Sunday, November 10, 2013

فهد العسكر ومعصيته


فهد العسكر ومعصيته
ظنوا أنهم صلبوه.. لكن هيؤ لهم!

 

إبراهيم فرغلي

 



لا يمكن لمن يسمع أو يعرف شيئا عن سيرة فهد العسكر إلا ويدرك أنه إزاء سيرة  شاعر فريد، من أصحاب الموهبة، ممن عاشوا حياتهم في العتمة، لكنهم تمتعوا في المقابل بوهج بصيرة باطنية.  البصيرة التي أصبح بفضلها فهد العسكر، الكفيف النحيل، رشيق الروح والوجدان، شاعر القرن العشرين في بلاده.

في كتابه الجديد "معصية فهد العسكر"، الصادر عن دار العين في القاهرة، يقدم الباحث الكويتي عقيل يوسف العيدان إعادة قراءة لسيرة العسكر بوصفه "الوجودي" الكويتي الرائد، السابق لزمنه بحثا عن حقيقة بعيدة عن وعي أهل زمنه ومكانه، والمثير للتساؤلات أبدا.

وأظن أن سيرة فهد العسكر ملهمة ، بوصفها سيرة شاعر مختلف سابق لزمانه، رفض الكثير من القيم السائدة وانتقد السلطة الأبوية والسياسية، ووصفت قصائده  بالغرائزية وبالإثارة، من قبل جمهور واسع على رأسه مجايليه من أهله وأقرانه، كما تعرض لتهم أخرى حاولت إقصائه من المجتمع ووأد قصائده، فعاش وحيداً معتزلاً أغلب سنوات عمره القصير، ثم تعرضت قصائده للحرق لاحقاً وبعد وفاته ، وهي السيرة التي صنعت من وجوده كله فكرة شديدة الإلهام.

العيدان في كتابه المهم هذا، تجاوز التناول التقليدي لفهد العسكر من قبل بعض الكتاب والباحثين الكويتيين والذي تراوح بين سرد سيرته الدرامية حينا، أو العكوف على شعره – أو بالأحرى ما تبقى من قصائده التي أحرقت على يد بعض أفراد عائلته- حينا آخر. وهناك كتابان مهمان عن الشاعر الراحل أحدهما للدكتور عبدالله زكريا الأنصاري بعنوان "فهد العسكر، حياته وشعره"، وآخر للدكتورة نورية النوري بعنوان "شعر فهد العسكر، دراسة تحليلية ونقدية"،  يتناولان حياة فهد العسكر وشعره.

لكن العيدان في تقديري آثر أن يرصد جانباً مختلفاً يخص سيرة هذا الرجل المتفرد؛ والتي تمثلت في كونه صاحب موقف وجودي إنساني.. إضافة إلى توثيق الكتاب بكافة المقابلات الإذاعية وبعض الحوارات مع الشخصيات الكويتية ممن عايشوا العسكر وتناولوه في تلك الحوارات لرسم صورة شخصية عنه كشخص وعن موهبته الشعرية.

يقول عقيل العيدان في تقديم الكتاب:"لقد حققت الوجودية خلال تاريخها ومحطاتها كثيراً من الإنجازات المهمة، يقتضي الاحتفاء بها وبطاقتها الثورية في الإنصات إلى الحكايات الصغرى، التي تشكل أحد روافدها الإبداعية، وبينها حكاية فهد العسكر المثيرة للاهتمام". مضيفا أن العسكر كان على غرار الوجوديين العظام، مقيدا بمنطق الإنسان الحي، وأن الوجودية ضخت حيوية قصوى في أفكار وأشعار فهد العسكر "الكفيف"، صاحب النظارة السوداء والنحيل حد الاختفاء، والذي أعلن في قصائده حبه لأكثر من امرأة، والإنسان الذي حلم أن يتنقل بين الحيوات برشاقة.

وقبل أن يقوم عقيل العيدان ببحث وتحليل مظاهر "الوجودية" في فكر وفلسفة حياة فهد العسكر، ثم إرهاصات تلك الفلسفة في شعره، فإنه يقدم جولة واسعة في تاريخ الفلسفة الوجودية، متتبعا جذور المفهوم، والاجتهادات الفكرية التي صاحبت محاولات تعريف المصطلح.

 يشير العيدان أنه حين يستخدم عبارة "فلسفة وجودية" فإنه يذكر ذلك تجاوزا:"فالوجودية حينما قامت إنما جاءت مناقضة من ناحية، وعاملة من ناحية أخرى في اتجاه مضاد لتلك الفلسفات/ المذاهب/ الإديولوجيات/ التيارات الجماعية التي تدعو إلى صبّ الناس في قوالب معينة من ناحية الاعتقاد والتفكير واسلوب الحياة ونوع السلوك".  

يخصص العيدان فصلاً كاملاً يورد فيه تاريخ الوجودية في الفكر الأوروبي الحديث، ويتجول في ملاعب الفكر والفلسفة متتبعا بداية المفهوم التي يرى أن لها إرهاصات تعود إلى حقبة الإغريق وخصوصا مع سقراط ومرورا بكتابات القديس اوغسطين (430م) ونصوص الفيلسوف الفرنسي باسكال 1623-1663  لبعض اعمال فلاسفة التنوير الفرنسيين وبينهم فولتير. مرورا بالفيلسوف الدنماركي كيركجارد بوصفه المرجع الأساس لكل الوجوديين من حيث هو أول فلاسفة الوجودية الحديثة في تقديم الوجود على الماهية والذات على الموضوع. إلى نيتشة ومنه إلى أصداء الفينومينولوجي في وجودية الألماني إدموند هوسرل ووصولا لسارتر الذي ارتبط اسمه بالفلسفة الوجودية بشكل كبير.

  ثم ينتقل الكتاب إلى حركة الفكر في الكويت، إذ يرصد العيدان نشأة التعليم في الكتاتيب ثم التعليم النظامي عقب إنشاء المدرسة المباركية، ويتوقف عند تاريخ الفكر المتشدد في الكويت، أولا لارتباط هذا التشدد ببداية احتكاك التعليم في الكويت ببعض رموز الفكر العرب وبينهم من يرى المؤلف أنهم كانوا سببا في بث بذور التشدد في الفكر الكويتي،  وبينهما اسمين مركزيين هما محمد رشيد رضا والسيد محمود شكري الألوسي الذي عد "في طليعة الذين كنوا الولاء للخطاب الوهابي".

 وقد "خيم على التعليم في الكويت بدءا من الكتاتيب وانتهاء بالمدارس النظامية كلها شبح ما يمكن أن نطلق عليه الاعتقاد القادري بشكل صريح أو ضمني. فقد ترسخت في العقول منذ زهاء ألف سنة فكر هذا الاعتقاد الذي أنهى التعددية العقائدية والمذهبية السابقة عليه وفرض على الجميع اعتناق عقيدة واحدة او مذهب واحد هو التأويل الحنبلي الأصولوي للإسلام". ويذكر العيدان أن نص الاعتقاد القادري يمثل انقلابا كاملا على الخليفة العباسي عبدالله المأمون (786-833). الذي تميز برعايته ىتشجيعه ليس فقط لعلم الكلام العقلاني وانما ايضا للفلسفة والترجمات وبيت الحكمة.

ويورد فقرة دالة عن سياسات التعليم في الكويت نفهم منها ضمنيا ان استمرار الموقف المحافظ المنغلق ضد فهد العسكر واشعاره الى اليوم من بعض مجايليه يعني ضمنيا ان الأسباب الثقافية والفكرية، الرجعية والمحافظة واللاعقلانية والأصولوية، التي جيشت لكل ألوان نبذ العسكر ووصفه بأبشع الصفات في زمانه، لا تزال لها إرهاصاتها اليوم. 

يقول العيدان:"إن الموقف الحنبلي الأصولوي الدوغمائي التقليدي الذي ظهر جليا في نص الاعتقاد القادري هو الذي تبنته مناهج التعليم في الكويت خلال النصف الأول من القرن العشرين – على الأقل إن لم أقل حتى الآن- والذي كان أحد نتائج "سياسات التوهيب" في الكويت، إذ نرصد الموقف المضاد للانفتاح  والتعدد الفكري نفسه ما زال متواصلا ومستمرا ".

 في هذه البيئة نشأ فهد العسكر الذي ولد وفقا لتقديرات العديد من الكتاب في العام1917، ودرس في الكتاتيب، ثم انتقل الى المدرسة المباركية التي كان لها أثر كبير في تعلقه بالشعر العربي، ولكن أغلب دراسته كانت دينية، ولكنه بعد أن سافر إلى البصرة، وهناك تفتحت آفاق تفكيره، فأقبل بكل قوة على منابع الأفكار الجديدة، وبعد عودته للكويت أقبل على قراءة كل ما يقع تحت يديه في الأدب والفكر والثقافة العامة، وهو ما تسبب في أن يتخفف من أفكاره الدينية المتشددة.

 وبعد التكون الثقافي والانفتاح الفكري الإنساني بدأ فهد العسكر، كما يشير الكتاب، العمل على تحويل الواقع "العيني" المعيش إلى شعر "وجودي"، فكان سعيه الحثيث لتحرير فكر المجتمع الكويتي، آنذاك، من ربقة الأفكار المفروضة عليه من خارجه، بما هي خرافات ومواضعات وثوابت أصولوية لا تمت إلى حياتهم اليومية المباشرة بصلة، والسعي إلى منحه حريته الحقيقية.

أما عن طبيعة حياته، فيشير العيدان بناء على شهادات مجايليه وبينهم ما ذكره الأنتصاري ففي كتابه، أو نقلا عن صديقه المثقف الراحل عبدالرازق البصير، أنه لم يتزوج، ليس لقلة المال، فقد ورث عن أبيه المال، ولكن لأنه رفض الارتباط بما يتعارض مع قناعاته الوجودية وبينها الاختيار الحر المتجدد للإنسان في الحياة، وزهد في القيود بكافة أشكالها وبينها الالتزام بوظيفة إذ عمل فقط لفترة معلما لأبناء أحد أمراء السعودية ثم انقطع. وأقام في بيته ما يشبه منتدى أدبيا للمثقفين وشباب الشعراء الذين كانوا يستمعون لأشعاره ويلقون عليه قصائدهم ويحتكمون لذائقته وآرائه.

لكن المجتمع الكويتي بأوساطه السياسية والاجتماتعية والدينية انقسمت حوله وحول أشعاره التي رأى الكثيرين أنها تفوح بالفسوق والوقاحة والزندقة وبدأت بشائر حملة التشهير والتكفير ضده.

ويناقش المؤلف كل التفاصيل المتعلقة بما تعرض له العسكر من إيذاء من مجتمعه آنذاك، مفندا كل التهم التي نالت منه وبينها حتى الاتهام بالتكفير، مستدلا على عكس ذلك من أبيات شعره ومواقف حياتية نشرت أو ذكرها المقربون من أصدقائه وسوى ذلك.

كما يشير إلى جانب مهم يتعلق بالنقد السياسي الحاد واللاذع الذي عرف به العسكر تجاه السلطة السياسية آنذاك، وكانت سببا بين أسباب أخرى في تأليب المجتمع عليه.

وبالرغم من محاولاته للتماسك إلا أنه عانى في أيامه الأخيرة، واضطربت حياته حتى قيل انه الذي أوصى بحرق قصائده لما تسببت فيه له من ضرر. وعاش وحيدا منعزلا في غرفة رطبة مظلمة تسببت في إصابة رئتيه بالتدرن ولم يكن يزوره سوى نفر قليل ونقل الى المستشفى الأميري قبل وفاته بأسابيع قليلة عن عمر لا يتجاوز 34 عاما، في 15 أغسطس 1951.

  ويحسب للباحث عكوفه في مواضع عديدة من الكتاب على اشعار العسكر وقصائده، وقد خصص فصلا  من الكتاب لرصد وتقصي آثار الوجودية في قصائده التي اتسم الكثير منها بالجرأة، والتنوع في الموضوعات، ما بين الحب والخمر والنقد الاجتماعي والسياسي.

هذا الكتاب هو بمثابة تحية تليق بذكرى هذا الشاعر النبيل والإنسان الذي واجه النفاق الاجتماعي والثقافي والتخلف في مجتمعه على طريقته، عارفا أن مصيره الصلب، كما يعبر المؤلف، وقد قبل مصيره بشجاعة، لكن عزاؤه أن شعره وفكره وسيرة حياته أصبحت فكرة نبيلة ملهمة لكل أعداء النفاق الفكري، وكل أنصار حرية الفكر والإبداع والتعبير ليس في الكويت وحدها بل في كل مكان.

 المقال كاملا.. ونشر مختصرا في النهار اللبنانية في 10 أكتوبر - تشرين ثاني 2013