إبراهيم فرغلي في أبناء الجبلاوي
بقلم : د. صلاح فضل
إبراهيم فرغلي روائي شاب مجرب, يطمح إلي تجاوز سابقيه بإتقان فنه وابتكار طرائقه, لكنه يغالب هواجسه الإبداعية بارتياد دروب صعبة من المغامرة المحسوبة في الكتابة, والمجاهدة المشبوبة للتجريب. وفي هذه الرواية الجديدة اللافتة أبناء الجبلاوي والمثيرة بعنوانها وتركيبها يجترح فرغلي لونا عسيرا من السرد المتشح بالأسطورة والمغرق في اللامعقول, يمتزج في عشقه المحموم لعوالم شيخه نجيب محفوظ برغبته الحارقة في بعثها ومساءلتها وربما نفيها بالمسخ والتشويه, وذلك باستخدام تقنية جريئة تتمثل في تشكيل كيانات سردية متشعبة علي هوامشها, في محاولة لموازاة بنيتها الملحمية ودلالتها المجتمعية, لكنه ينتهي إلي صياغة مطولة, ممتعة ومتعبة, مفككة وملفقة, تطرح ظل محفوظ علي الحياة المصرية بكثافتها ومتغيراتها من ناحية, وتناوش فضاءات مغايرة لمؤلفين يقف وراءهم أقران من الجن, ونساء يختبئ في إهابهن ضجيج الشهوة وصرير التجريب الحداثي لأنماط الحياة وأشكال العلاقات.تعدد الأصوات وتشتت البؤرةالخاصية البارزة لهذه الرواية المهمة التي تقع في أربعمائة وسبعين صفحة, هي تناوب عدة من الرواة من رجال ونساء, من الإنس والجن القرناء, في بعض الحالات يعود الراوي العليم بكل شئ.وأول الرواة يسمي كبرياء, وهو لقيط قضي سنوات عمره في ملجأ الأيتام, تبنته امرأة موسرة لم تلبث أن انتهت إلي دار للمسنين, ومنحه رفيق فهمي اسمه قبل أن تتكشف علاقته به, ومن ثم فقد أصبح حريصا علي زيارته وكتابة سيرته الذاتية علي ورق بردي قديم, حتي توحي بزمن قديم له مجده وتألقه. بيد أن القضية المحورية التي يشغل بها هذا الراوي الأول وتلقي ظلالها علي بقية أجزاء الرواية هي لغز اختفاء جميع كتب نجيب محفوظ من كل المكتبات الخاصة والعامة, والطريف أن الموضوع يتم طرحه علي الطريقة المصرية الحالية, فالصحف القومية التي تؤثر الحيطة وتميل إلي تكريس الاستقرار تنشر خبرا بصياغة شبه موحدة ينفي شائعة اختفاء كتب محفوظ ويعد بإصدار طبعات إضافية منها قبل أن تعلن عن مسابقات وطنية لمن يحفظ مقاطع من فقراتها, بينما تنشر الصحف المستقلة والمعارضة أنباء وتقارير تؤكد أن أقسام الشرطة تلقت بلاغات بهذا الخصوص, ويكتب رئيس تحرير إحداها مقالا بعنوان اندثار أعمال محفوظ: صدفة أم مخطط مدبر يتحدث فيه عن خطة إرهابية دينية تستهدف إخفاء التراث الثقافي الإنساني وأوله أعمال محفوظ علي أن الرواية تنقسم إلي أربعة أجزاء,يتبادل السرد فيها إلي جانب هذا الراوي صديقته نجوي, وهي حالة خاصة, من أكثر النماذج النسائية حيوية وحضورا وغرابة, ثم الكاتب المفترض, ويدعي كاتب الكاشف, علي طريقة محفوظ في الأسماء الدالة, وينفرد بشرح ظروفه وسيرته الذاتية قرينة الجني, ويتولي مثل ذلك قرين نجوي, في الوقت الذي تتفاقم فيه مشكلة اختفاء كتب محفوظ, وتظهر شخصيات رواياته في أنحاء متفرقة من القاهرة, فيبدو كمال عبدالجواد, كما رسمه نجيب محفوظ في الثلاثية, لا كما قدمه حسن الإمام في الأفلام السينمائية وهو يسير في الجمالية, وتظهر حميدة في زقاق المدق, ويتجول السيد أحمد عبد الجواد نفسه في حي الحسين, ويري الناس عملاقا يبدو أنه عاشور الناجي أو الجبلاوي نفسه وهو يسير بطول العمارات في الشوارع, في الوقت الذي تشغل فيه عشرات الصفحات في التحليل النفسي للأطياف والأشباح التي تعج بها الرواية وهي تغمز من حين لآخر في نقد الواقع المصري وما استشري فيه من فساد يتجسد في هيئة طيور سواء عملاقة تخيم علي سماء القاهرة وتهدد حياة السكان.يختلط الوهم بالخيال الخلاق ويعثر علي جثة رفيق فهمي مقتولا وتتشابك المصائر والأحداث, لكن كاتب الكاشف يدخل في قبو رمزي في مكانه وزمانه ومناخ الحرافيش المسيطر عليه حيث يعيش أبطال محفوظ يدبرون وسيلة لإنقاذ أنفسهم وإنقاذ مصر, وتقوم رادوبيس بدور لطيف لتحقيق ذلك, حتي تنتهي الرواية ـ مثل أضغاث الأحلام ـ دون أن يتمكن القارئ من إدراك النسق الكلي الذي ينتظم أجزاءها الأربعة التي كان من الممكن, بل والأولي, تفصيل روايات مستقلة منها. علي أن المؤلف نفسه في لفتة حداثية لا يكتم اعترافه بذلك وإيثاره للروح التجريبية في اختراق قوانين الحس والطبيعة واستثمار الإمكانات التخييلية والأسطورية, ويبدو أنه يطمح إلي تحقيق نموذج عربي للواقعية السحرية, غير أن محصلته الأخيرة تختلف جذريا عن ذلك في درجة تماسك النص وأحكام الإطار الملحمي وتناغم السياقات الوجدانية, فرواية أبناء الجبلاوي علي ما تحققه من شعرية لافتة تعاني من تشتيت البؤرة وتفاوت الإيقاع وإن تميزت بمشاهد عالية من السرد الجميل
نشرت في الأهرام في 17 اغسطس 2009
No comments:
Post a Comment