2008-1968
من الرومانتيكية إلى الواقعية
يمتد آبائي وأمهاتي الى متون الأهرام وحكايات البغبغان، بل وإلى حضارة المايا أيضا، ولهذا فأنا لا أشعر بأبوة جيل محدد لي(..) أما عن جيل الستينيات فأعتقد أني كنت أتمنى، فقط، أن أكون حاضرة أثناء مايو 1968 ، وفي مظاهرات الطلبة سنة 72".
هذه الفقرة المقتطفة من كلمات الشاعرة والمترجمة هدى حسين في حوار نشر في صحيفة الشرق الأوسط ، توجز تأثير "موجة 1968" في مصر من جهة، وانقطاع تأثيرها على الراهن المعاصر الآن، وهنا. فهذا الجيل الذي ولد أغلب أفراده في سنوات متناثرة حول عام 1968، لا يشعر بتأثير جيل الستينات الذي عاصر حركة 1968، باستثناء التفاعل "النوستالجي" مع مظاهرات الطلبة في الجامعات المصرية في مطلع السبعينات من القرن الماضي، وأن التأثير الحقيقي الذي شعر به جيل التسعينات يمتد مباشرة إلى حركة 68 في صيغتها الأوروبية الأصلية
الخلط بين السياسة و الثقافة
ولكي أستكمل الصورة أتوقف لدى نموذج من النماذج الشخصية للرفض الثوري الذي جسده شخص المثقف الراحل إبراهيم منصور، أحد مؤسسي مجلة "جاليري68" الشهيرة، التي كان لها دور كبير في ترسيخ وجود جيل الستينات الأدبي. كما أنه أحد أشهر معارضي سياسات الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في السبعينات ، والذي استقرت شخصيته في الوعي الجمعي للمثقفين المصريين بوصفه "الضمير الوطني" الذي يسلط سيف نقده الحاد على كل ما يتعارض مع الشعور الوطني العام. جسد إبراهيم منصور، بهذه التركيبة، نموذجا لخلط المثقف المصري ، بين السياسي والإيديولوجي بالثقافة. الذي ميز ذلك الجيل حتى أصبح سمة من سمات الثقافة المصرية ، وهو على وجه التحديد الموضوع الذي يلقى رفضا صريحا من جيل التسعينات، الذي ينحو نحو الفردية، متحيزا للجمالي على حساب الإيديولوجيا ، مفضلا أن يراجع كل ما استقر في وجدان الثقافة المصرية، من رواسخ الأفكار والإيديولوجيات .
المزيد من الاستقلال للجماعات الطلابية
صحيح أن هذا الجيل لعب دورا مهما في الستينات والسبعينات منطلقا من ظروف خاصة منها نكسة عام 67، لكن ليس من المستبعد أن يكون لحركة 68 الفرنسية ، دور وتأثير بالغ في المظاهرات المرتبطة بذلك الجيل في نوفمبر 68 في مصر، خاصة وأنها بلغت من القوة أن استجاب لها عبد الناصر بإصدار قرار بإلغاء الأحكام التي صدرت ، وتمت الاستجابة لمطالب الطلبة الخاصة بإعطاء مزيد من الاستقلال والفاعلية وحرية الحركة لاتحاداتهم، والسماح للاتحادات بالعمل السياسي. وصدر قرار رئيس الجمهورية رقم 1523 لسنة 1968، بشأن تنظيم الاتحادات الطلابية منفذا لهذه المطالب. لكن هذا الجيل، الذي نجح في أن يضغط على عبد الناصر، لم يكن له كبير أثر في حداثة المجتمع المصري، لاحقا، ولم يستطع مواجهة الفساد والتغييب اللذين تعرض لها المجتمع المصري خلال الثمانينات والتسعينات، بالرغم من كل انشغالاته السياسية والإيديولوجية التي لم يكتف بطرحها في السياسة وانما أثر بها في الأدب أيضا، ولعل هذا ما تسبب في الرفض الذي أعلنه جيل التسعينات لذلك الجيل، إيديولوجيا وإبداعيا ، وسياسيا.
حركة 68 هي حركة مدينية
فقد نشأ ذلك الجيل مستفيدا من إيجابيات ثورة 1952، ومنها مجانية التعليم، ومزايا الضمانات الاجتماعية التي قررتها الثورة، من جهة، لكنه أيضا، كان نتاج المناخ الذي قررته الثورة وأصبح سمة عامة في المجتمع كله، وهي تسيد أهل الثقة على أهل الكفاءة في المجتمع. وكان من نتائج الثورة أيضا حصول أهل الريف المصري من شبابه المتطلعين على قدر جيد من التعليم، وفرص للعمل في القاهرة، إلا أنهم حضروا إلى القاهرة مصطحبين معهم تراثهم من العادات والتقاليد والسلوكيات والقيم الخاصة، التي احتفظوا بها، بدلا من أن يستبدلوها بقيم الحياة المدنية العصرية، وبدلا من أن تضفي العاصمة قيمها المدنية على الأقاليم، إذا بها تستورد هي قيم تلك الأقاليم متحولة إلى مدينة مسخ ، تكاد لا تميز فيها بين المعاصر والمدني، من فرط اختلاطهما بعضهما البعض.
لذلك، لا يمكن مقارنة نتائج حركة 68 في أوروبا، بما حدث في القاهرة، لأن حركة 68 قام بها أبناء مدينة، بكل ما يعنيه ذلك من سلوك وثقافة. بينما نظيرتها التي تجسدت بحركة الطلبة، لم تكن كذلك، في مجملها. إذ أن هناك اختلاف جوهري بين المثقف في الثقافتين ؛ فيمكن القول أن المواطن المصرى - وربما العالم ثالثى - ليس كالمواطن الفرنسي والإنجليزى . فالمواطن المصرى كما يشير اللفظ بوضوح هو ابن الوطن، فى حين أن الـ
الخلط بين السياسة و الثقافة
ولكي أستكمل الصورة أتوقف لدى نموذج من النماذج الشخصية للرفض الثوري الذي جسده شخص المثقف الراحل إبراهيم منصور، أحد مؤسسي مجلة "جاليري68" الشهيرة، التي كان لها دور كبير في ترسيخ وجود جيل الستينات الأدبي. كما أنه أحد أشهر معارضي سياسات الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في السبعينات ، والذي استقرت شخصيته في الوعي الجمعي للمثقفين المصريين بوصفه "الضمير الوطني" الذي يسلط سيف نقده الحاد على كل ما يتعارض مع الشعور الوطني العام. جسد إبراهيم منصور، بهذه التركيبة، نموذجا لخلط المثقف المصري ، بين السياسي والإيديولوجي بالثقافة. الذي ميز ذلك الجيل حتى أصبح سمة من سمات الثقافة المصرية ، وهو على وجه التحديد الموضوع الذي يلقى رفضا صريحا من جيل التسعينات، الذي ينحو نحو الفردية، متحيزا للجمالي على حساب الإيديولوجيا ، مفضلا أن يراجع كل ما استقر في وجدان الثقافة المصرية، من رواسخ الأفكار والإيديولوجيات .
المزيد من الاستقلال للجماعات الطلابية
صحيح أن هذا الجيل لعب دورا مهما في الستينات والسبعينات منطلقا من ظروف خاصة منها نكسة عام 67، لكن ليس من المستبعد أن يكون لحركة 68 الفرنسية ، دور وتأثير بالغ في المظاهرات المرتبطة بذلك الجيل في نوفمبر 68 في مصر، خاصة وأنها بلغت من القوة أن استجاب لها عبد الناصر بإصدار قرار بإلغاء الأحكام التي صدرت ، وتمت الاستجابة لمطالب الطلبة الخاصة بإعطاء مزيد من الاستقلال والفاعلية وحرية الحركة لاتحاداتهم، والسماح للاتحادات بالعمل السياسي. وصدر قرار رئيس الجمهورية رقم 1523 لسنة 1968، بشأن تنظيم الاتحادات الطلابية منفذا لهذه المطالب. لكن هذا الجيل، الذي نجح في أن يضغط على عبد الناصر، لم يكن له كبير أثر في حداثة المجتمع المصري، لاحقا، ولم يستطع مواجهة الفساد والتغييب اللذين تعرض لها المجتمع المصري خلال الثمانينات والتسعينات، بالرغم من كل انشغالاته السياسية والإيديولوجية التي لم يكتف بطرحها في السياسة وانما أثر بها في الأدب أيضا، ولعل هذا ما تسبب في الرفض الذي أعلنه جيل التسعينات لذلك الجيل، إيديولوجيا وإبداعيا ، وسياسيا.
حركة 68 هي حركة مدينية
فقد نشأ ذلك الجيل مستفيدا من إيجابيات ثورة 1952، ومنها مجانية التعليم، ومزايا الضمانات الاجتماعية التي قررتها الثورة، من جهة، لكنه أيضا، كان نتاج المناخ الذي قررته الثورة وأصبح سمة عامة في المجتمع كله، وهي تسيد أهل الثقة على أهل الكفاءة في المجتمع. وكان من نتائج الثورة أيضا حصول أهل الريف المصري من شبابه المتطلعين على قدر جيد من التعليم، وفرص للعمل في القاهرة، إلا أنهم حضروا إلى القاهرة مصطحبين معهم تراثهم من العادات والتقاليد والسلوكيات والقيم الخاصة، التي احتفظوا بها، بدلا من أن يستبدلوها بقيم الحياة المدنية العصرية، وبدلا من أن تضفي العاصمة قيمها المدنية على الأقاليم، إذا بها تستورد هي قيم تلك الأقاليم متحولة إلى مدينة مسخ ، تكاد لا تميز فيها بين المعاصر والمدني، من فرط اختلاطهما بعضهما البعض.
لذلك، لا يمكن مقارنة نتائج حركة 68 في أوروبا، بما حدث في القاهرة، لأن حركة 68 قام بها أبناء مدينة، بكل ما يعنيه ذلك من سلوك وثقافة. بينما نظيرتها التي تجسدت بحركة الطلبة، لم تكن كذلك، في مجملها. إذ أن هناك اختلاف جوهري بين المثقف في الثقافتين ؛ فيمكن القول أن المواطن المصرى - وربما العالم ثالثى - ليس كالمواطن الفرنسي والإنجليزى . فالمواطن المصرى كما يشير اللفظ بوضوح هو ابن الوطن، فى حين أن الـ
citizen
الأوروبى هو ابن المدينة
city
..
وليس هذا الفارق اعتباطيا ، ولا هو ناتج عن سوء الترجمة" كما يشير شريف يونس (-الحوار المتمدن - العدد: 339 - 2002 / 12 / 16 ) . ولعل هذا الفهم الملتبس بفكرة الثقافة وعلاقتها بالوطن بدلا من علاقتها بالحقيقة كان واحدا من أسباب افتقاد جيل 68 المصري للتأثير في الأجيال اللاحقة، وفي فشله في المساهمة في تثوير وتحديث المجتمع.. كما أن ذلك الجيل لم يستطع التخلص من جذور الثقافة التقليدية، القائمة على ثنائية القيم المتناقضة التي تتجذر من ثنائية الحلال والحرام، فكان تفكيره يقوم على هذه الثنائية.
الطابع الرومانتيكي للحركة الطلابية
أما السبب الثاني الذي أسهم في انعدام التأثير هو عدم الجدية في تدوين الأفكار وتسجيلها بحيث يمكن مناقشتها وتطويرها، لاحقا. وأظن، أن إبراهيم منصور قد مثل وجها من وجوه هذا الاستخفاف بأهمية عكوفه على الإنتاج الفكري أو الثقافي، فعند تأمل ظاهرة إبراهيم منصور سنجد أننا أمام نموذج من نماذج الثقافة الشفاهية ! فتأثيره مقصور على حلقة ضيقة التفت حوله، أو تعاملت معه بشكل مباشر، ونقلت عنه، دون أن توثق ما يقوله. وبالتالي ظلت حدود تأثيره لا تتعدى هذه الحلقة الضيقة
الطابع الرومانتيكي للحركة الطلابية
أما السبب الثاني الذي أسهم في انعدام التأثير هو عدم الجدية في تدوين الأفكار وتسجيلها بحيث يمكن مناقشتها وتطويرها، لاحقا. وأظن، أن إبراهيم منصور قد مثل وجها من وجوه هذا الاستخفاف بأهمية عكوفه على الإنتاج الفكري أو الثقافي، فعند تأمل ظاهرة إبراهيم منصور سنجد أننا أمام نموذج من نماذج الثقافة الشفاهية ! فتأثيره مقصور على حلقة ضيقة التفت حوله، أو تعاملت معه بشكل مباشر، ونقلت عنه، دون أن توثق ما يقوله. وبالتالي ظلت حدود تأثيره لا تتعدى هذه الحلقة الضيقة
.
ثمة نوع من الرومانتيكية، إذن، في تناول إبراهيم منصور، وهو طابع عام لدى جيل السبعينات، وما قبله، فيما يبدو، كان موضعا لملاحظة الباحث شريف يونس عن الحركة الطلابية المصرية والتي عبر عنها بقوله: "أن ظروف السبعينات المختلفة قد أدت إلى قيام حركة طلابية مختلفة تتميز بالتمثيل الرومانتيكى المجرد (..) فالبطل الرومانتيكى عندها دائما وأبدا لا يأكل ولا يشرب ، وإنما يناضل فحسب ، وهو لا يعمل أيضا". مع ذلك، فهناك استثناءات عديدة، وخاصة من داخل الحركة الطلابية نفسها وبينها أحد أبرز رموزها مجسدا في شخص المثقف الراحل "أحمد عبدالله رزة" الذي أدى دورا بارزا في قيادة الحركة الطلابية في أثناء انتفاضتها.
ترأس أحمد عبد الله رزة طالب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية اللجنة الوطنية العليا للطلاب التي قادت انتفاضة الطلبة في يناير 1972 وهي الانتفاضة التي يعتبرها الكثيرون- اليسار خاصة- تمهيدا لحرب 1973 مع العدو الإسرائيلي، وقاد أشهر اعتصام طلابي من نوعه في حرم الجامعة ولم ينفض إلا بواسطة عصي جنود الأمن المركزي الغليظة وتعرض للاعتقال ثلاث مرات خلال عامي 72 و73.
وبالرغم من ذلك فإن أحمد عبدالله بالنسبة لجيل التسعينات، وإن كان قد تغلّب على الكثير من آفات جيله، يظل أقرب للثقافة الميكروفونية الجماهيرية، التي لا ينظر لها الجيل الجديد بعين التقدير، خاصة من المثقفين .
محاولة للحداثة في العصر الحديث في مصر
ومع كل ذلك، فلا يمكن أن نفصل بين حركة 68 الأوروبية، وتأثيراتها في مصر، وبين أي محاولة للحداثة في العصر الحديث؛سواء في أشكال الأزياء التي سادت آنذاك، وفي العلاقات المفتوحة، وبدء مرحلة جديدة من الفهم المختلف للعلاقات بين الجنسين، أو في شكل أسلوب حياة مختلف يقترب من "الهيبز" تجلى في إطلاق الشباب شعر رؤوسهم، وغيرها. إلا أن هذه الموجة بدأت تنحسر بالتدريج مع نهاية السبعينات وصعود المد الأصولي الإسلامي الذي أطلقه الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في محاولة لكبح جماح التيارات اليسارية والشيوعية، مكرسا حالة من التحفظ والنزوع الديني الذي تسلل إلى المجتمع المصري. أما بالنسبة لجيل التسعينات، فهو أيضا ليس نسيجا واحدا.فإذا كان هناك، عدد من أبناء هذا الجيل ممن يبدون متأثرين بحركة 1968، فهناك أيضا، عدد كبير من أبناء نفس الجيل من مثقفي الريف الذين تتجلى تناقضاتهم في كتاباتهم وفي سلوكياتهم على السواء، كما أن هناك قطاع منهم من المحافظين التقليديين الذين يعتبرون أنفسهم من المستنيرين، الطليعيين، لكنهم، ليسوا كذلك.
ففي نهاية عام 1997 ؛ مثلا، أجرت صحيفة فرنسية حوارا مع عدد من المثقفين الذين يعتبرون من المستنيرين الطليعيين، تحدثوا عن أفكارهم حول الكتابة الجديدة، وعلاقتهم بالأجيال السابقة، عبروا عن الطابع الفردي لهم، وعن عقليتهم المتحررة، بشكل عام. وفي الأسبوع اللاحق نشر كاتب صحفي ينتمي عمريا لنفس الجيل، هو الآن سينارست من ألمع كتاب السينما التجارية الجماهيرية في مصر، وهو بلال فضل. هاجم الكاتب الحوار والكتاب المصريين في مقال لاذع نشره في صحيفة الدستور الأسبوعية بعنوان" إشتم أهلك وبلدك وسيب الباقي علينا".
قدم الكاتب هنا نموذجا تسعينيا يمتد لأزمة الأجيال السابقة عليه، فهو يدغدغ مشاعر الجماهير من جهة، ومن جهة أخرى يجعل من نفسه وصيا على الضمير الوطني، ويبدو غارقا في الفهم المحدود للثقافة بوصفها أفقا للوطنية، متخليا عن دور المثقف الحقيقي الباحث عن الحقيقة بمعايير إنسانية ومتجردة. وهي أيضا، في أحد أوجهها ظاهرة أزمة هوية عانى منها المواطن المصري، وكثير من مثقفيه. لكن أزمة الهوية هذه لا تنطبق على هذا القطاع المتحفظ من المثقفين والفنانين، فقط، وإنما يمتد لقطاع آخر من المتمردين الذين أرادوا أن يصنعوا تجربة مختلفة، لعل أبرزها تجربة "جماعة الجراد" التي تزعمها شاعر من جيل السبعينات هو أحمد طه، حاول بها احتضان عدد من شعراء جيل التسعينات في بداياتهم، الا أنها لم تستمر طويلا، على المستوى الفني، من جهة، كما أن الكثيرين ممن أحاطوا بها، حاولوا الانخراط في تجارب حياتية تحاول التجرد من كل ما هو أخلاقي، أو بورجوازي، كما أرادت أن تختبر كل المقولات الثورية الأوروبية، وفي القلب منها طبعا، ما أثارته حركة 68. إلا أن مصر 2008 لها، رغم كل ذلك، امتدادات وثيقة الصلة بحركة 68، بما تعنيه من رفض القيم السائدة، سواء على مستوى السلطة، أو على مستوى القيم الاجتماعية المحافظة التقليدية، على السواء، لكنها حركة لا يمكن ملاحظتها إلا عبر وسائل التقنية المعاصرة والحديثة ممثلة في شبكة الإنترنت، والتي تجلت على مدى العامين الماضيين عبر عدد من المدونات "البلوجز"، و كشفت وعيا مختلفا لعدد كبير من الشباب المتفتح ، فكريا وحياتيا، الناقد للسلطة، بجرأة وبوعي.
"بلوجر" ينتقدون الحكومة
وفي عام 2008 تجلت ظاهرة أخرى جديدة، تبدو كأنها التطور الطبيعي لمجتمع المدونات وما أفرزه من وعي، وهي ظاهرة تكوين مجموعات سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، من خلال وسائط الاتصال الإلكتروني، والتي ساعد على نموها بشكل مطرد، الشعبية المتلاحقة لخدمة face book. من بين الجماعات الإلكترونية المنشأة حديثا مثلا جماعة " support Sawiris "، وهي جماعة تستهدف مناصرة رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس الذي يقدم عددا من الأنشطة الثقافية، من خلال مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية .خاصة وأنه أنشأ قناة تليفزيونية مصرية منوعة تعرض فيها الأفلام السينمائية بلا حذف ولا رقابة ، ما أثار حفيظة بعض أعضاء التيارات الدينية. (وقد بلغ عدد أعضاءها ما يناهز 6400شخصا حتى وقت كتابة هذا المقال) . من الجماعات اللافتة التي أنشأت على "face book" أيضا ، جماعة خاصة بعمل انتخابات رئاسة إلكترونية إقترحت عددا من المرشحين ، وقد بدا لافتا أن الأغلبية في الأصوات لم تذهب لأي من الأسماء المتوقعة على الساحة السياسية. وعنوان هذه المجموعة هو" من ترشح لانتخابات 2011؟ تعال وادل بصوتك في انتخابات حرة"، وقد تجاوز عدد أعضاءها 4000 عضوا، وما زال التفاعل مستمرا. بالإضافة لعدد آخر من المجموعات التي تتعدد اهتماماتها.
مصر 2008 تبدو لي أكثر تأثرا بحركة 1968 ، بكل ما تمثله من دعوة للتغيير، وتجاوز القيم المستقرة، والتحرر من عبء قيود أثقلت كاهلها طويلا ولا زالت: سياسيا واجتماعيا وقيميا ودينيا، عبر جيل شاب، يبدو وكانه يستعيد حركات التحرر والتحديث، لكن بطريقته التي تنأى عن الصخب والصوت العالي، والكلمات البراقة والشعارات الثورية، وتقترب من الهمس، والحوار الفعال، والأفكار الجديدة التي ينبغي لها أن تجد طريقها لتؤسس المناخ المناسب لليبرالية.
إبراهيم فرغلي صحافي و كاتب من القاهرة
ثمة نوع من الرومانتيكية، إذن، في تناول إبراهيم منصور، وهو طابع عام لدى جيل السبعينات، وما قبله، فيما يبدو، كان موضعا لملاحظة الباحث شريف يونس عن الحركة الطلابية المصرية والتي عبر عنها بقوله: "أن ظروف السبعينات المختلفة قد أدت إلى قيام حركة طلابية مختلفة تتميز بالتمثيل الرومانتيكى المجرد (..) فالبطل الرومانتيكى عندها دائما وأبدا لا يأكل ولا يشرب ، وإنما يناضل فحسب ، وهو لا يعمل أيضا". مع ذلك، فهناك استثناءات عديدة، وخاصة من داخل الحركة الطلابية نفسها وبينها أحد أبرز رموزها مجسدا في شخص المثقف الراحل "أحمد عبدالله رزة" الذي أدى دورا بارزا في قيادة الحركة الطلابية في أثناء انتفاضتها.
ترأس أحمد عبد الله رزة طالب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية اللجنة الوطنية العليا للطلاب التي قادت انتفاضة الطلبة في يناير 1972 وهي الانتفاضة التي يعتبرها الكثيرون- اليسار خاصة- تمهيدا لحرب 1973 مع العدو الإسرائيلي، وقاد أشهر اعتصام طلابي من نوعه في حرم الجامعة ولم ينفض إلا بواسطة عصي جنود الأمن المركزي الغليظة وتعرض للاعتقال ثلاث مرات خلال عامي 72 و73.
وبالرغم من ذلك فإن أحمد عبدالله بالنسبة لجيل التسعينات، وإن كان قد تغلّب على الكثير من آفات جيله، يظل أقرب للثقافة الميكروفونية الجماهيرية، التي لا ينظر لها الجيل الجديد بعين التقدير، خاصة من المثقفين .
محاولة للحداثة في العصر الحديث في مصر
ومع كل ذلك، فلا يمكن أن نفصل بين حركة 68 الأوروبية، وتأثيراتها في مصر، وبين أي محاولة للحداثة في العصر الحديث؛سواء في أشكال الأزياء التي سادت آنذاك، وفي العلاقات المفتوحة، وبدء مرحلة جديدة من الفهم المختلف للعلاقات بين الجنسين، أو في شكل أسلوب حياة مختلف يقترب من "الهيبز" تجلى في إطلاق الشباب شعر رؤوسهم، وغيرها. إلا أن هذه الموجة بدأت تنحسر بالتدريج مع نهاية السبعينات وصعود المد الأصولي الإسلامي الذي أطلقه الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في محاولة لكبح جماح التيارات اليسارية والشيوعية، مكرسا حالة من التحفظ والنزوع الديني الذي تسلل إلى المجتمع المصري. أما بالنسبة لجيل التسعينات، فهو أيضا ليس نسيجا واحدا.فإذا كان هناك، عدد من أبناء هذا الجيل ممن يبدون متأثرين بحركة 1968، فهناك أيضا، عدد كبير من أبناء نفس الجيل من مثقفي الريف الذين تتجلى تناقضاتهم في كتاباتهم وفي سلوكياتهم على السواء، كما أن هناك قطاع منهم من المحافظين التقليديين الذين يعتبرون أنفسهم من المستنيرين، الطليعيين، لكنهم، ليسوا كذلك.
ففي نهاية عام 1997 ؛ مثلا، أجرت صحيفة فرنسية حوارا مع عدد من المثقفين الذين يعتبرون من المستنيرين الطليعيين، تحدثوا عن أفكارهم حول الكتابة الجديدة، وعلاقتهم بالأجيال السابقة، عبروا عن الطابع الفردي لهم، وعن عقليتهم المتحررة، بشكل عام. وفي الأسبوع اللاحق نشر كاتب صحفي ينتمي عمريا لنفس الجيل، هو الآن سينارست من ألمع كتاب السينما التجارية الجماهيرية في مصر، وهو بلال فضل. هاجم الكاتب الحوار والكتاب المصريين في مقال لاذع نشره في صحيفة الدستور الأسبوعية بعنوان" إشتم أهلك وبلدك وسيب الباقي علينا".
قدم الكاتب هنا نموذجا تسعينيا يمتد لأزمة الأجيال السابقة عليه، فهو يدغدغ مشاعر الجماهير من جهة، ومن جهة أخرى يجعل من نفسه وصيا على الضمير الوطني، ويبدو غارقا في الفهم المحدود للثقافة بوصفها أفقا للوطنية، متخليا عن دور المثقف الحقيقي الباحث عن الحقيقة بمعايير إنسانية ومتجردة. وهي أيضا، في أحد أوجهها ظاهرة أزمة هوية عانى منها المواطن المصري، وكثير من مثقفيه. لكن أزمة الهوية هذه لا تنطبق على هذا القطاع المتحفظ من المثقفين والفنانين، فقط، وإنما يمتد لقطاع آخر من المتمردين الذين أرادوا أن يصنعوا تجربة مختلفة، لعل أبرزها تجربة "جماعة الجراد" التي تزعمها شاعر من جيل السبعينات هو أحمد طه، حاول بها احتضان عدد من شعراء جيل التسعينات في بداياتهم، الا أنها لم تستمر طويلا، على المستوى الفني، من جهة، كما أن الكثيرين ممن أحاطوا بها، حاولوا الانخراط في تجارب حياتية تحاول التجرد من كل ما هو أخلاقي، أو بورجوازي، كما أرادت أن تختبر كل المقولات الثورية الأوروبية، وفي القلب منها طبعا، ما أثارته حركة 68. إلا أن مصر 2008 لها، رغم كل ذلك، امتدادات وثيقة الصلة بحركة 68، بما تعنيه من رفض القيم السائدة، سواء على مستوى السلطة، أو على مستوى القيم الاجتماعية المحافظة التقليدية، على السواء، لكنها حركة لا يمكن ملاحظتها إلا عبر وسائل التقنية المعاصرة والحديثة ممثلة في شبكة الإنترنت، والتي تجلت على مدى العامين الماضيين عبر عدد من المدونات "البلوجز"، و كشفت وعيا مختلفا لعدد كبير من الشباب المتفتح ، فكريا وحياتيا، الناقد للسلطة، بجرأة وبوعي.
"بلوجر" ينتقدون الحكومة
وفي عام 2008 تجلت ظاهرة أخرى جديدة، تبدو كأنها التطور الطبيعي لمجتمع المدونات وما أفرزه من وعي، وهي ظاهرة تكوين مجموعات سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، من خلال وسائط الاتصال الإلكتروني، والتي ساعد على نموها بشكل مطرد، الشعبية المتلاحقة لخدمة face book. من بين الجماعات الإلكترونية المنشأة حديثا مثلا جماعة " support Sawiris "، وهي جماعة تستهدف مناصرة رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس الذي يقدم عددا من الأنشطة الثقافية، من خلال مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية .خاصة وأنه أنشأ قناة تليفزيونية مصرية منوعة تعرض فيها الأفلام السينمائية بلا حذف ولا رقابة ، ما أثار حفيظة بعض أعضاء التيارات الدينية. (وقد بلغ عدد أعضاءها ما يناهز 6400شخصا حتى وقت كتابة هذا المقال) . من الجماعات اللافتة التي أنشأت على "face book" أيضا ، جماعة خاصة بعمل انتخابات رئاسة إلكترونية إقترحت عددا من المرشحين ، وقد بدا لافتا أن الأغلبية في الأصوات لم تذهب لأي من الأسماء المتوقعة على الساحة السياسية. وعنوان هذه المجموعة هو" من ترشح لانتخابات 2011؟ تعال وادل بصوتك في انتخابات حرة"، وقد تجاوز عدد أعضاءها 4000 عضوا، وما زال التفاعل مستمرا. بالإضافة لعدد آخر من المجموعات التي تتعدد اهتماماتها.
مصر 2008 تبدو لي أكثر تأثرا بحركة 1968 ، بكل ما تمثله من دعوة للتغيير، وتجاوز القيم المستقرة، والتحرر من عبء قيود أثقلت كاهلها طويلا ولا زالت: سياسيا واجتماعيا وقيميا ودينيا، عبر جيل شاب، يبدو وكانه يستعيد حركات التحرر والتحديث، لكن بطريقته التي تنأى عن الصخب والصوت العالي، والكلمات البراقة والشعارات الثورية، وتقترب من الهمس، والحوار الفعال، والأفكار الجديدة التي ينبغي لها أن تجد طريقها لتؤسس المناخ المناسب لليبرالية.
إبراهيم فرغلي صحافي و كاتب من القاهرة
Copyright: Goethe-Institut, Online-Redaktion
حقوق نشر الموضوع لمعهد جوتة في إطار ملف شامل عن 1968، وتأثيرها على أوروبا والعالم، والمقال موجود على موقع الملف بالإنجليزية والألمانية
وبالتعاون مع مجلة فكر وفن التي تنشر عددا من الموضوعات المشاركة في الملف
هذا المقال نسخة مختصرة من مقال موسع يفترض نشره في مجلة فكر وفن
3 comments:
أنا بشكر حضرتك علي هذا المقال الرائع
أنا قرأت مقال في باب الثقافة الألكترونية في مجلة العربي عن الصحافة البديلة ( صحافة المواطن ) أعتقد أنه لحاضرتك ( ولا هو تشابه أسماء
المقال رائع ويدل علي أنناأمام شخصية دائما شغوفة بتحليل والتنبؤ بما هو جديد
دائما تثرينا وتمتعنا بما هو جديد
أشكرك جدا يا صديقي على الاهتمام، أنت تخجلني
ونعم أنا نفس الشخص
ولذلك قلت لك أنني لست في القاهرة لأنني الآن أعمل في مجلة العربي في الكويت
محبتي
Post a Comment