق. فلم نسمع يوما أن ذكر محفوظ أن كتابا من كتبه طبع أكثر من 14 أو 15 مرة، مثلا، رغم أن ذلك تكرر كثيرا لعدد كبير من أعماله في وقت كانت الطبعة من الكتاب تتجاوز 5000 نسخة. فمحفوظ وأمثاله كانوا امتدادا لجيل ذهبي من منتجي الثقافة والفكر، من أمثال سلامة موسي، عباس العقاد، طه حسين، توفيق الحكيم، يحيي حقي، وزكي نجيب محمود وغيرهم من كبار الكتاب والمفكرين. وكان أي لقاء إعلامي مع أي منهم بمثابة مساحة للتعرف علي أفكار جديدة، لا تخلو من العمق، وليس مجرد خطاب دعائي، وسياسي مباشر.امتدت الظاهرة لتخلق حالة من التشوش الإبداعي التي أسهمت في دخول حقل الكتابة يوميا من قبل مدعين يكتبون نصوصا صدرت وتم الاحتفاء بها، واختلط حابلها بنابلها، بينما لا ترقي للمنافسة مع أي نص إبداعي كبير مما يشيع في الغرب، ومما تناوله هذا الكتاب من مثل أعمال بول أوستر أو يوليا فرانك أو فريدون زايموجلو وغيرهم.إن الظاهرة، في الحقيقة، تكشف زمنا يسعي فيه البعض من المحسوبين علي الوسط الثقافي لتحويل دور الكاتب من كونه صاحب دور طليعي، ورؤي كاشفة، وعميقة، إلي واجهة إعلامية، وسيلتها صورة كاتب يستخدم خطابا ليس مهما محتواه، أو مدي عمقه، ويستخدم نسيجا لغويا دعائيا يداعب مشاعر الجمهور.كما أنها تروج لفكرة ربط الخفة والبساطة والحكي المباشر بانتشار العمل الأدبي، وتقدم نموذجا فجا للدعائية، صورتها نجومية الكاتب بأسلوب مستدعي من نجوم الفن والسينما، بعيدا عن صورة الكاتب الأصيلة، كمفكر، مطلع علي آداب العالم، قادر علي التقاط المعاني مما يراه.فعلي مدي تاريخ الأدب المعاصر، كان هناك رواج لكتاب من أمثال إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، ثم إسماعيل ولي الدين في عمله التجاري حمام الملاطيلي، وكان محفوظ وإدريس موجودين، لكن المناخ النقدي كان يضع كل نوع من تلك الأعمال في مكانه الطبيعي، ولم يفسر انتشار أعمال إحسان بين الجمهور خاصة المراهقات، أو رواية ولي الدين، بأنه دليل أو معيار قيمة، وهذا ما نبتغيه الآن وهنا.صحيح أن ظاهرة الأسواني لها ميزة إيجابية تمثلت في استعادة الجمهور للقراءة، وهو جمهور كان موجودا ينتظر مناخا يوفر له الكتاب عموما، لكني أظن أن الأدب الرفيع هو الذي سيستفيد مما قدمه علاء الأسواني بترويجه لرواياته. لا أعني هنا أنني أنفي حق أي شخص أن يصبح مليونيرا أو مليارديرا لو شاء، من الكتابة أو غيرها، فهذا شأنه، وحقه أيضا، كما أنني لست ضد أن يوزع مئات الملايين من النسخ، فليستمتع من يرغب من القراء بقراءة هذا النص أو ذاك، وليروج هو كما شاء، لكني فقط ضد ترجمة الشعبوية بالقيمة
نشرت في صحيفة البديل في 30 مارس2009
No comments:
Post a Comment