البــــــــــــــــــــــــلاد..وهم الحدود المصنوعة بالدم!
إبراهيم فرغلي
بين صور عديدة صاحبتني في أحلام يقظتي المراهقة صورة الرحالة الذي يمر على بلاد العالم، يلقي بنفسه بين البشر وآثار البلاد، ثم يترك البلد تلو الآخر، تاركا جزءا من روحه في المكان كطيف، ويختفي.
ظلت هذه الصورة تلاحقني دون أن أتمكن من تحقيقها، رغم انها باغتت اللاوعي مرات عدة، ولعلني كدت أستسلم إليها غير مرة، لولا أنني كنت أوقظ نفسي من أحلامي بعنف واعود إلى الواقع، تارة، أو بالإنصات لصوت مطارق الواقع تارة أخرى.
ارى آثار اقدام امرأة ترتدي خلخالا وتسير باتجاه الشمس على رمال الصحراء، رمال ناعمة ورطبة تلتمع بلون هجين بين صفرة محمرة داكنة وظلال من لون الطين. قدمان نحيلتان لامرأة نحيفة تتتابع خطواتهما بدلال ودأب. لا أسمع صوت الخلخال. ولا أعرف الجهة التي أتت منها صاحبة القدمين الخمريتين الناعمتين، ولا الجهة التي تسعى إليها. أين تذهب في هذا التيه الشاسع؟ من أي أرض جاءت وإلى أي أرض تنتمي؟ ولكني سرعان أشعر بعبثية السؤال حين ترتفع نبرة سؤال آخر أكثر إحاحا:لكن أليست الأرض كلها لنا؟
انفجر السؤال في ذهني وأنا أحدق من الطائرة التي تحوم حول الصحراء، رأسي قريب من رأس دي الماسي، المريض الانجليزي الذي اصطحب جثة عشيقته كاثرين كليفتون، في الطائرة ليحلق معها في سماء بلا حدود أعلى صحراء رسمت تلالها ومسارات طبقات الرمال فيها أجساد بشرية عارية تطفو أعلى بلاد بلا خارطة أو حدود. لوحة جسدية عالمية للبشر الذين يجسدون الأرض التي يجب أن يعيشوا عليها جميعا أحرارا بلا حدود سياسية أو جغرافية.
لم يتحقق حلمي ولم أكتسب صفة الرحالة كما حلمت، ولكني ايضا لم اعش في مكان واحدز قضيت فترات طفولتي بين مسقط في سلطنة عمان ومدينتي دبي ورأس الخيمة في الإمارات. وظلت مسقط بجبالها ، بعلاقاتها المتنافرة صلابة ورقة، مع البحر او السحب، ووديانها، وقلاعها بكل دلالاتها التاريخية، وتراث السحر عند أهلها وطيبتهم المتناهية، وقُراها الصامتة البسيطة الخاوية أحيانا، والغامضة في الوقت نفسه، وبقيظها الملتهب هي أكثر ملامح ذكريات طفولتي رسوخا وسطوعا.
وبعدما عدت لمصر عشت دائما على الحد الفاصل بين كوني مزدوجا بين الغريب والآخر. لم اشعر يوما بأنني أعيش في وطن. كان إحساسي بالغربة يفوق وعيي بانتمائي للمكان. واكتفيت من المكان بتكوين الهوية بكل تراثها اجتماعيا وثقافيا وتراثا، لكنني كفرد يعيش في المكان كنت نائيا وبعيدا وغريبا باستمرار.
كان لتجربة الخليج دورا في نشأتي وحيدا متأملا، مصادقا لذاتي، راضيا وقانعا بالعزلة والفردية، وبالمونولوج الخاص المستمر مع الذات، وبذلك الإحساس المفرط بالأمان النابع من صحبة الذات.
في مصر، وبالتحديد في المنصورة حيث ولدت وإلى حيث عدت في بداية مرحلة المراهقة بعد سنوات الخليج، وجدت الشارع، مخيفا، ولغته غريبة، وطباعه مختلفة، كان مزيجا مثيرا من الأليف البسيط، التراثي، الشعبي، والهمجي معا، لكني بقدرتي على التكيف، ورغبتي في التغلب على مظاهر خجلي وعزلتي ألقيت بنفسي في الشارع، واوجدت لنفسي مساحة خاصة في التعامل مع صبية ومراهقين من عمري لم أستطع أن ازيل البتة إحساسي بالاختلاف الكامل معهم وحتى هذه اللحظة. وكنت إذا مر على رفقتي المستمرة بهم ثلاثة أو أربعة ايام ينتابني شعور مؤرق بالضجر والارتباك والتوتر النفسي الشديد، وبرغبة حارقة في الجلوس مع ذاتي والاستماع لمخاوفي وأحلامي، والانطلاق بمساحة خيالي إلى مداها مع الفتيات التي أحلم بهن وبالبلاد التي اتوق لأن أعيش بها.
رافقت الكتب بديلا بديهيا عرفت صحبتها منذ الطفولة المبكرة وكان لها فضل إنقاذي من هاويات العدم والعبثية السحيقة التي رأيت كثيرا من هؤلاء الصحاب يسقطون فيها تباعا بلا أمل ولا هدف ولا طموح ولا معنى. بل وكان لهذه الصحبة فضل انتشالي من تجربة الانخراط في الجماعات الإسلامية في ذروة نشاطها الذي سبق اغتيال السادات مطلع الثمانينات.
وهكذا تكشف لي مبكرا أن فكرة الوطن بقدر ما هي فكرة تستأثر وجدانيا وعاطفيا بالفرد غير أنها لم تجسد عندي منتهى الطموح، فكلما استقرت حياتي في مصر لسنوات كلما احسست بقوة الغربة، لأسباب لم أستطع تحديدها بشكل واضح لكن ربما أهمها انني عادة ما كنت افتقد لغة مشتركة مع رفاقي، وفي اختلاف رؤية الأمور، كنت مختلفا حريصا على إخفاء هذا الاختلاف، أعيش بينهم قارئا ولا اتحدث معهم عن اي كتاب، ولاحقا كاتبا، ولا اظهر ما أكتبه لأي منهم. كان هناك ثمة شيء محدود وخانق ومحصور في المجتمع الصغير الممثل لحدود مدينتي الصغيرة المنصورة، وعندما هربت منها إلى القاهرة قبل حتى أن أنتهي من دراستي الجامعية كنت أشعر انني كمن كان غارقا في أعماق المياه وانتهى الأمر به اخيرا إلى سطح المياه وانفتحت رئته على الحياة بعد ان كاد يعد في عداد الأموات. لكن وجودي في القاهرة لم يستغرق سوى سنوات اربع اكتشفت بعدها أنني استنفذت فضاء القاهرة، واكتسى لونها المشرق بلون رمادي كئيب جعلني راغبا في التحليق بعيدا إلى مكان جديد.
كانت مشكلتي مع المنصورة انها مجتمع مسخ بين الريف وبين المدينة. مدينة شكلا، لكنها ريف من حيث القيم والعادات والتقاليد والطموحات، وبقدر ما بدت لي القاهرة في بداية انتقالي إليها مطلع التسعينات عالما جديدا لانهائيا يمتلك الكثير مما حلمت به لحياة عصرية مدنية ومتحررة، لكنها سرعان ما خذلتني لأني اكتشفت أنها تجتذب دوائر الريف بقيمه العتيقة أيضا وتفتح لها ذراعيها حتى يختلط فيها كل شيء. مدينة تسلم ذاتها ، لكنها تسلمها غصبا، وبدلا من ان تفرض قيمها المدنية على ساكنيها الجدد سرعان ما تمتثل لمنطق عكسي غريب، كأنها تنتقم لروحها التي سرقت منها، فتريفت وأصبحت مكانا خانقا لم أقوى على الحياة فيه.
وسرعان ما بحثت عن أية وسيلة للسفر، ولم تتح لي اي فرص سوى العودة إلى مركز طفولتي مرة أخرى.. مسقط.. التي عدت إليها مقتولا من الحنين إلى مواطن طفولتي فيها: المدرسة التي كنت أسير اليها يوميا على بعد ثلاثة كيلومترات من المنزل، فرن الخبز الإيراني القريب منها، المقهى الذي كنت أهرب غليه أحيانا من المدرسة خوفا من مدرسين اشبه بالغيلان، البيت العتيق الذي عشت فيه، شجرة النبق التي كنت قد زرعتها في حديقة المنزل قبل سنوات وهالني أنها لا تزال موجودة، بعد كل تلك السنوات التي تجاوزت العشر، وجذعها كبر وتمرد على جزء من السور المتاخم لها فكسرته، والكنيسة التي اديت بها طقوس الصلاة ذات مرة حين أودعني ابي في مدرسة تابعة لها يوم أحد وافق عطلة المدرسة فما كان من راعية المدرسة الا اصطحابي لتلك الكنيسة. وسوق روي العتيق الذي كنت أمر عليه يوميا ذهابا وإيابا من وإلى المدرسة. لكني أدركت ، وبسرعة، ان الأشياء التي كانت ضخمة وكبيرة بوعي طفولتي قد تجردت من تلك العملقة الزائفة واضحت صغيرة، وبعد سنوات ثلاث شعرت مرة اخرى بالاحتياج للرحيل.
قررت أخيرا أن احقق حلمي بالذهاب إلى المدينة - الحلم ورفيقة خيال الطفولة: باريس.
في نافذة غرفة الفندق الصغير في شارع 4 سبتمبر كنت أحدق الى الشارع غير مصدق..أنا في باريس..المدينة الحلم التي أثار خيالنا عنها طه حسين في أيامه الصعبة الأليمة والشاقة ومعه توفيق الحكيم متقنعا بقناع عصفور الشرق..وكلما استعدت هذه اللحظة التي استيقظت بها في أول صباحاتي في باريس كلما أدركت كم كانت لحظة استثنائية..
تنشقت الهواء واطلقت نفسي في باريس ..المتاحف: اللوفر، جورج بومبيدو، معارض فن للفنون الجنسية الإيروتيكية..مقبرة الباثيو، مبنى "لوموند"، السربون، منزل فيكتور هيجو ..كاتدرائية نوتردام..قصر العدل، ساحة الباستيل، كنت أسير كل يوم كيلوات عدة بلا توقف أمتع ناظري وأجلس الى اكبر عدد ممكن من مقاهي الرصيف اتجرع القهوة الفرنسية الفاتنة بحبور، شارع رويال حيث عروض الأفلام الجنسية وبيوت الشهوات.. ادخل الى سينما تعرض افلاما فرنسية بلا ترجمة لتروفو... كنت أعيش في حلم..ومع ذلك فقد باغتني الواقع مرتين: الأولى حين تأملت باريس ليلا من على جسر صغير مطل على السين وعلى نوتردام وكانت على عكس خيالي عنها..مدينة حزينة بلا اضاءات مبهرة كما كنت أتصور..وفي المترو كان الأفارقة الكثر يمنحوني إحساسا متناقضا عن باريس الأخرى، وذلك الشاب الباريسي الذي يشبه شخصية تان تان الكارتونية الشهيرة الذي كان ينام جالسا طول الليل متلحفا بالصوف الذي يرتدي مادا يديه لما قد يمنحه إياه المارة، كان يخطف قلبي، ويريني باريس الفقر والعنصرية، ، باريس الإمبريالية التي تعلم العالم الثورة والحرية بينما يعيش في هوامشها فقر مدقع، وبطالة، واحلام موءودة على رصيف الرأسمالية العالمية التي راحت تشوه كل قيمة في العالم بامتياز.
أما الثانية فكانت تتعلق بضرورة الرحيل خوفا من الاضرابات التي كانت تزداد يوميا ومنعتني من ركوب المواصلات الا نادرا.
اخفيت خوفي من المغامرة باستمرار اللإقامة في باريس حيث كنت انتويت ان اكمل إقامتي بها مغامرا الى ان يقضي الله أمرا ، بدعوى الخوف من الاضرابات واحتمال وصولها الى عمال المطار ما قد يمنعني من السفر أذا قررت، ولكني لم أستطع أن أمنع نفسي ولسنوات عن المقارنة.. وعن إحساس الفرنسي بوطنه مقارنة بإحساسي انا المصري بوطني..ففي النهاية ورغم كل شيء كيف يمكن أن يكون إحساس من ينتمي لبلد تفتخر بثورة الديمقراطية والحرية والعدل في العالم وبين شخص ينتمي لبلد انهكه المستعمر حتى كاد ان يقضي عليه.
لكني، وبالرغم مما تشربته من نوازع وطنية لم اكن شوفينيا قط..كنت بسبب حياتي خارج مصر لسنوات طويلة منذ الطفولة قد اكتسبت قدرة على التكيف مع اي مكان يقدر لي أن أعيش فيه، كما تخلصت من تلك الميوعة العاطفية المصرية الشائعة لدى المصريين على يقين بأن الوطن فكرة اكثر من كونه مكان..وأن اغترابي المستمر لا علاقة له بالأماكن بقدر ما له علاقة بالبشر..وكلما وجدت من أستريح اليهم، أيا كانت جنسياتهم، واوطانهم، كلما تبدد احساسي بالغربة..تماما كما شأني مع مقهى آلفه فيصبح لي وطنا صغيرا لأنه يمنحني ما يسعدني من صحبة للذات والتأمل والكتابة والإحساس بالإنسانية.
لماذا تخايلني صورة القدمين الحافيتين لتلك الفتاة التي لا اعرف لها ملامحا، وإلى أين؟ هل الوطن هو مجرد الحلم بالحياة معها في مكان ما؟ ام أن اقتفاء أثرها هذا في حد ذاته هو يقين بان الحياة ليست سوى رحلة البحث عن وطن؟
لعلها أتاة هجين اباها من بلد بعيد نصف اوروبي ونصف شرقي، وهو ما يعني أنه ايضا متعدد الهويات، ولعل امها نصف مسلمة ونصف مسيحية، او ربما نصف سنية ونصف شيعية، أو لعلها هجين من هذا كله: امرأة العالم الجديد مختلطة الهوية بكل ما يعنيه ذلك من زوال حدود فاصلة بين البلاد والعقائد والطوائف..إنسانة تخطو في صحراء الإنسانية بحثا عن أرض جديدة بلا تمييز.
حين قرأت رواية حبل سري لمها حسن اكتشفت أزمة الاكراد لأول مرة: شعب يعيش بهوية ولكن بلا وطن، ليس كالفلسطينيين حتى الذين انتزعوا من اوطانهم، بل هم يعيشون في مكان يشبه الوطن لكنه لا يمثل هويتهم الحقيقية، شعب يعيش في شتات وجودي حقيقي، ولم تغب عن مخيلتي باستمرا في اثناء قراءة هذه الرواية التي فتنت بها البدون، هذه الفئة التي تختلف عن الأكراد في جزء آخر، فهم يمتلكون هويتهم لكنهم يعيشون بلا حقوق من أي نوع؟
في حال الغضب اصرخ لنفسي كثيرا بأننا نحن الوطن، نحن الأوطان: حتى لو كانت اوطانا لا مرئية، اوطانا تصنعها أرواحنا التي تهفو لكل ما يجسد ضمير الإنسانية وقيمها.
تسير صاحبة القدمين الحافيتين بلا كلل بحثا عن وطن ربما أو تأكيدا ربما لفكرة أن "الرجل تدب مطرح ما تحب" كما يقول فؤاد حداد..وكل اثر تسير فوقه يصبح وطنا لها طالما أن الإنسانية هي الاصل الحقيقي لكل البشر بعيدا عن الحدود المصطنعة والقوميات والاختلافات التي اصبحت اليوم لا تعد ولا تحصى.
في كهف معتم وبارد انطفات شمعته الأخيرة فاضت روح كاترين كليفتون، عشيقة المريض الإنجليزي، قضت عليها شكوك الولاءات المريضة لحدود اوطان تقدس رسم الحدود على كل قيمة أخرى ولأجلها تقتل كل من لا يقع داخل هذا الإطار الحدودي المصنوع باسم سلطة متعطشة لحكم أي بقعة من الأرض، تبيع نفسها لمن يرسم لها تلك الحدود وتمنحها كل ما تملك من كرامة مقابل ان تغذي عطشها المريض للسلطة والنفوذ ولتحكم في مصائر البشر.
في الفضاء الافتراضي اليوم يبدو العالم بالفعل عالما بلا خرائط مفتوح بعضه على بعض تتدفق بينه الأفكار والأحلام والثورة والدموع بلا حدود، تنسال بينه الأحزان وتتدفق القصائد..تشكل هوية جديدة لوطن يتسع للإنسانية.. لحق الشعوب في ان تعيش اينما تشاء وكيفما تشاء، تقتفي أثرها الأوطان بينما لا تقتفي هي سوى الضمير الذي فقده وضيعه كل من رسموا الحدود والخرائط والأوطان.
محاولة تجريبية للكتابة القيت في ملتقى الثلاثاء 6 ديسمبر 2011 - الكويت
1 comment:
كنت في الملتقى عندما القى ابراهيم تلك المحاولة التجريبية للكتابة في 6 ديسمبر 2011 - الكويت .
استمعت وكانني استمع صوت نفسي مع تغيير الامكنة. المحاولة تشد ,واعتقد أن الكاتب جمع عصارة ذكرياته فيه,جذبني من أول فقرة ووجدت نفسي منصتة الي أن أغلق الكاتب اوراقه.
Post a Comment