Saturday, January 26, 2013

هل كان محفـوظ " بلزاك الرواية العربـية " ؟




 عن التهافت و الهجران

هل كان محفـوظ " بلزاك الرواية العربـية " ؟

د. داليـا سعــودي









حين نعت الأقلام العربـية أباها نجيب محفوظ ، تواتر في غمار الحزن تعبـير يصف الفقيد العظيم بأنه كان "بلزاك مصر و العرب". و يبدو أن بعض النعاة، حين أدركتهم لوعة الفقد واستحثتهم فضيلة العرفان، قد استعصت عليهم الكلمات التي من شأنها أن تشي بمبلغ الخسارة وتفي بملامح الجدارة. فما كان منهم ﺇلا أن أعادوا تدوير ذلك اللقب الذي كان قد صكه نقاد غربـيون عام   1988، وهم يعرّفون قرّاءَهم آنذاك بذلك الكاتب الوافد من بلاد الفراعنة و المآذن، الذي كان قد حصل لتوه على جائزة نوبل للآداب. فكان اللقب ذو الجرس الرنان : "بلزاك مصر" أو “Balzac  of Egypt”(1) ، و كأننا بصدد فيلم آخر من تلك الأفلام الهوليودية باهظة التكاليف كثيرة الأغلاط.. وقتها كان مفهوماً – وٳن لم يكن بالضرورة مقبولاً- أن تبحث الصحافة العالمية في دعاياتها عن اسم ألفته آذان قرائها، لتصنع منه قريناً أدبـياًً، تقرب به صورة كاتب لم تكن أعماله قد حظيت بعد بالتفاتة كافية من قبل دور النشر الأجنبـية. فلما تراءى "النوبلي" المصري عملاقاً مؤصلاً لفن الرواية العربـية، وبدا منجزه  الأدبي مترامي الحدود متحد الممالك، والتمع سطح أعماله تحت ضياء واقعي يبرز حنايا مصر التاريخ و الإنسان، هتفت أقلام من الغرب :" ذاك حتما ً أنوريه دو بلزاك، أبو الرواية الفرنسية الحديثة ، و صاحب"الملهاة الإنسانية"الخالدة(La comédie humaine)(2) ، قد بـُعث بعد قرن من الزمان،في ٳهاب مصري بسمرة النيل." وباطن القول الذي لم ندركه أن"هذه بضاعتنا ردت إلينا..". وفرحنا، نحن العرب، بتلك الشهادة "العالمية"، فوضعناها في إطار أنيق وعلقناها في صدارة المنزل. وحين رحل أديبنا الكبير، عدنا فاستعرضناها مجدداً ضمن شهادات "عالمية"أخرى، دون أن نمعن فيها النظر لنمحصها ونتساءل : أحقاً كان نجيب محفوظ بلزاك الرواية العربية؟ ومع افتراض حسن نوايا قد لا يتأتى بسهولة في هذه الأيام، لنتساءل: هل يكرر تاريخ الأدب نفسه؟ هل من مساحات تداخل بـين العبقريتين، أم أن تـنافر السيرة والنهج والتوجه هو السمة التي تميز المقاربة و المقارنة ٳذا ما دۥعي الرجلان للركوب معاً في زورق واحد للعبور لشاطئ الخالدين؟
************
على لوحة الشرف الرخامية البيضاء الموجودة حتماً في مكان ما من مملكة الأدب ستجد اسميهما و قد نقشا بمداد من نور: أونوريه دو بلزاك (1799- 1850) ونجيب محفوظ (1911-2006 ). كلاهما جاء في أوانه من دون إبطاء. كلاهما مضى وحيداً فشق طريقاً و استعمر أرضاً كانت من قبله على مشارف الخلاء. كلاهما صنع سفينة وسط الصحراء، وقد أبصرا- كلٌ في زمانه- أن الطوفان لا ريب آت، و أنه سيغرق الغافلين عن حركة الزمان، وأنه سيفرض على فلول الكلاسيكيين و الرومانسيين الأخيرة انزواءً فاحتضار، و أنه سيأكل منسأة الشعر حتى يخر من فوق عرشه، و أنه سيجعل من غنائيات البراءة والبطولة هباءً منثورا تذروه الرياح، و أنه سيفرض- بعد إقلاع السماء و مغيض الماء- صيغة تعبيرية جديدة تقول بما في الأزمنة الحديثة من عامية وابتذالية و مادية و  تعقد والتباس. فحيثما غاب الشعر، ساد النثر. و من ضلع النثر خرجت الرواية.
لكن، دعونا لا نحمّل الرواية خطيئة الطبيعة النثرية. فالرواية، المرتبطة أساسا ببلادة الحياة اليومية، و التي لا تني تمزج في غير اكتراث القبيح بالجميل ، و الدنيء بالنبيل، تلك المدعوة الرواية تتمتع بنوع خاص من الجمال لم يلتفت إليه القدماء ، ألا وهو جمال تحليل المشاعر إلى مركباتها البسيطة و تجزئة الأحلام الإنسانية إلى دقائقها المتواضعة ، و هو ما جعل منها الصيغة الأدبية الأقدر على التعبير عن" زخم المصالح و تعقدها، وتعددية المواقف و الشخصيات و العلاقات في الحياة ، و رسم الخلفية الرحبة للعالم بأسره"،على حد ما كتبه هيجل في "فلسفة الجمال"(L'Esthétique).  
لعله ذلك النوع من الحُسن الذي أغرى بلزاك بترك دراسة القانون، و حدا محفوظ على هجر دروب الفلسفة، استجابة لنداء غامض بالاستسلام و المهادنة لسطوة فن لم تكن ملامحه قد تخلقت بعد، و بالتالي ما كان ليحظى في بواكيره بالاحترام الكامل. صحيح أن تجربة بلزاك الروائية قد سبقتها تجارب متفاوتة القيمة و الأثر، و أن فن " القصة " ما قبل محفوظ  قد شهد إسهامات كالشذرات. لكن صفة المؤسس قد ألصقت ببلزاك ومحفوظ ، كلٍ في سياقه و زمانه، لكون أعمالهما قد حققت السبق في التبشير بالقيم الفنية الروائية الحديثة التي استندت إليها أجيال من الكتاب بعدهما، ولكونهما قد أوتيا من الشجاعة و التجرد ما جعلهما يبذلان حياتهما طواعية داخل محراب صاحبة الجمال الواعد: الرواية.          
ومثلما بدأ بلزاك رحلته بالرواية التاريخية مع رواية "الثوار الملكيين" عام 1829              (“LesChouans”)، جاءت بداية محفوظ الأدبية مع ثلاث روايات تَبسط أحداثها في أجواء الحضارة الفرعونية. كان لكل منهما مشروع لكتابة تاريخ بلاده كاملا في سلسلة من الروايات. لكن بمثل ما  كان الالتجاء إلى الإطار التاريخي في الحالتين نتاجاً للرغبة في تلمس أثر الزمن على وجه الوطن، اهتدى بلزاك و محفوظ ،عبر نفس الاستدلال المنطقي و ذات الحس الفني، إلى أن مادة الرواية الحقيقية الطازجة موجودة في الواقع الاجتماعي المعاصر. فراح كل منهما يراقب العالم المحيط من مقهاه، وراح وجه الرواية البديع يلوح ويقترب كالبدر من وراء غيوم.
و بعد أن كانت قصص الأولين محض سرد بديع اللفظ رشيق العبارة، يسوق الأحداث الماضية كما تساق الملخصات الممعنة في التبسيط أو الذكريات المجردة من أية سماكة مادية، تحول قراء"الملهاة الإنسانية" و"الثلاثية"و "بداية و نهاية"و"زقاق المدق"و"القاهرة الجديدة" و"خان الخليلي"إلى جمهرة من المشاهدين تتخايل أمام أعينهم صور متحركة تكثف أحداث الحياة في الزمن الحاضر، وتتقافز فيها شخوص منحوتة القسمات، قد اكتمل وصف أزيائها و أهوائها، و تم غرسها في أمكنتها الصحيحة، بعناية فنية تفسح المجال لكتلة الحسي من التفاصيل، لتكشف ما في باطنها من معان نفسية كامنة. صار بالإمكان أن تشم رائحة بنسيون مدام "ڤوكيه"العطنة و أنت تقرأ الفصول الأولى من رواية" الأب جوريو" لبلزاك، فتدرك ما يخفيه المكان من نفوس آسنة، أو أن تأتيك رائحة الكيروسين النفاذة من شعر حميدة في "زقاق المدق" لتستشعر أن القمل الذي تحاول الشابة أن تطرده من شعرها الطويل الفاحم لن يلبث أن يتحول إلى وساوس تتزاحم على عقلها الذي يكاد يعصف به الطموح الساخط. 
و بالطبع، تستتبع مثيلة تلك الطفرة الفنية ثورة كاملة في علم الأسلوب، ثورة فجرها بلزاك في عصره غير عابئ بوابل الحجارة التي انهالت على أم رأسه من كل حدب و صوب، و هي عينها الثورة التي أدارها محفوظ ، بعد قرن من الزمان، بحكمته السمحة وابتسامته الأزلية. فكان أن أعيد بمقتضاها تعريف مفهوم الأسلوب، لتتميز وفقا له جماليات الكتابة الروائية عن زخارف النظم الشعري، و ليصبح الأسلوب الروائي مرادفاً لبناء العمل ككل، و ما يتألف منه هذا البناء من طرائق سردية و أدوات تعبيرية تتغير من عمل لآخر، لتشكل في انتظامها معاً في كل مرة هيكلاً فنياً جديدا. بتعبير مجازي، صار لزاماً على الأسلوب الروائي أن يأخذ بتلابيب الحقيقة المتباعدة مثلما يقبض الشرطي على اللص الهارب تحت نباح الكلاب...      
ولقد كتب محفوظ الرواية الواقعية في وقت كان يُسمع فيه نعي المذهب الواقعي، و تستخدم فيه الرواية البلزاكية كفزّاعة تمثل النموذج البالي للكتابة الإبداعية في أعين أرباب تيار الرواية الجديدة. ففي الوقت الذي كان محفوظ ينجز فيه"الثلاثية" ، كان على اطلاع بما راح يكتبه ألان روب جرييه منذ بداية الخمسينات، وجمعه بعد ذلك في مانيفستو "من أجل رواية جديدة"(Pour un nouveau roman) ،مهاجما ذلك الراوي الذي يفرضه بلزاك على قرائه، و"الذي يعرف كل شيء عن أي شيء، و موجود في كل مكان في ذات الزمان، و يبادر بتقديم الأجوبة بدلا من طرح الأسئلة"، وينخرط عبر وصلات وصفية لا تنتهي في تقديم "نسخة طبق الأصل من الحياة". لكن محفوظ كان على إدراك باحتياج الرواية العربية ٳلى انطلاقة واقعية، و باحتياج القاهرة الى ثلاثيتها.
و الأهم هو أن محفوظ، على خلاف مُنظّري الرواية الفرنسية الجديدة، كان يملك رؤية جلية لمفهوم تاريخ الفن. فلقد أدرك مبكراً أن فكرة الارتقاء و التطور التي قد تميز تاريخ العلوم لا تنطبق بنفس الصورة على تاريخ الأدب. فقد يأتي عالم بدواء ناجع لعلاج مرض ما، فيجيء بعده بعقود عالم آخر بدواء مطور ينتفي معه استخدام الدواء القديم. أما في الفن، فإن مفهوم التاريخ لا علاقة له بالتطوير والتحسين و الارتقاء، فطموح الروائي لا ينصب في العمل على تجويد ما أنجزه أسلافه، و إنما مناطه بالأساس هو المضي في مغامرة استكشافية، ليضيف المستكشف موقعا جديدا إلى خارطة طريق لاتنتفي منها المواقع المكتشفة سابقا، و ليضيء فوق الرؤوس نجمٌ جديدٌ لا تنطفئ لبزوغه النجوم الأخريات. و حين تكون أول الواصلين إلى جزيرة مهجورة، حيث لا طريق ولا خارطة ولا نجوم هاديات، يصبح أول اهتماماتك إقامة حوائط واقعك المادي المحيط .
وذلك ما ارتآه محفوظ في منظومة أعماله الواقعية التي لم تكن محض نقل حَرفي للطبيعة، و إنما تمثلت في الالتفات إلى كافة عناصر الحضارة المادية مع توظيفها روائيا بصورة تربط المادي بالروحي، و الجسدي بالنفسي، و الاجتماعي بالشخصي، والعام بالخاص، فيما يكوّن صيغة إبداعية تقدم للقارئ وهم الحقيقة وسرابها الأدبي.فبقدر ما قدمت الواقعية البلزاكية تفسيرا أرض– أرض للمجتمع الإنساني، اتسمت الرؤية المحفوظية – حتى في أكثر حالاتها اقترابا من الأرض- بكونها معراجا فكريا و روحيا لأديب اعتاد في طفولته الجلوس على سطح منزله لساعات، ليرقب مئذنة مسجد الحسين السامقة الشامخة وسط سماء قاهرة العشرينات الجليلة، المتطلعة  بنفاد صبر إلى الاستقلال التام أو الموت الزؤام.
فالطفل الصغير الذي كان يصحب أمه لزيارة الأهرامات و الآثار الفرعونية، و انبهرت أنفاسه لحظة رأى مومياء الملك المتغضنة في نعشها الزجاجي، فأدرك حقيقة توأمة الخلود و الموت على أرض مصر، ذلك الفتى الذي رأى حمرة النيل في فيضانه، و اخضرار ضفتيه في زمن التحاريق، فعرف أن الحياة مواسم و أطوار، أقول ذلك الصبي الذي عشق أناشيد التكايا و أدارت رأسه القاهرة الفاطمية، قد أوتي من البصيرة و الخيال ما أهله لتجاوز الواقع المادي، ولطرح أسئلة الوجود الكبرى منذ البداية، و لتلمس الإجابات في ما يتيحه التجريب الفني من تحولات تعبيرية.        
وبمزيد من الوعي بملامح القلم النجيب، كتب ادوارد سعيد تحت عنوان"نجيب محفوظ و قسوة الذاكرة" في دورية New York Review of Books،2000) (V.47, #19, November 30, ما ترجمته(3): "... يمتلك محفوظ صوتا مميزا، صوتا يعكس تمكنا لغويا لافتا للنظر وٳن كان يأبى أن يعلن عن وجوده. [..] و إضافة إلى ذلك، يملك محفوظ من الأسباب الفكرية و الأدبية ما يمكنه من توصيل رؤاه بطريقة فريدة تخصه وحده، تجمع بين القوة و المباشرة و حدة الذهن. فعلى غرار شخوصه الذين يرد وصفهم ما إن يظهرون، يهجم عليك محفوظ بلا روية ليغمرك في فيض نهر سردي كثيف، ثم يتركك لتسبح فيه وحدك، ولكنه لا ينقطع طوال الوقت عن التحكم فيما حولك من تيارات و دوامات و أمواج تظهر لك مصائر أبطاله، و تاريخ مصر[..]، و عشرات التفاصيل المتعلقة بالأحزاب السياسية، و بأخبار العائلات ، و هو يقوم بكل ذلك ببراعة متناهية. هل كان بذلك مصغيا لإملاءات الواقعية؟ نعم، هي الواقعية ولكنه أضاف إليها بعداً آخر: ألا و هو تصور يطمح لتقديم رؤية كونية شاملة ليست بعيدة الشبه عن تجربة دانتي في الجمع ما بين الواقع الإنساني و المطلق، لكن من دون الصبغ المسيحي الذي اعتمده شاعر فلورنسا."
ولكن.. أوَ ليس دانتي اليجييري بالتحديد هو المصدر الذي استلهمه بلزاك، و استوحى من ملهاته الالهية عنوانها وتقسيمها الثلاثي، وأظهره كشخصية بين أبطال رواية من رواياته (4)؟
ذاك تلاقي الباحثين عن المدينة الفاضلة، وتلك مساحات تحاور التقت حولها خواطر نبيلة ، شغلتها صفة الريادة، و استغرقتها هموم التأسيس، واستلهمت أصفى عيون  تراث الأدب، فكان تلاقيها كتلاقي أولئك الملوك الثلاثة الذين اهتدوا قديما إلى أرض المهد بإتباع نفس النجم رغم أن كلا منهم قد سلك طريقه الخاص.
لكنهم ما التقوا ٳلا لكي يفترقوا.
وما أشد ما تباعدت بهم طرائقهم...

******


عن الفن و الأصل والصورة
في دراسته النقدية الأخيرة "الستار"، (Le Rideau, Gallimard, 2005)يحكي الروائي التشيكي ميلان كونديرا تجربة شخصية لا تخلو من الدلالات المفيد عرضها في هذا المقام، لاسيما و أن الحديث فيها لا ينأى عن بلزاك و عن مدى مقبولية فكرة إعادة تجربته الأدبية.
ففي أثناء زيارته الأولى لوطنه بعد انهيار النظام الشيوعي فيه عام 1989، التقى كونديرا بصديق له بقي طوال الوقت في العاصمة "براج" فكان شاهدا على كل ما مر بالبلاد من أحداث. قال الصديق: "لكم نحن اليوم في حاجة إلى بلزاك جديد. فما تراه هنا اليوم هو وضع شبيه بذلك الذي وصفه صاحب "الملهاة الإنسانية" من إعادة لإحياء مجتمع رأسمالي بكل ما يعتمل فيه من قسوة و من غباء، و بكل ما يموج به من سوقية وتدنٍ مبعثهما تكاثر الأفاقين والنصابين و محدثي النعمة. مجتمع حل فيه العبث الاقتصادي محل العبث الأيديولوچي. و نتجت عن تجاور التجربتين الشيوعية و الرأسمالية فيه قصص تعيد إلى الأذهان أحداث روايات بلزاك بحذافيرها". و راح الصديق يحكي قصة مأساوية عما يكابده رجل شيوعي من جحود ابنتيه المتزوجتين من رجلين من أولي الطَول في مجتمع المال الجديد، بما يحاكي أحداث رواية"الأب جوريو"المثيرة للشجن. وبدلا من أن يعتري الصديقين شيء من التأثر لسماع أصداء تلك القصة الحزينة، راحا يضحكان طويلا...
ثم كان أن أخضع كونديرا ذلك الضحك إلى مصفاة عقله الناقد المتشكك أبدا.       
فبدا له أن التاريخ يعيد نفسه. و الإعادة تعني بالضرورة افتقارا إلى الذكاء و انتفاء للأصالة  و انعداما للذوق السليم. فكان ضحكه هو و صديقه تندرا بافتقار التاريخ لسلامة الذوق. و عاد كونديرا إلى أمنية صاحبه بأن تجد بلادهما بلزاكها الجديد.  و خلص إلى أنه من المثير للسخرية أن يعيد أحدهم كتابة الملهاة الإنسانية. لأنه إذا كان بإمكان التاريخ البشري أن يرتكب حماقة إعادة نفسه، فإن تاريخ الفن لا يتحمل آفة التكرار. فالفن لم يخلق لكي يسجل، كما المرآة العملاقة، كافة عوارض التاريخ و تقلباته و  تفاصيل اجتراره لذاته. الفن، على حد تعبير كونديرا، " ليس جوقة موسيقية تصحب التاريخ في ترحاله. إنما خلق الفن لكي يصنع تاريخه الخاص".   
إن تكرار التجربة الفنية هو ذروة الافتعال وعلامة على غياب الصدق. والتكرارلا يغتفر إلا في الفنون الهزلية الباعثةعلى الضحك مثل الكاريكاتيروالتقليد الساخر((la parodieوالمحاكاةle pastiche)). و لا يذكر أحد أن اللجنة التي اختارت محفوظ لنيل جائزة نوبل قد ذكرت في حيثياتها تمكن أديب مصر من فنون التقليد و الهزل و الفكاهة، أو ارتداء شخوص رواياته لأسمال المهرجين الزاهية الزاعقة  الزائطة.
**
ٳن نظرة عابرة على مستوى عنوان الرواية عند كل من بلزاك ومحفوظ لكفيلة بإظهار البون الشاسع بين المدرستين. فعند بلزاك، ثمة دأب ملحوظ على انتقاء العناوين التي تدعي بعدا فلسفيا رمزيا، والتي تتضمن وعودا بأن تكون قراءة الرواية بمثابة تحليق في أجواء تنبسط فيها أجنحة ذلك العنوان و تتـنقل فيها عين الطائر فوق أراض شاسعة من المعاني الرحبة. غير أن عنوان الرواية البلزاكية لا يفي عادة بوعوده، و تحت اختبار القراءة، سرعان ما تتكسر أجنحة الطائر ليسقط من حالق فوق صخرة التفاصيل المادية الصرفة. فعلى سبيل المثال، تفضي قراءة روايات مثل" البحث عن المطلق" ( La recherché de l'absolu)و" الأوهام الضائعة"(Les illusions perdues) و"بهاء و تعاسة الغانيات"(Splendeurs et misères des courtisanes) – على جودة محتواها الفني- إلى تفسير يحصر تلك العناوين الكبيرة داخل إطار مادي ضيق، يقوم على تشييء المعاني و الأفكار، و لا أثر فيه من قريب أو بعيد لأية دلالة ترقى بالنص إلى شاعرية العنوان.
وعلى العكس يختار محفوظ عنوان روايته بشيء من التواضع الحكيم و السهولة الممتنعة. فهو في مجموعة أعماله الواقعية يميل إلى اختيار اسم حي شهير أو مكان معروف، حتى أن القارئ الغرير ليمر عليه فيحسبه عنوانا بريئا. فما إن يشرع في القراءة حتى تنقشع عن العنوان صفته المألوفة، وتنجلي بمعان جديدة بعيدة مثلما ينجلي الليل بالإصباح. فعنوان مثل "بين القصريْن"، الذي كان الاسم الأصلي للثلاثية في التحامها قبل تقسيمها لأغراض تجارية، يفقد مع القراءة صفته كمدلول عن منطقة شعبية معروفة، و يتحول شيئا فشيئا إلى دالتين منفصلتين متصلتين: "بين" و"القصريْن". لتكتشف مع نهاية الكتاب أن "بين القصريْن" هي قصة مصـر ما" بين الحربيْن العالميتيْن "، التي تحكي الصراع بين نزعتيْن (النزعة الأبوية المتسلطة الآفلة و النزعة الفردية المتحررة المتنامية)، وهي القصة التي تبسط ميدان البحث عن الحقيقة مابين قيمتيْن شامختين( العلم و الإيمان ). هكذا تسلمك الثنائية المكانية إلي ثنائية زمنية ومنها إلي ثنائية في القوى فإلي ثنائية قيمية، في تخفف واضح من المادي الذي يلوِّح به العنوان. وبانتهاء عملية القراءة، لو أطبقت جفنيك، واتبعت صوت محفوظ الهامس، سيتبدى لك القصران الحقيقيان. وصدقني، لو أنك ارتقيت إلى أعلى شرفة فيهما، وألقيت بنفسك من عل، فلن تسقط صريعا من حالق، لأنك ستكتشف – ويا للعجب- أن قراءة النص المحفوظي قد أنبتت لك جناحين قويين، يأخذانك بخفة إلي"مملكة النور و العجائب".
خلاصة القول: الشاعرية في روايات بلزاك تستمسك بجناحي ٳيكاروس ، بينما الشاعرية المحفوظية طائر عنقاء ينبعث ناشرا جناحين عملاقين من تحت الرماد.
**
فلمَ الإصرار على إطلاق لقب "بلزاك العرب" على محفوظ؟
البعض يدرج الأمر  في إطار نزعة النرجسية العرقية التي قام عليها سلوك الغرب، الذي رأى في ثقافته مرجعا سلطويا مقدسا، لا تملك إزاءه الشعوب النامية سوى المحاكاة الببغاوية و التقليد الأعمى. و هنا أيضا يحضرنا رأي الراحل ادوارد سعيد في مقال مبكر له نشرت ترجمته عام 1972 مجلة "مواقف" اللبنانية تحت عنوان" التمنع و التجنب و التعرف"، وفيه نواة لأهم الأفكار التي تناولها باستفاضة في كتبه صاحبۥ "الاستشراق"و "الثقافة و الامبريالية". في ذلك المقال، أوضح البروفسور سعيد استشراق الغرب للشرق، من خلال طبيعة عقل الرجل الأبيض الممحص الذي يحول كل ما هو غريب عن الغرب إلى صورة مستنسخة عن ذاته الغربية، صورة يتم التعامل معها سياسيا كمراهق تابع للوجود الأبوي الأقوى، و ينظر إليها ثقافيا و سيكولوجيا كشريك أدنى لا يصح أن ينتج عنه إلا كل ما هو منقول وسطحي و غير أصيل . وهي فكرة نجد جذورها عند فلاسفة التاريخ في القرن الثامن عشر مثل الايطالي چيانباتيستا ڤيكو و الألماني جوهان جوتفريد هيردير، اللذين ناديا بوصاية الثقافة الأوروبية على الشعوب البدائية لحين بلوغ تلك الشعوب سن الرشد، واستيفائها للشروط التي تؤهلها للحاق بركب الحضارة الذي كانت تقوده في زمن ما أوروبا الاستعمارية و تمثله كنموذج عياري.   
في ذلك السياق المنادي بأحادية الهوية، هناك إذن من يريد أن يكون بلزاك هو "الأصل" و محفوظ "الصورة"، لأن هناك من يصر على تعميق فكرة التمييز الهييراركي  بين"نحن" و "هم"، ثقافة أم  و أطفال  تحت التنشئة.
 على كل حال، فلنتأمل معا كيف كان "الأصل" المزعوم...

***********

تفكيك بلزاك
على الرغم مما قد يبدو في هذا العنوان من تعد وتعسف، فلقد رأيناه الأنسب لمبحث نتعهد بالحفاظ على الموضوعية في تناوله. ذلك أننا لسنا بصدد المفاضلة بين "محفوظنا" و "بلزاكهم"، فنحن قد تعهدنا ألا يدفعنا درء الهجوم  الخفي ٳلى التردي في أخطاء منهجية. إنما نسعى لاقتفاء مسيرة بلزاك من قريب، لنرى هل سيطل علينا محفوظ في الطريق. ولقد رأينا ٳن فكرة التفكيك هي الأنسب لطبيعة متأصلة في شخصية  "نابليون الأدب الفرنسي"، تلك الشخصية المركبة، حمالة الأوجه، متعددة الإطلالات.
ففي بلزاك وجه للروائي المبدع، وآخر للكاتب المتعامل مع اللغة، وثالث للإنسان، ورابع للأسطورة. فتلك طبيعة تكوين تكرسها معظم الدراسات البيوجرافية المخصصة لبلزاك،وعززها هو نفسه في كثير من المواضع،منها ما كتبه في مقدمة نظريةالأقصوصة (Théorie du conte)واصفا "ذواته"قائلا : " بالأمس، ما ٳن عدت إلى داري حتى رأيت عددا لا حصر له من الصور المستنسخة عن ذاتي، و قد تزاحمت فيما بينها كأنها أسماك رنجة مكدسة في قاع برميل..."!
لكنه في مواضع أخرى، يبين لنا أن تلك الصور المنعكسة عن ذاته ليست مكررة بل هي متنافرة متضادة فيما بينها. ففي خطاب أرسله لصديقته مدام دابرانتس كتب قائلا:" أحمل بين أضلعي كل ما يمكن أن تسعه النفس من تنافر و تناقض... ".
**
بلزاك المبدع قوة من قوى الطبيعة الخارقة. فهو الأديب الذي رسم وجه الرواية الحديثة و قدم للمكتبة العالمية أضخم انجاز أدبي عرفته البشرية على الإطلاق. وهو واحد من أربعة أدباء فرنسيين اشتُق من أسمائهم نعت محدد المعنى جرى تداوله لغويا بين الناس؛ فصفة "بلزاكي" تطلق على "كل ما يُظهر نوعا من القوة العارمة، أو إسرافا في بذل الطاقة، أو سلوكا يحكمه الإفراط والمبالغة"، بحسب تعريف الناقدة الفرنسية إيزابيل تورنييه في مقدمتها للنسخة الالكترونية للأعمال الكاملة لبلزاك.
وبالفعل كان بلزاك ضخما و مبالغا و هرقليا في كل شيء. كان مفرط العبقرية، جامح الخيال، جاسر الطموح، متقد الموهبة، منهمر العطاء. إذ أنجز في فترة لم تتعد تسعة عشر عاما إحدى وتسعين رواية، معظمها من شوامخ الأدب العالمي، تكوّن في مجملها فصول "الملهاة الإنسانية"، التي يظهر فيها 2504 شخصية، من بينهم 573 يعاودون الظهور في أكثر من رواية، وفق مبادرة فنية غير مسبوقة، تجعل الشخوص  يتجولون بين أروقة هذه الجدارية القصصية المدهشة كما يتجول الناس على مسرح الحياة الكبير.
في "الملهاة الإنسانية" يقدم بلزاك بانوراما اجتماعية وسياسية و تاريخية و فلسفية للحياة في فرنسا النصف الأول من القرن التاسع عشر، بانوراما قرر مبدعها ألا يغفل فيها عن "موقف من مواقف الحياة، و لا عن  رسم شكلي أو نفسي لرجل أو امرأة، ولا عن أسلوب حياة و لا عن مهنة من المهن ولا عن وسط من أوساط المجتمع، ولا عن بقعة من أرض فرنسا، و لا عن مرحلة من حياة الإنسان سواء كانت الطفولة أو الشباب أو الشيخوخة، ولا عن ملمح في السياسة أو القضاء". فيما وصف بأنه موسوعة أدبية تقدم شهادة على عصر ميلاد الرأسمالية و صعود الطبقة البرجوازية في بلد انتهبته المصالح المادية، و اندثرت فيه مشاعر الوطنية، وانعدم فيه الضمير، و اتجهت فيه السلطة السياسية الى إعلاء شأن الانحطاط و المنحطين، و عادت فيه عبادة عجل الذهب ، حتى علا خوار المال فيه على ما عداه من الأصوات، والتهمت فيه النزعة الفردية كل ما وجدته في طريقها بما في ذلك معنى الوطن. ذاك وجه بلزاك المبدع الذي اتخذت أعماله- ٳلى قيمتها الفنية و الفكرية- قيمة توثيقية عميقة، تَنبه ٳلى أهميتها فيمن تنبه  كارل ماركس و فريديريك ٳنجلز.
ولقد سقط بلزاك ميتا ٳثر تضخم في القلب نجم عن إفراط في السهر، و إفراط في العمل، و إفراط في السفر، وإفراط في طول الأمل . كان يعمل ست عشرة ساعة في اليوم، راجيا من هدأة الليل إلهاما، ومن أقداح القهوة السوداء يقظة جبرية، أنقصت عمره أعواما وأعواما. وعلى فراش الموت راح بلزاك يصرخ:" أحضروا لي بيانشون، لن يقدر على مداواتي إلا الدكتور بيانشون"، و بيانشون هذا شخصية طبيب ابتدعها بلزاك في رواياته، و أظهرها تحقق المعجزات الطبية في أكثر من موضع من ملهاته. هكذا، سيطرت على المبدع هواجسُ الإبداع حتى أسلمته إلى هلاوس الموت.
وعلى القبر الواقع في مدافن الأب لاشيز بباريس، وقف ڤيكتور هوجو في 21 أغسطس 1850 يتلو كلمة الوداع، فقال: "كانت كل كتبه في واقع الأمر كتابا واحدا، كتابا مترعا بالحياة ، فائضا بالنور، بالغا في العمق، ترى فيه حضارتنا المعاصرة في اكتمال ملامحها، في رواحها و غدوها، تمشي هنا وهناك ، وقد اعتراها فزع ورهبة، امتزجا بكل مظاهر الواقع. كان كتابا مذهلا، سمّاه صاحبه "ملهاة" و كان بوسعه أن يسميه "تاريخا"؛ و قد جرّب فيه كل الأشكال الفنية و كل الأساليب..".
رحل بلزاك في الحادية و الخمسين من عمره، وقد شارف على تحقيق حلم قديم راوده، وأخبر به معشوقته الأوكرانية مدام "أنسكا"في خطاب وصلها في بلادها المثلجة البعيدة، حلم لا يجد غضاضة في استلهام كنوز الشرق ، إذ يقول صاحبه للحبيبة بنبرته الدائمة التفاخر في حضرة النساء:" رواياتي ستكون ليالي ألف ليلة وليلة الغرب...".
هكذا يطل وجه الشرق القديم من وراء حجاب أبيض شفيف ليلعب من بعيد، في خلفية اللاوعي المعتمة، دور ملهمة من ملهمات بلزاك، الذي سجل مرارا إعجابه بترجمة المستشرق أنطوان جالان لكتاب "ألف ليلة و ليلة". فهل يصح أن ندعي ٳن حكايات شهرزاد كانت الأصل و "الملهاة الإنسانية" الصورة؟
**
أما بلزاك الكاتب فلقد واجه أسلوبه التعبيري نقدا عنيفا لم يواجهه قلم قبله ولا بعده. كتب ماريو روك(Mario Roques) في الذكرى المئوية لوفاة بلزاك آسفا: " كانت إدانة اللغة و الأسلوب اللذين استخدمهما بلزاك من الأطروحات الأثيرة عند أقطاب الحركة النقدية في عصره، ولقد لاحقته تلك الإدانة في قبره، وراحت تنتقل من كتاب الى كتاب، حتى تحولت- رغم اعتراض أصوات عاقلة- ٳلى عقيدة راسخة في تاريخنا الأدبي".
هنا كان الإفراط غلطة لا تغتفر. سواء تجلى ذلك الإفراط في التعدي على قواعد اللغة الصارمة أو في غزارة الإنتاج بوجه عام. فنظرا لأن بلزاك كان ينشر خمسا أو ست روايات في العام الواحد، فقد كان من الطبيعي أن يوصم إنتاجه بنقيصة الإهمال الأسلوبي. ولقد لاحقه الناقدُ الكبيرُ في زمنه المسرف في مقته "سانت بوڤ"، فأدرج رواياته في إطار ما أسماه ب"الأدب الصناعي"(La littérature industrielle)، ذلك الأدب الاستهلاكي السهل الذي يظهر في صورة روايات مسلسلة في الصحف، ليقدم كماً بلا كيف، و إثارة بلا عمق، ولغة بلا جمال.         
ولا يتسع المجال هنا لذكر كورال المقالات التي رددت أصداء تلك الفكرة الجائرة و تفننت في تقديم تنويعات أكثر سخونة منها و أشد حدة، فلقد كان للرجل أعداء كثر. لكن المثير للتساؤل أن يعود نفس الاتهام بعد سنوات من رحيل بلزاك بأقلام عُرفت عنها الرصانة و رجاحة الرأي. من ذلك ما كتبه جوستاڤ فلوبير في خطاب لصديقته لويز كوليه جاء فيه: "أي رجل كان سيصبح بلزاك لو أنه كان يعرف كيف يكتب! فهو لم يكن ينقصه إلا هذا! ولكن على كل حال، ما كان ليتأتى لكاتب متفنن انجاز مثل ذلك الكم، ولا لعالمه أن يبلغ مثل ذاك الاتساع". وهي ذات الجدلية التي أثارها فنان كبير بحجم أندريه چيد على صفحة من صفحات مذكراته حين كتب مستنكرا:" كيف يأبى البعض أن يفهم ٳن عيوب بلزاك كانت هي الأخرى سببا من أسباب عظمته، فلو أنه كان أكثر كمالا، لما صار ذلك العملاق..". أما الباحث الأبدي عن الزمن الضائع، مارسيل پروست، فلقد كتب في دراسته النقدية المعنونة "ضد سانت بوڤ" (Contre Sainte-Beuve) ، حكما لا مرد له، يقول فيه:" في أدب بلزاك، لا مجال للحديث عن شيء اسمه الأسلوب..".
كان قدرا محتوما على مؤسس الرواية الحديثة أن يرميه كل من جاء بعده بحجر، لأنه ببساطة كان أكبر من اللازم، فكانت أخطاؤه فوق الاحتمال؛ وكانت خطيئته الكبرى افتراش ظله للمدى، و ملاحقة شبحه لكل الخطى. و لما كان هدمه مستحيلا والالتفاف حوله متعذرا ، فلقد اتُفق على اعتباره حكَّاءا عظيما استعصى عليه فن الكتابة.  
**
أما بلزاك الإنسان فلعله كان السبب وراء مأساة بلزاك المبدع و الكاتب معا.
فالطفل الصغير الذي كان يقف في حضرة أمه "كما العصفور المشلول أمام الأفعى"، والذي ظل، منذ كان طفلا رضيعا، منفيا نفيا تاما ما بين الحضانات والمدارس الداخلية إلى أن أصابه اعتلال الجسد وانهزام الروح، ذلك الصبي الذي ظل يكابد تضييق أبيه عليه في النفقة وٳمعان أقرانه في ٳيذائه و السخرية منه، و الذي أدرك قبل الأوان الأسباب المريـبة لتفضيل أمه لأخيه الأصغر هنري ، أقول ذلك الصغير الغض قد شب في عالم شديد القسوة، يموج بأخلاقيات التزاحم و التنافس والتكالب. وهو ككل الشخصيات الموغلة في طموحها الوحشي، التي رسمها في رواياته، قد أقسم علي بلوغ المجد أيا كانت الوسيلة.
هنا، كان وراءا لإفراط في الطموح حرمان، وما اجتمع الحرمان والطموح إلا وكان ثالثهما التهافت. وهو هنا تهافت مسرف في ماديته ، شره في أطماعه، عقيم في ذات الوقت بفعل من الأقدار و تركيبة الظروف الاجتماعية المحيطة. وهو ذات التهافت الذي بثه بلزاك لاحقا في الغالبية العظمى من شخوصه، حتى الشرفاء منهم و أصحاب الغايات المفترض أنها نبيلة، فبدت لوحته في مجملها كأنها تموج بقطيع من الغيلان الهائجة الهادرة، التي خرجت وراء طرائدها البائسة، في زمن انقراض الجنس البشري.
"الوصول! الوصول بأي ثمن!" عبارة يطالعها الناظر إلى جبين "راستينياك"، البطل الذي منحه بلزاك صفاته النفسية، و أظهره في خمسة و عشرين موضعا من روايات "الملهاة "، راصدا تحوله البطيء من شاب ريفي طاهر القلب  نقي الطموح  إلى وزير  داهية ورجل ملوث.ولا عجب في ذلك فأول دروس يتلقاها "راستينياك" جاءته على يد "فوتران" ، المجرم الهارب من العدالة، الذي ينطق بكامل الأفكار البلزاكية  و يلخص وفقا لها قواعد لعبة النجاح الاجتماعي.ففي رواية الأب جوريو، يقول فوتران (بلزاك الناضج) الى راستينياك (بلزاك الغر):" أتدري كيف يشق الناس سبيلهم في هذه الدنيا؟ يشقونه ببريق العبقرية ، أو بالمهارة في الخسة. يجب أن تسقط في صفوف البشر كقنبلة، أو أن تتسلل بينها كوباء، أما الشرف فلا فائدة فيه.(..)يجب أن تلوث يديك إذا أردت أن تثرى، و لكن يجب أن تعرف كيف "تشطفها" بعد ذلك، ففي هذا جماع الأخلاق في عصرنا.(..)وإذا كانت لي نصيحة أهديها إليك-أيها الملك-فهي ألا تثبت عند آرائك أكثر من ثباتك على أقوالك، و عندما يسألك أحد عن رأي بعه له. و الرجل الذي يفتخر بعدم تغيير رأيه مثله مثل من يأخذ نفسه بالسير دائما في طريق مستقيم، هو أبله يعتقد انه معصوم من الخطأ. ليست هناك مبادئ و إنما هناك أحداث، ليست هناك قوانين و إنما هناك ظروف و الرجل الممتاز هو من يحتضّ الأحداث و  الظروف لكي يسيّرها."(5)  
كان بلزاك داروينياً قبل الداروينية، ميكيافيلليا إلى أبعد الحدود. و هو لم يكن يشير الى أدواء المجتمع الرأسمالي الجديد بترفع الحكيم العارف أو بتحصن المحلل الحذر الواعي ، بل كان يركض مع الراكضين، و يتهافت  مع المتهافتين، يرصد الصراع و يخوضه، و يحذر من لهيب الطمع و أصابعه به تحترق.
وفي هذا الإطار تبدى  الأدب لصاحب "الملهاة الإنسانية" كمادة استعمالية، إذ لم يكن بلزاك ينتمي إلى تلك الفصيلة النادرة من الأدباء الذين  ينظرون إلى الفن نظرة تقديسية مجردة من الأطماع و الشهوات، فيهتمون بالعمل من دون الاهتمام بالثمرة، و يرون في الكتابة معنى لوجودهم، و يجدون فيها إشباعا روحيا وتفتحا وجدانيا تهون معهما كل التضحيات(6). كان بلزاك يضع على قدم المساواة النجاحات الدنيوية الشخصية و الإبداعات الأدبية. فقبل عام واحد من وفاته، وهو مشرف على تحقيق حلمه الكبير بالزواج من مدام "أنسكا" التي يحبها منذ ستة عشر عاما، كتب بلزاك  عنها لأخته تلك الكلمات: "انه لمدعاة للتفاخر في باريس أن يفتح المرء صالون بيته ليجمع فيه صفوة المجتمع، فيجدون فيه امرأة لها مهابة الملكات، ذات أصل عريق، و منسبة لأكبر العائلات، وهي ٳلى ذلك لبقة و مثقفة وحلوة. و لو أحسن المرء استغلال ذلك الوضع ففي وسعه أن يضمن وسيلة كبرى لتحقيق السيادة و الهيمنة، (..) فبغض النظر عن ثروتها الطائلة ، تجلب لي هذه الإنسانة معها أعظم المزايا الاجتماعية.(..) فٳن لم أصبح عظيما بفضل "الملهاة الإنسانية"، فستجعلني هذه الزيجة عظيما".
فكان الزواج بعد طول ممانعة من جانب العروس، لكن العريس لم يحقق ما كان يصبو إليه من سيادة اجتماعية، فقد رحل بعد ثلاثة أشهر من إتمام الزفاف.
فالتهافت أيضا يستمسك بأجنحة إيكاروس...   
لم يكن بلزاك ينظر إلى الأدب كغاية و إنما كوسيلة، وسيلة بين الوسائل الممكنة لكسب المال و تحقيق نوع من النجاح الاجتماعي.لذلك لم يتردد في طرق كل الوسائل الأخرى: فمن اشتغال بالصحافة إلى إنشاء مطبعة إلى شراء صحف إلى أطماع في السياسة إلى  تجارة و أعمال و استثمار ( فلقد طمح أديبنا-عفوا أديبهم- أن يحقق أرباحا طائلة تارة بشراء مناجم فضة في سردينيا، وتارة أخرى بزراعة مساحات ضخمة من الأناناس داخل صوبات في منزله!). و لما كانت كل تلك المشاريع تبوء بالفشل الذريع، مخلفة وراءها ديونا جسيمة، فلقد كانت سببا مباشرا وراء انكفاء بلزاك الدائم على الكتابة، ليفي بمواعيد الطباعة  وليقدم لناشره الرواية الجديدة، التي عادة ما يكون قد قبض ثمنها مقدما و أنفقه كاملا قبل أن يبدأ الكتابة.
وفي كل ليلة، راح بلزاك الإنسان يقدم لبلزاك المبدع أقداح القهوة السوداء القاتلة ، وسط أجواء فاوستية غائمة تجلجل في خلفيتها ضحكات شيطان الأدب...        
هل بدأت تستشعر فداحة أن يقرن اسم محفوظ ببلزاك؟ ليس بعد؟ فضلا تابع القراءة.
**
البرقوق و النبوت
يقول جوستاف فلوبير: "ينبغي على الأديب أن يقنع قارئيه بأنه لم يعش قط".
و هي عبارة تشير، على اقتضابها، إلى مبلغ الضرر الذي يقع على النص الأدبي حين تتسرب إلى أسماع القارئ أخبار الحياة الخاصة للكاتب. فتأمل معي ما يصيب تخيلك للشخصيات النسائية في "البحث عن الزمن الضائع"(A la recherche du temps perdu) حين تعرف أن بروست كان مثلياً، أو ما تؤول إليه آراء سانت بوڤ الوعظية حين تعلم أنه قد خان صديق عمره فيكتور هوجو و اتخذ من مدام هوجو عشيقة . ثمة حاجة ملحة لأن تبقى تفاصيل حياة المبدع في طي الكتمان، و أن يحتفظ القارئ إزاءها بشيء من الجهل الآمن، لكون الحقيقة تقتل الخيال.
لكن بلزاك، رغم تفرغه الدائم لمشروعه الأدبي الطموح، قد أقنع قارئيه بأنه قد عاش وعاش و عاش! ففي أويقات الراحة التي كان يخرج فيها إلى العالم، كان ينقض علي الدنيا انقضاضا، تاركا مشاهد شطحاته نهبا لأعين المترصدين. فكان يأكل كما لا يأكل بشر، و يضحك بصبيانية وصخب، يستجدي الأنظار و يستخفه الإطراء، يثير الجلبة و الجدل، وينخرط في معارك هنا و صراعات هناك. و كان قد كون مع أصدقاء له في ميدان الصحافة ما يشبه العصبة السرية، يرفعون بأقلامهم من يروق له في السياسة و الأدب و ينحرون من يناوءه. فبعد وفاة بلزاك ، أكد الأديب تيوفيل جوتييه و والناقد ليون جوزلان-صديقا بلزاك المقربان- أنهما اشتركا مع بلزاك في رابطة سرية أطلق عليها صاحب الملهاة اسم رابطة "الحصان الأحمر"، التي ضمت أكثر من خمسة عشر كاتبا وصحفيا، اتفقوا فيما بينهم على تكوين ما يشبه مجموعة ضغط، شعارها يشبه شعار الفرسان الثلاثة:" الجميع للواحد و الواحد للجميع ". و بحسب شهادة الصديقين، كان بلزاك هو أكثر من استفاد من دعم أفراد هذه الرابطة ، إن في الدفاع عن أعماله أو في محاولة تقريبه من المناصب التي كان يطمح في الوصول إليها، مثل مقعد الأكاديمية الفرنسية، و منصب نائب في البرلمان. و  إن فشلت محاولاته في تحقيق مآربه... فأي بون هائل يفصل بين حرافيش محفوظ  و حرافيش بلزاك! 
 ولقد دأب بلزاك على أن يحدث الغرباء عن عظمته و عبقريته و ألمعيته، مسرا للجميع بتفاصيل روايته القادمة، مفاخرا بالملايين التي ستدرها عليه مشاريعه الدون كيشوتية التي لا تنتهي ، في الوقت الذي كان يختبئ فيه لأسابيع تحت اسم مستعار لعجزه عن سداد إحدى الفواتير. أما أزياؤه الزاهية ذات الأزرار الذهبية، فكان يصنعها له أحد أشهر الخياطين في مقابل أن يذكره صاحب "الملهاة" في رواياته الواسعة الانتشار. وفي وقت كان  بلزاك يعجز فيه عن تدبير ثمن القهوة و السكر، كان يقترض المال ليكسو حوائط بيته بالدانتيلا و الحرير الفاخر، أو ليشبع ولعه الدائم بجمع التحف و القطع الأثرية التي ظهر فيما بعد أنها كانت- في معظمها- زائفة مقلدة، لتكتمل بها سخرية القدر.
ومثل كرة الثلج التي تكبر وئيدا، رسم الخيال الجمعي الفرنسي لبلزاك وجها أسطوريا كبر مع الأيام. وجه قد تراه في عجائب المقتنيات التي يزدحم بها متحفه، أو في سيل الكتابات التي تناولت حياة الرجل بعد مماته، فحوَّلته بشيء من الخيال الكاريكاتوري إلى مسخ فولكلوري، فيه من العبقرية ما فيه من غرابة الأطوار.     
و في متحفه الكائن في 47 شارع رينوار بباريس، سيطلعك المرشد على السرداب السحري الذي كان بلزاك يستخدمه للهروب من المحضرين و محصلي الديون. و سيخبرك أمين المتحف بابتسامة مستخفة بأن زوار بلزاك كان عليهم أن يقولوا كلمة السر المتفق عليها لكي يُطمأن لهم ويسمح لهم بالدخول، فما إن كان الخادم يفتح الباب، كان على الزائر أن يقول متهلل الأسارير: "حان موسم البرقوق!"
و في المتحف سترى أيضا عصا بلزاك ذات الرأس المصنوع من الذهب الخالص، والمرصع بحبات الفيروز الحر، التي كان يخبئ بداخلها صورة لمدام أنسكا و قصاصات شعر مهداة من المعجبات، تلك العصا السحرية التي كتبت عنها قصص و ألهمت للبعض حكايات(7)، و التي تشبه لضخامتها و غلظتها نبوت أحد الحرافيش العتاة، نبوت يعكس سطوة الفتونة الأدبية ، و يردد عبر الزمان أسطورة التهافت والفناء.
و أمام اتساع ابتسامة الدليل المستخفة ستفهم أخيرا مغزى رأي بروست في بلزاك حين قال عنه: "سيظل حبنا له ممزوجا بشيء من السخرية.." وهي سخرية تسري في النص الروائي الضخم سريان النار في الهشيم، تطعن في مصداقيته، و تنتشر بين سطوره المحكمة كالخلايا السرطانية المتكاثرة، و تحول ذواته المتضاربة إلى "أسماك رنجة" متزاحمة و متكدسة في قاع برميل تعس. أسماك ما امتلأت بالحياة إلا لكي تتدافع و تتقاتل، ليبقى منها الأصلح و ليزيدك مرآها أسفا على أسف.
نعم ، سيبقى أدب بلزاك مفخرة الفرنسيين، و ستبقى ملهاته الإنسانية أثرا خالدا يقف أمامه القارئ بكثير من الاحترام، وسيشهد قلمه المضيء عبر الزمان على مبلغ الظلم الذي وقع عليه من قبل كثير من النقاد، لكن هنا وهناك، في طيات الصفحات، و من بين الكلمات المصفوفة، ستجد دائما ذلك الطفل الكبير الصاخب يخرج لك من حيث لا تدري ، بثيابه الزاهية، و عصاه الذهبية، و نوادره و خوارقه و أطماعه الصغيرة البالية، ليشتت انتباهك ويفسد عليك شيئا من متعة القراءة.
ذلك مصير الأديب حين يدرك قراؤه أنه قد عاش.
ذاك مآله حين يخرج بطموحاته عن النص.
******
جلس نجيب محفوظ  إلى مكتبه ليدوّن سيرته الذاتية. لكنه أطرق قليلا و أغضى بصره. ثم ترك القلم و بقيت الصفحة بـيضاء...
وفي يوم آخر، عاد فأمسك بالقلم، و كتب هذه المرة في "أصداء السيرة الذاتية": " هنيئا لمن عاش و مات في بوتقة الهجران".
******
طوبى لمن عاش ليحكي..
لمن تواضع و ترفع..
لمن عشق و تعفف..
لمن عرف و استغنى..
لمن ملك الحياة واختار الإرادة.. 
لمن شُغل بالوجد عن المجد..
وأتاه المجد فاستعذب الزهد..
لمن صان معنى " الخلافة"..
لمن لا يتجزأ..
لمن فهم"اقرأ.."
لمن بقيت صفحته بيضاء..
و خاض الحياة" ببراءة الأطفال وطموح الملائكة"..
لمن كانت كلمته نورا للإنسان..
لمن كانت كلمته نورا في الميزان..
لمن عاش و مات في بوتقة الهجران..

***********
"البوابة تناديه. تهمس في قلبه أن اطرق، استأذن، ادخل، فز بالنعيم و الهدوء والطرب..." (الحرافيش،ص20)
**************

الهوامش
1-                       ظهر لقب "بلزاك مصر"، أو "Balzac of Egypt"، أول ما ظهر في مقال نشره الكاتب ويليام هونان"William H.Honan" بصحيفة " ذا نيويورك تايمز" في عدد الرابع عشر من أكتوبر 1988 تحت عنوان "Balzac of Egypt, Energy and Nuance" ، "بلزاك مصر، القوة و التفرد".
2- La comédie humaine, édition publiée sous la direction de P.G. Castex, Paris , Gallimard, NRF, coll."Bibliothèque de la Pléiade",1976-1981, 12 volumes.
كان أونوريه دو بلزاك قد اهتدى الى فكرة لم يسبقه إليها غيره من الأدباء، حين جمع رواياته  عام 1843 تحت عنوان واحد هو "الملهاة الإنسانية"، التي كان من المزمع أن تضم 137 رواية و مجموعة قصصية، أتم منها 91رواية، انتظمت جميعها داخل ذلك البناء الضخم وفقا لثلاثة أقسام كبرى هي:   
·      دراسات اجتماعية.
·       دراسات فلسفية.
·      دراسات تحليلية.
3-                       الاقتباسات من ترجمة الكاتبة ، إلا أن يشار الى غير ذلك.
4-                       ظهر دانتي كواحد من شخصيات رواية "المبعدين "لبلزاك(" Les proscrits")  التي تدور أحداثها في باريس عام 1308.
5-                       ترجمة هذه الفقرة للدكتور محمد مندور-"نماذج بشرية"، القاهرة، نهضة مصر ، 1997، ص.115-116.
6-                       كتب فلوبير  الى صديقته لويز كولي بعد أن قرأ مراسلات بلزاك التي نشرت  عام 1876، معلنا عن أسفه العميق لما لمسه في شخصية صاحب"الملهاة الإنسانية" من نواقص ، ومن اهتمام مبتذل بالمال فكتب لها قائلا:"كم كان قليل الاكتراث بالفن،(..) كم كان ضيق الأفق(..)يحلم بمقعد في البرلمان(..)و هو الى ذلك جاهل و ريفي حتى النخاع، يبهره الترف .."
7-                       في 1836، كتبت دولفين دو جيراردان رواية بعنوان"عصا بلزاك"، تصورت فيها قدرات غير عادية لعصا أديبها المفضل، فهي عصا تتيح لحاملها القدرة على الاختفاء، و التسلل بخفة داخل العقول و القلوب. 



نشرت في مجلة "وجهات نظر" في عدد ديسمبر 2007











  

دائرة إنتهاك الجسد وقهره في وداعا ايتها االسماء



وداعا أيتها السماء لحامد عبد الصمد
دائرة إنتهاك الجسد وقهره في بوح يتقنع بالسرد


إبراهيم فرغلي


المؤلف حامد عبد الصمد وزوجته كون في كوبنهاجن




مثل أغلب الروايات الأولى التي تصدر في العالم العربي، تبدو رواية وداعا أيتها السماء لحامد عبد الصمد الصادرة عن دار ميريت، نموذجا للسيرة الذاتية التي تحاول أن تتزيا بزي التخييل، ونبرة الحكي البسيطة، التي تبدو قريبة للبوح، وللاعتراف، كأنها وسيلة للتطهر، وليست عملا فنيا له غايات فنية لا بد أن تعطى لها الأولوية الأولى.

وبالرغم من ذلك فقد لفتت الرواية انتباه بعض النقاد والكتاب، وتراوحت ردود الفعل حولها بين السلب والإيجاب.

لكنني أظن أن أهم أسباب الالتفات للرواية هو طبيعة العوالم التي تتناولها، والموضوعات، التي يعد الكثير منها من قبيل التابوهات، مثل اغتصاب الأطفال، والمثلية الجنسية، والعلاقات الجنسية الحرة، والختان. والتي لم يعدم كاتب النص الجرأة في تناولها بالتفاصيل، وبالكشف الصريح، بالرغم من فجاجة انتمائها للكلاشيهات المغوية لاهتمام الغرب، وهو ما يمكن فهمه عندما أعلن الكاتب أنه كتب النص أولا باللغة الألمانية، لأنه لم يكن يتقن العربية، ثم ترجمها إلى العربية، بمحاولة الكتابة باللغة الأم المستعصية، والتي سرعان ما تحول عصيانها استكانة وتدفقا!

وصحيح أنه أعلن أنه لم يكن يكتب رواية، لكنه أوضح على اي حال طبيعة الجمهور الأساسي الذي استهدفه من هذا النص.

"قبل أن أسافر إلى ألمانيا كان إسم هذا البلد مرتبطاً بذهنى بأسماء وأحداث متناقضة: ألمانيا "جوته" و"ريلكه" وألمانيا "هتلر" و"جورنج".. ألمانيا المحطمة بعد الحرب، وألمانيا المعجزة الإقتصادية وإعادة البناء. ألمانيا المقسمة لشرق وغرب، وإعادة التوحيد بدون قطرة دماء. ألمانيا العمل والنظام وعلامة الجودة "صُنع فى المانيا". وبالطبع أيضا المنتخب الألمانى لكرة القدم الذى كان يكسب كل مباراة حتى ولو لم يلعب جيداً. ألمانيا أرض "مارتين لوثر" وأرض التحرر والمجون.. ألمانيا بلد "الفرنجة".. أقربائى... بلد الشعراء والفلاسفة والأبطال.. والبلد الذى لم يعد مسموحاً له أن يكون له أبطال.

كانت الصور الوحيدة التى رأيتها عن ألمانيا عبر التليفزيون هى صور مظاهرات النازيين الجدد فى الشوارع وصور إحتراق بعض بيوت اللاجئين هناك، وصورة إنهيار حائط برلين فى سلام تام. وصورة أخرى تلقيتها عن ألمانيا من فيلم "النمر الأسود" الذى تعلّمنا منه أن أى جاهل مصرى يمكنه أن يسافر إلى ألمانيا فيصير مليونيراً فى غضون سنوات ويتزوج أجمل النساء..".
هكذا يبدأ نص وداعة أيتها السماء، والذي يبدو مبشرا بتجربة في عالم مختلف عن أجواء النصوص العربية المغرقة في المحلية، لكنه قبل أن يستفيض في التجربة الألمانية يعود بذاكرته أولا إلى تجربة الحصول على التأشيرة من السفارة الألمانية بعد حصوله على فرصة للدراسة هناك.

ثم يعود بالذكرة لاحقا إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى قريته التي عاش فيها طفولته، مستدعيا صور الأب القاسي المتدين، إمام المسجد، وشيخ القرية في الوقت ذاته، الذي كان حريصا على حفظ الابن القرآن كاملا، والأم المقهورة في مجتمع ريفي بدائي، ثم انتقاله للقاهرة لفترة للدراسة في المدرسة، حيث استقر لدى أحد أطراف العائلة، لكنه يتعرض للاغتصاب من قبل حرفي ميكانيكي، في اثناء ذهابه لشراء الخبز من أحد الأفران القريبة من مقر إقامته.

تصف الرواية مشهد الاغتصاب كاملا، والألم الذي تعرض له، والمهانة التي أحس بها، بعدها، والخوف من تهديدات ذلك الصبي من أن يقتله إذا أخبر أحدا بما حدث، كما تصف التداعيات النفسية لتلك الواقعة، في ذلك اليوم، والأسئلة الصادمة التي كانت تتصاعد في ذات الطفل، ثم في وعيه لاحقا، وتأثيرها في تطوره النفسي، وفي سيطرة الإحساس العميق بالنبذ من المجتمع في أعماقه.

إحساس الرجولة ومعناها أحد الأسئلة الأساسية في النص، لأنه يعود إليه بين آن وآخر، وينتظر وصوله إلى البلوغ لكي يتأكد من ذلك، بل يصبح ممارسا للجنس مع الإناث بنوع من الهيتيريا لاحقته حتى في تجربته الألمانية، ثم في تجربة اليابان لاحقا، والتي تبدو مقحمة تماما على النص.

فمنذ علاقته الجنسية الأولى يدرك أنه رجل، وليس مثليا، وأنه يستجيب للمارسة الجنسية الطبيعية، فيتمادى، وكأنه يحاول بذلك أن يمحو سنوات إحساسه بالمهانة من الذاكرة، وكنوع من تأكيد هويته كما بدأ يشعر بها.

ومع ذلك فهو يبدو بلا يقين، وأسئلته لا تبدأ وتنتهي من الجنس، وإنما تمتد للمقدس، ولمعنى الحياة، وللقيم، في الشرق والغرب على السواء.

 وبالرغم  من خلو النص من أية تقنيات روائية، وبالرغم من تراوح مستوى اللغة بين المباشرة والركاكة، وبالرغم من الطابع التقريري للكثير من مناطق النص والتي يبدو فيها المؤلف كأنه يقدم دليلا سياحيا، عن الاختلافات بين الثقافة التي ينتمي إليها، والقائمة على الكبت والتلصص والتناقض بين الحلال والحرام والغيبيات، وبين الثقافة الأخرى القائمة على التحرر والمكاشفة والعقلانية.

 لكن ذلك كله لا يبدو مهما لكاتب النص لأنه كتب نصا يتكيء على الجرأة في تناول العديد من القضايا والموضوعات المسكوت عنها في الأدب العربي بشكل عام، كما ينحو نحو بعض النماذج الكلاشيهية مثل ختان الصبية والفتيات في الريف المصري، حيث تصف أحد المشاهد تفاصيل ختان البطل وشقيقته في نفس اليوم، ومدى الألم الذي شعر به، والإهانة، وكيفية مراقبته لشقيقته التي كان عليها، وعلى نقيضه هو، حتى الامتناع عن التعبير عن ألمها على أي نحو.

وتظل حيرة البطل، عنصرا أساسيا في كل مراحل حياته، فلا يزاد إحساسا الا بالعزلة، وبالنأي عن الآخرين، والاختلاف، مهما أقحم نفسه في علاقات عاطفية او مغامرات جنسية محضة، سواء في القاهرة، أو ألمانيا لاحقا، بل وحتى في اليابان التي يتناول الثلث الأخير من الرواية تجربة الراوي فيها، لكنها على عكس الجزء الخاص بالمجتمع الألماني، تبدو نظرية، ذهنية، ولا تبدو التجارب فيها طبيعية وإنسانية كما شأن العلاقات في أجزاء أخرى من الرواية.

وبعيدا عن كل تلك المعايير الفنية في تناول الرواية، أريد فقط أن أتوقف عند التيمة التي أظنها تيمة أساسية في هذه الرواية وهي تيمة أو موضوع الجسد.

فصحيح أن الراوي لديه أسئلة وجودية، عن الحياة والمقدس، وعن القيم، ومعنى الرجولة وغيرها، لكنها جميعا تنطلق من خبرات كان للجسد دور أساسي في إطلاقها، وفي تكون وعي الراوي بشكل عام.

فهو يرفض الريف والقيم التي نشأ عليها فيه، ويرفض القيم السلبية للمجتمع المصري، وتناقضاته، والكبت الذي يتسبب فيه، ومظاهر التدين الشكلي، ولكنه في المقابل، يكره المجتمع الألماني بلا سبب واضح، رغم إعجابه بمظاهر التحرر، والحرية التي لا يختبرها بشكل واضح سوى في أفكار التحرر الجنسي، وقدرة العاهرات على التعري على شاشة التلفاز.

هذا الرفض للمجتمعين تجعل الراوي لا يجد حلا للبحث عن هويته سوى بجسده، وعبر علاقات جسدية تبدأ بالفتاة الألمانية التي التقاها في القاهرة وكانت سببا في وجوده بألمانيا، ثم ينفر منها ليمارس العادة السرية على صور العاهرات المبثوثة على الشاشة.

وعندما تبرد علاقته بزوجته الألمانية يستغل فترة سفرها إلى الهند ليذهب إلى أحد النوادي الليلية، حيث يشاهد عاهرات، ترفض الكثيرات منهن دعوته، لكنه أخيرا يجد فتاة، ترغب في مشاركته الفراش بعد أن أقنعها أنه ثري من دبي!

ويقدم تفاصيلا مشوقة لجو علاقته الأولى بالعاهرات، دون التطرق لفعل الجنس نفسه، ودون أن يوضح الاختلافات في إحساسه بين تلك الفتاة وبين زوجته التي فترت علاقته بها دون سبب واضح، مركزا فقط على جانب التناقض الشرقي، الذي يتمثل في استيقاظه في الصباح لكي يغتسل اغتسال الجنابة ويصلي!

ثم يسرد سريعا تحوله للعلاقات، بلا رادع، أو وازع، أو هدف، مع فتاته العاهرة، ثم بعد انتقاله إلى هامبورج، من برلين، مع فتيات من الطالبات المبتعثات من أرجاء أوروبا وروسيا، ثم يلقي علينا هذا التقرير الساذج الذي يبدو موجها لقاريء من القرون الوسطى:"ولكن هذا لا يعني أن كل بنات أوروبا كن عاهرات أو سهلات المنال. فمعظمهن يعشن في علاقات ثابتة مع بوي فريند يخلصن له إخلاص المرأة لزوجها. وحتى إذا كانت البنت بدون صديق فإنها لا تذهب للسرير مع أول رجل تصادفه..هذه فقط مجرد صور نمطية نحتفظ بها في أذهاننا نحن الشرقيين".

لكن يبدو أن هذا المستوى من التقريرية تمهيدا من كاتب النص للانتقال إلى منطقة الماضي، والذاكرة، المنطقة التي تكون فيها وعي الصبي، وتعرض خلالها للانتهاك على يد ميكانيكي، وهو في الخامسة من عمره، والتي أثارت في أعماقه مخاوف عميقة، وأسئلة حارقة، عن الفارق بين الطبيعة البشرية والحيوانات، إذا كانت الغريزة، هي التي تحرك كل منهما، فقط، سواء في وصفه الدقيق لمشهد الاغتصاب، أو لاحقا حين يصف الراوي ألعاب الفتيان في القرية الذين كانوا يصطفون ليتبارون في مضاهاة أعضائهم ببعضها وممارسة العادة السرية أمام بعضهم البعض في مسابقة لأبعد قذف!

يتأمل الراوي المشهد، متسائلا لو ان كائنات من الفضاء تابعته من أعلى فكيف سيرون البشر، مقارنا بين هذا المشهد وبين مشهد مجموعة من القرود.

لكن واقعة الاغتصاب الأولى لم تكن الأخيرة، فقد تعرض شاكر للاغتصاب الجماعي، من قبل عدد من رفاقه في مدرسة القرية بعد عدة سنوات، أخرى، حينما استدرجوه إلى منطقة المقابر، وقيدوه وتناوبوا عليه. وكان إحساسه بالمعانة أكبر من المرة الأولى، لأنها واقعة تسببت في فضيحته، لكن بينما كان الخوف والرعب، الذي تحول لحالة من العنف، هو رد فعله في المرة الأولى، فقد كان العنف هو رد الفعل في تلك المرة، حتى أنه أمسك سكينا هدد به أحد الفتيان الذين حاولوا أن يراودوه عن نفسه، فمنعهم عن معاودة إثارة الموضوع لاحقا.

وفي غير موضع يشر الراوي إلى الصراع العنيف بين كراهيته للجسد الذكور الفحل العنيف، وبين رغبته في أن يتحلى بهذه الفحولة مع الفتيات لكي تتحقق له هويته الضائعة: "كنت أظن ان شعوري بالرجولة سيغسل عني هموم الماضي وعاره ولكن هذه الرجولة جعلت من الصعب علي قبول ما حدث لي في طفولتي وفي المقابر. فلو كنت قد صرت شاذا لكنت ربما صرت فخورا ان اول تجاربي الجنسية كانت في سن الرابعة. أما الآن فاشعر بصراع داخلي بين الرجل الفتى الذي يريد ان يلعب دور الفارس وبين الطفل الذي يكره الرجال وفتوتهم".

لكن هناك تناقضا أساسيا في هذا النص، يظهر في أن سرد الراوي لمشاهد فحولته الجنسية في ألمانيا تبدو وكأنها تعويض عن فترة كبت طويلة، بل إنه يوضح أنه لم يواقع الفتاة التي تزوجها إلا بعد الزواج، قبل أن يقرر أن ينهي علاقته بالدين، وأن يفعل كل المنكرات، دون أن يتوقف عن الصلاة، لكن الحقيقة أنه في مواضع الرواية التي تتناول عالم القرية يوضح أن تجاربه الجنسية بدأ ت بعد بلوغه في القرية، بعد أن شاهد مشهد جنس جماعي في منطقة المقابر النائية بين عاهرة وتلاثة رجال تناوبوا عليها فأشعل خياله ورغبته المراهقة إلى حد الالتياث، فبدأ في ممارسة العادة السرية بجنون. ثم يبدأ لاحقا في التلصص على جارتهم  "أنهار"؛ الزوجة التي سافر زوجها إلى بلد عربي، التي كانت تستحم عارية في فناء بيتها، وحيث كان بإمكانه مراقبتها من أعلى سطح منزلهم المتاخم، الأمر الذي تكرر كثيرا، حتى بعد أن أدركت الجارة لوجوده، بل أنه حاول التودد إليها لاحقا.

ثم عند التحاقه بالجامعة وتراوحه بين التحرر والكبت، ومحاولة مصادقة الفتيات، ثم انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين، وبعدها التقى سائحة أمريكية، وعندما أتيحت له الفرصة، مارس الجنس معها بلا تردد. وذلك كله قبل المرحلة الألمانية.

وهي من مواضع الخلل في هذه الرواية التي كانت تحتاج لمحرر جيد يضع يده على هذه المناطق السردية المختلة وعلاجها، والذي أظنه كان حريا به أن ينزع عن الرواية فصلا كاملا انتقل به الراوي إلى اليابان، حين حصل على فرصة للعمل، واستمرت فيها رحلته العبثية في اللايقين، والبحث عن العشق الجسدي غير المبرر، وعن الإيمان. وهو فصل تقريري مجرد خال من الحيوية، وممتليء بالتققارير الخبرية والسياحية عن اليابان، يبدو مقحما بتعسف على النص.

وبالرغم من العديد من مناطق الخلل التي تعتور هذا النص، فقد نجح في إثارة عدد من القضايا المسكوت عنها في النص العربي عموما، مما تمت الإشارة إليه، ثم لموضوع قهر جسد المرأة، من جهة أخرى.

فهناك بالتأكيد صورة أساسية لجسد المرأة في هذا النص، يبدو فيها تقريبا موضعا للانتهاك، سواء من خلال رصده لتجربة ختان أخته في اليوم نفسه الذي تعرض فيه للاختتان، لكن مع الفارق في قوة قهر المجتمع للفتاة المختونة، فقط، من أجل كبح جماح شهوتها ورغبات جسدها، أولا، ومنعها من التعبير حتى عن ألمها في هذا الموقف، تاليا. وفي مشهد الجنس الجماعي للفتاة التي اعتبرت عاهرة بعد علاقة غير شرعية مع أحد الملاك، ولم يعد أمامها طريق آخر للإنفاق على أطفالها سوى الدعارة.

ثم هناك الجـسد الأنثوي كرمز لتعويض الراوي عن امتهان جسده هو طفلا وصبيا، بعدد كبير من العلاقات مع النساء الغربيات، كأنها محاولة مزدوجة لتعويض الإحساس بالدونية، تجاه جسده، وتجاه الغرب الذي لم يستطع أن يتفاعل معه.
ومع ذلك فلا يبدو النص قادرا على الإمساك برؤية واضحة قوية لأي مما يعالجه، فهي كلها تناقضات ورؤى مشوشة ربما لا يمكن تبريرها سوى بانتهاء أمر الراوي إلى المصحة النفسية التي كانت ملاذه الأخير من نوبات جنونه، وصراعه الداخلي العميق.


مقتطف:

"أمرني بالسجود على الأرض ففعلت والرعب يكاد يقتلني . سجدت أمام الوحش الجائع وأنا أمسك بلفافة الخبز الساخن، ورحت أقرا من المعوذتين كما علمتني أمي أن أفعل في حالة الخوف. حاول الصبي أن يدخل عضوه الذكري في داخلي ولكنه لم يستطع. كان ملمس عضوه على جسدي كفأر قذر قد خرج لتوه من أنبوب المجاري، وكانت رائحته التي تمزج العرق والشحم تثير اشمئزازي . ظننت أولا أن فارق الاحجام بيني وبينه قد أنقذني ، ولكن "شكمان" كان مصمما على إنهاء المهمة بأية طريقة. راح يبصق على مؤخرتي ثم أدخل أحد أصابعه بعنف في أحشائي . ظننت أن ذلك هو اقصى ألم يمكن أن يتحمله جسدي حتى أدخل اصبعا آخر وراح يعبث بداخلي. ثم أخرج اصبعيه وبصق مرتين قبل أن يدخل عضوه في جوفي. لم تكن "شكة دبوس" وإنما سكين بارد يمزق أغشيتي في كل رجة جسد. وبعد رجات مؤلمة خرج مني وترك سائله اللزج، الذي لم أكن اعرف اسمه حتى ذلك اليوم، ينسال على مؤخرتي.

لم أرَ، في حياتي كلها، شيئا بهذه الدرجة من الألم والقذارة، مع العلم بأنها لم تكن آخر مرة اتعرض فيها لمثل هذا الامتهان. دفنت هذه الجريمة في طفولتي وأحلام بقائي في القاهرة. توقفت عن تكرار قراءة المعوذتين، وأخرجت من اللفافة التي لم تترك يدي رغيفا رحت أمسح به قذارة سائل صبي الميكانيكي عني.
"وحياة امك لو حكيت لحد اللي حصل دا لاقطم رقبتك. فاهم يا ابن اشرموطة؟" قال شكمان مهددا.

لبست سروالي في رعب وأخذت الخبز وعدت الى منزل جدي. كل درجة سلم عذاب. كل نَفَس نفخة عار. سلمت الخبز لزوجة جدي ثم ذهبت الى السرير واختبات تحت البطانية رغم انه كان يوما شديد الحرارة. رقدت على بطني من فرط آلامي الداخلية ورحت أبكي بصوت منخفض. كنت اتذكر لوم أبي "ماتعيطش زي الحريم!" لماذا؟ لماذا انا؟ لماذا هنا؟ آلاف الاسئلة تصارعت في رأسي وما من مجيب!
-         "شاكر، فيه رغيف عيش ناقص انت اللي اكلته ولا الواد بتاع الفرن ضحك عليك؟". سالت زوجة جدي مستفسرة.
-         "أنا اللي اكلته يا ستي" قلتها وانا احاول ابتلاع دموعي. وفي اليوم التالي تجاهلت الامي الداخلية وتجاهلت قطرات الدماء التي نزلت مني اثناء التبرز وغسلت سروالي بنفسي في المرحاض حتى لا ترى زوجة جدي آثار ما حدث. لم افش بآلامي لأحد حتى لا يأخذوني للطبيب فيعرف بما كان. كنت لا أريدهم ان يطلقوا عليّ لقب "الواد الخسران بتاع العيال".
فقدت منذ ذلك اليوم ثقتي بكل البشر. أصبح كل انسان في نظري مجرد كائن شرير. وما الخير إلا نفاقا محسوبا خوفا من طائلة القانون او رقابة المجتمع. فاذا غاب القانون والرقابة عاد الانسان الى طبيعته الحيوانية..ولكن حتى الحيوانات لا تفعل ذلك.
آاااه، كم كنت أود ان أظل طفلا لفترة أطول! كنت أود ان أحتفظ بخيالاتي الساذجة عن العالم لبعض السنوات. كنت أود ان أفكر قبل نومي في لعبي ومرحي وفي الغد، لا في كيفية الاحتفاظ بسري وعاري. لا بد أن طبائع الغجر او الصليبيين قد تسربت إليّ. لقد جلبت العار لبيت الشيخ الكريم!!
قررت ألا أبقى يوما واحدا في القاهرة بعد ذلك. إن هذه المدينة لا تعرف اسماء ابنائها. إنها تخنق أولادها تحت أحجارها، وتدهسهم تحت عجلات سياراتها وتبتلعهم في أنابيب مجاريها. جئت اليها فاتحا ذراعي وظننتها ستعانقني ولكنها حتى لم ترد عليَّ السلام. لا احد هنا ينصت لأحد والحياة استمرت في اليوم التالي وكأن شيئا لم يكن.
قلت لجدي بإلحاح إنني أريد العودة لأمي فورا. فقال لي إن أبي سيأتي بعد شهرين ليأخذني بسيارته وأنه لا يوجد هاتف في القرية ليطلب منه المجيء مبكرا. فقلت له إنني لا أريد البقاء في هذا البيت لأنني أكره زوجته. فسألني لماذا تكرهها؟ فقلت "عشان بتبعتني اجيب عيش. انا مش خدام عندها!" وفي النهاية أجبر إلحاحي وصراخي المستمرين جدي على الرضوخ لرغبتي ومصاحبتي للقرية في اليوم التالي".



نشرت في العدد الأول من مجلة "جسد" في بيروت