ألـبـر قـصـيـري عــاش ومــات فـي عـزلــتــه الــفــرنــســيــة... مــصــريــاً بــامــتــيـــاز
على الرغم من أن ألبر قصيري عاش في فرنسا لفترة تزيد على ثلثي عمره، إلا أنه عاش مصرياً ومات مصريا، عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، حيث لم تغيّر الأيام الفرنسية موضوعاته وأسئلته وهواجسه، ولم يسع خلال ذلك الى الحصول على الجنسية الفرنسية على مدى ما يناهز 63 عاما أمضاها جميعا في حي سان جرمان بباريس، منذ رحيله عن مصر في عام 1945. مع ذلك، لا يبدو أن المناخ الثقافي المصري تعامل مع الكاتب الراحل بالدرجة نفسها من التقدير للثقافة التي ينتمي إليها، هو الذي تعوّد أن يصف نفسه بـ"الكاتب المصري"، إضافة إلى أن رواياته وأقاصيصه الثماني، باستثناء عمل واحد، تدور حول طبقات المهمشين في المجتمع المصري. حتى الآن لم يترجم من أعماله سوى ثلاث روايات هي "شحاذون ونبلاء"، ثم "منزل الموت الأكيد" عن "دار سعاد الصباح"، و"العنف والسخرية" ترجمة محمود قاسم، في "سلسلة روايات الهلال"، احتفالا ببلوغ قصيري الثمانين من عمره، وحصوله على جائزة الأكاديمية الفرنسية عن هذه الرواية.
إذا كانت المخرجة السينمائية المصرية أسماء البكري نجحت في لفت الانتباه إلى اسم ألبر قصيري بعدما أخرجت فيلماً مأخوذاً عن روايته "شحاذون ونبلاء"، فإن المترجمة والشاعرة المصرية هدى حسين لعبت دورا لا يقل أهمية، في التركيز على خصوصية أسلوب قصيري الأدبي عندما ترجمت قصة "البنت والحشاش"، التي نشرتها مجلة "أدب ونقد"، في نهاية التسعينات، وأثارت اهتمام الوسط الأدبي والثقافي، ربما أكثر بكثير مما فعلته الروايات التي ترجمها محمود قاسم. السبب أن مستوى الترجمة أدى دورا كبيرا في توجيه الأنظار الى مستوى اللغة التي يكتب بها قصيري، وطبيعة الأجواء التي يعبّر عنها، والتي بدا واضحا توازنها بين اهتماماته بأسئلة وجودية وجمالية معا. فقد عكست ترجمة "البنت والحشاش" الدقة الشديدة التي تتمتع بها جملة ألبر قصيري الأدبية، وهذا ما أوضحه في إحدى المقابلات الصحافية بقوله: "تقريبا لم أكن أقوم بشطب أي كلمة. لكي أكتب كنت أنتظر إلى أن أجد الكلمة المناسبة. كان في وسعي أن أفتش عنها لبضعة أيام. لا توجد عبارات فائضة عن الحاجة في كتبي. لهذا السبب أكتب ببطء شديد".يوضح الشاعر والمترجم بشير السباعي في اتصال هاتفي معه، أنه سمع من الناقد الراحل غالي شكري، نقلا عن ألبر قصيري نفسه عندما التقاه غالي في باريس بعد صدور الترجمة العربية لبعض رواياته، أنه مستاء من الترجمة. وفي عام 2006 كانت فرنسا قد احتفت بإصدار الأعمال الكاملة لقصيري (متضمنة رواياته الست ومجموعة قصصية)، التي تصدرت يومذاك واجهات المكتبات الفرنسية. لكن الأمر في مصر، ظل على حاله. فلم يصدر المجلس الأعلى للثقافة والفنون أي أعمال مترجمة لقصيري. وكان الدكتور جابر عصفور، في خلال فترة توليه أمانة المجلس أوضح أن "المشروع القومي للترجمة" لم يكن لينشر سوى مستوى معين وجيد من الترجمة، وهذا ما تسبب في تأخير صدور أعماله، إذ لم يبادر أحد من المترجمين الجيدين بتقديم ترجمات لأعمال قصيري.يقول بشير السباعي، في ضوء خبرته كمترجم، إن الترجمة لا يمكن أن تتم إلا بمبادرات من مترجم يحب النص الذي يبتغي ترجمته، ويعرف أنه سيضحي بالكثير من الوقت، وسيبذل الكثير من الجهد لكي ينجز الترجمة. وكما فعلت هدى حسين، ولفتت الوسط الأدبي المعاصر الى ألبر قصيري عبر ترجمتها "البنت والحشاش"، لا بد أن يظهر جيل جديد من المترجمين يكون بينهم من يعرف قيمة نصوص قصيري، وخصائصها المميزة، ويتولى ترجمتها على الوجه المأمول. لكن المشكلة أن بعض أعمال قصيري قد سبق ترجمتها، وتالياً فإن إعادة ترجمتها بالدقة والمستوى اللائقين قد تستغرق بعض الوقت. ومع ذلك، فلا بد أن تترجم أعماله بشكل جيد ليتمكن القارئ العربي من التعرف الى الأسلوب الأدبي الخاص لألبر قصيري.لكن هل يكفي تبرير كل من عصفور والسباعي، لتوضيح أسباب تهميش ألبر قصيري في مسيرة الأدب المصري المعاصر؟ وهل اعتبر الوسط الأدبي أن أدب قصيري فرنكوفوني، ولا يدخل في نسيج الأدب العربي، بطيفه المصري على نحو خاص؟ وهل صحيح، كما أشاع بعض الأكاديميين، أن جرأة نص قصيري، ساهمت في عدم إقبال المترجمين على نقل أعماله؟
إذا كانت المخرجة السينمائية المصرية أسماء البكري نجحت في لفت الانتباه إلى اسم ألبر قصيري بعدما أخرجت فيلماً مأخوذاً عن روايته "شحاذون ونبلاء"، فإن المترجمة والشاعرة المصرية هدى حسين لعبت دورا لا يقل أهمية، في التركيز على خصوصية أسلوب قصيري الأدبي عندما ترجمت قصة "البنت والحشاش"، التي نشرتها مجلة "أدب ونقد"، في نهاية التسعينات، وأثارت اهتمام الوسط الأدبي والثقافي، ربما أكثر بكثير مما فعلته الروايات التي ترجمها محمود قاسم. السبب أن مستوى الترجمة أدى دورا كبيرا في توجيه الأنظار الى مستوى اللغة التي يكتب بها قصيري، وطبيعة الأجواء التي يعبّر عنها، والتي بدا واضحا توازنها بين اهتماماته بأسئلة وجودية وجمالية معا. فقد عكست ترجمة "البنت والحشاش" الدقة الشديدة التي تتمتع بها جملة ألبر قصيري الأدبية، وهذا ما أوضحه في إحدى المقابلات الصحافية بقوله: "تقريبا لم أكن أقوم بشطب أي كلمة. لكي أكتب كنت أنتظر إلى أن أجد الكلمة المناسبة. كان في وسعي أن أفتش عنها لبضعة أيام. لا توجد عبارات فائضة عن الحاجة في كتبي. لهذا السبب أكتب ببطء شديد".يوضح الشاعر والمترجم بشير السباعي في اتصال هاتفي معه، أنه سمع من الناقد الراحل غالي شكري، نقلا عن ألبر قصيري نفسه عندما التقاه غالي في باريس بعد صدور الترجمة العربية لبعض رواياته، أنه مستاء من الترجمة. وفي عام 2006 كانت فرنسا قد احتفت بإصدار الأعمال الكاملة لقصيري (متضمنة رواياته الست ومجموعة قصصية)، التي تصدرت يومذاك واجهات المكتبات الفرنسية. لكن الأمر في مصر، ظل على حاله. فلم يصدر المجلس الأعلى للثقافة والفنون أي أعمال مترجمة لقصيري. وكان الدكتور جابر عصفور، في خلال فترة توليه أمانة المجلس أوضح أن "المشروع القومي للترجمة" لم يكن لينشر سوى مستوى معين وجيد من الترجمة، وهذا ما تسبب في تأخير صدور أعماله، إذ لم يبادر أحد من المترجمين الجيدين بتقديم ترجمات لأعمال قصيري.يقول بشير السباعي، في ضوء خبرته كمترجم، إن الترجمة لا يمكن أن تتم إلا بمبادرات من مترجم يحب النص الذي يبتغي ترجمته، ويعرف أنه سيضحي بالكثير من الوقت، وسيبذل الكثير من الجهد لكي ينجز الترجمة. وكما فعلت هدى حسين، ولفتت الوسط الأدبي المعاصر الى ألبر قصيري عبر ترجمتها "البنت والحشاش"، لا بد أن يظهر جيل جديد من المترجمين يكون بينهم من يعرف قيمة نصوص قصيري، وخصائصها المميزة، ويتولى ترجمتها على الوجه المأمول. لكن المشكلة أن بعض أعمال قصيري قد سبق ترجمتها، وتالياً فإن إعادة ترجمتها بالدقة والمستوى اللائقين قد تستغرق بعض الوقت. ومع ذلك، فلا بد أن تترجم أعماله بشكل جيد ليتمكن القارئ العربي من التعرف الى الأسلوب الأدبي الخاص لألبر قصيري.لكن هل يكفي تبرير كل من عصفور والسباعي، لتوضيح أسباب تهميش ألبر قصيري في مسيرة الأدب المصري المعاصر؟ وهل اعتبر الوسط الأدبي أن أدب قصيري فرنكوفوني، ولا يدخل في نسيج الأدب العربي، بطيفه المصري على نحو خاص؟ وهل صحيح، كما أشاع بعض الأكاديميين، أن جرأة نص قصيري، ساهمت في عدم إقبال المترجمين على نقل أعماله؟
شخصياً، لا أظن أن جرأة نصوص قصيري قد تكون سببا من أسباب تجاهل ترجمته، لأن هناك أعمالا ترجمت بالفعل من دون أن تثير شيئا من هذا، لكن ربما يمكن النظر الى المسألة من زاوية مختلفة، ومنها وضع ألبر قصيري في سلة واحدة مع مجموعة السورياليين المصريين الذين ذاع صيتهم في أربعينات مصر من أعضاء "جماعة الفن والحرية"، أمثال جورج حنين، وكامل التلمساني، ورمسيس يونان، وأنور كامل، وفؤاد كامل.فغالبية هؤلاء، كما يرى الشاعر المصري مهاب نصر، ينتمون الى طبقة أريستوقراطية معزولة مرتين: مرة لرفضها المجتمع وقيمه التقليدية، وتاليا لعزلتها في اللغة الأجنبية التي يكتبون بها، على الرغم من الجانب الإيجابي المتمثل في صلتها بالمتغيرات والقيم الفنية الغربية، وموقعها من الحوادث التي تدور في المناخ العالمي إجمالا. لكن هنا تجدر الإشارة إلى أن ألبر قصيري تمتع بخصوصية كونه معبّرا عن الهامش المصري، والطبقات الاجتماعية الفقيرة في أدنى فئات الطبقة الوسطى، والطبقات الشعبية إجمالا. أما المستوى الثاني فيتمثل في عزلة ذلك الجيل من الكتّاب الفرنكوفونيين والسورياليين، وبينهم قصيري، لأسباب لها علاقة بمركزية سؤال الهمّ الوطني وتغليبه على السؤال الإنساني في الوسط الثقافي المصري. وهذا ما يذهب إليه مهاب نصر أيضا؛ إذ يلفت الى فكرة مهمة مفادها أن المسار الذي حافظت عليه الثقافة المصرية، لفترة طويلة، وكان له دور كبير في إقصاء هؤلاء الكتّاب من المشهد الثقافي المصري، هو مسار كان يضع الدائرة الوطنية في صلب أولويات الثقافة، وليس الدائرة الإنسانية. وتالياً، كان هذا المسار مسؤولا عن تهميش أي أسئلة أخرى بعيدة عن سؤال الوطنية، سواء أكانت أسئلة وجودية مما طرحها ألبر قصيري في أعماله، أم أسئلة فنية وجمالية مما طرحها مجمل إنتاج "جماعة الفن والحرية" في نصوصهم التي انتمت في غالبيتها الى تيارات السوريالية، شعرا ونثرا وفنا على السواء. وهو ما كانت له شواهد عديدة تمثلت في ظهور اتجاهات نادت بالتحرر من ثقل الإيديولوجيا والانحياز الى مقولة الفن للفن، عقب أزمات أو انكسارات وطنية وسياسية مثل هزيمة 67، التي تبلورت في إثرها محاولات في هذا المنحى لعدد من الكتّاب أبرزهم إدوار الخراط.الحقيقة أن البر قصيري، من بين كتّاب تلك المرحلة، كثيرا ما تم تمييزه بين أقرانه، بأقلام النقاد المصريين والمثقفين من دارسي الأدب الفرنسي، والفرنكوفونيين إجمالا. من هؤلاء الدكتورة أمينة رشيد، أستاذة الأدب الفرنسي، التي أشارت في معرض تناول جماعة السورياليين، إلى تميز ألبر قصيري بينهم، لأنه "استطاع بحق أن يمس الحياة المصرية الصميمة".
تقول الفنانة والصحافية والناقدة المسرحية منحة البطراوي: "قرأت ثلاثة أعمال لقصيرى لا أتذكر منها سوى "تنابل الوادي الخصيب"، حيث يكتب عن مصر والمصريين بدراية فائقة، بما يجعل من غير الممكن اعتباره استشراقيا. هو كاتب ذو أسلوب، على عكس بعض الفرنكوفونيين الذين أبدوا اهتماما بمصر أو الشرق مثل روبير سوليه الذي يعتمد على الأفكار والموضوعات فلا تجد له أسلوبا أدبيا خاصا". وتؤكد البطراوي ضرورة ترجمته الى العربية بشكل جيد، "فهو كاتب مصري يكتب بالفرنسية وعلى القراء العرب التعرف اليه".يجمع قراء ألبر قصيري على أنه كاتب مصري يكتب بالفرنسية، وهذا صحيح، إذ أنه على رغم طول إقامته في فرنسا لم يكتب شيئا عن المجتمع الفرنسي أو الفرنسيين. "لم أغادر القاهرة لكي أهجر مصر. جئت إلى باريس لأن الأدباء المعتبرين كانوا يعيشون فيها. فرنسا بالنسبة اليَّ هي ستاندال، سيلين، مالرو، وأيضا لويس غويو، جان جينيه، جوليان غراك". المفارقة أن قصيري الذي كتب عن مصر والمصريين لم يأته التقدير من هناك بل جاءه من القراء الفرنسيين، وهذا بديهي طالما أنه يكتب بلغة هذا الجمهور، مع الأخذ في الاعتبار الطابع الخاص للغته التي أضفى عليها تأثيرا خاصا يناسب الثقافة التي يعبر عنها وهي الثقافة العربية. لكنه يعرف جيدا أن القراء في النهاية يتماثلون: "كتبي تتموقع في القاهرة، في الإسكندرية، في دمياط أو داخل إمارة صحراوية. غير أن ما أكتبه يخص كل الناس. فضلا عن ذلك، كلما مررت بشارع السين أجد قراء يحيّونني، يتحلقون حولي، يشرحون لي إلى أي درجة يتملكهم الإحساس بأنهم معنيون ومتأثرون بكتبي. الناس هم الناس سواء أكانوا في مصر أم في سان جرمان، الاختلاف يكمن في اللغة، إضافة إلى الموقف الشرقي الذي ينتمي بعمق إلى شخوصي: أنهم يشاطرونني أسلوبي في التفكير".
أخيرا، تجدر الإشارة إلى أن نمط حياة ألبر قصيري نفسه لعب دورا حيال تهميشه في الثقافة المصرية، إذ لم يبد اهتماما بالإعلام، وعاش مدى حياته في فندقه الباريسي "لا لويزيان" في حي سان جرمان، يتنقل بينه وبين مقهى "لو فلور" حيث أمضى سنوات مديدة يتناول فيه قهوته ويلتقي صحبته، ويرقب الصبايا والجميلات، ويتأمل ويفكر في ما يكتبه، عازفا عن الشهرة والأضواء والثرثرة.الثقافة الفرنسية هي التي أعادت الاعتبار الى ألبر قصيري بنشر أعماله الكاملة وتكريمه في الأكاديمية الفرنسية، كما منحته الثقافة الغربية ألقابا عدة منها "فولتير النيل". أما مصر، ومثلما يشيع في الثقافة العربية إجمالا، فإنها غالبا لن تنتبه إليه إلا بعد رحيله، وتضفي عليه هالة التقدير التي لا تمنحها سوى للأموات. لكن، لا بأس في ذلك، ما دامت الفائدة ستعود الى القارئ وإن متأخرة. لكن هذه المفارقة ربما تكشف الاختلاف الجوهري بين ثقافتهم الغربية وثقافتنا
العربية: فتلك ثقافة للحياة، وهذه ثقافة لا تمجد سوى الموتى، ونبش القبور
إبراهيم فرغلي
نشر المقال في (صحيفة النهار) اللبنانية -27 يونية 2008!
1 comment:
أستاذ ابراهيم
اتفق معك تماما في التجاهل الذي أحاط البير قصير ، والذي لا مبرر له سوي اننا مقصرون في تقديم أصوات مصرية عاشت بالخارج ، فقط لمجرد أنهم عاشوا بالخارج
أعلمك أن الجرائد الاسبانية العادية تناولت موت ألبير قصير بكثير من الاهتمام ، بينما لم أجد نصف هذا الاهتمام في الجرائد العربية ن اللهم إلا اخبار الأدب . وهي جريدة متخصصة و ليست عادية .
مقالك ذو قيمة بالطبع ، فهو يلفت النظر لحياة هذا الكاتب ، لكننا كالعادة نحتفل بالموتي .
تحياتي اليك.
Post a Comment