Saturday, September 1, 2012

الثورات والعواصف المعرفية والقراءة الالكترونية





الثورات تسبقها عواصف معرفية .. فماذا عن ثورة القراءة الإلكترونية؟




إبراهيم فرغلي

في كتابه تاريخ الحضارة يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل أن أحد ابرز معالم انتقال الحضارة الغربية من العصور الوسطى إلى العصر الحديث أربع عوامل اساسية أولها مرور الحضارة الإيطالية بعصر النهضة الذي تميز بطفرة هائلة في العلوم والفنون، ولعل في نموذج واحد مثل الفنان والعالم الإيطالي ليوناردو دافنشي، ما يكفي لتوضيح هذه النهضة الهائلة التي انطلقت في اوربا.
كان أبرز نتائج الانتقال من العصور الوسطى التي شاعت فيها العديد من مظاهر التقييد العقلي، ومحاكم التفتيش والخرافة والطبقية السياسية والاجتماعية بلوغ مجتمعات اوربا عصر الثورة التي غيرت بل ونسفت كل تلك القيم المتخلفة، واسست لمفاهيم جديدة تقوم على الحرية والمساواة والعقلانية.
ويبدو أن ما نشهده اليوم من انتفاضات وثورات وحراك سياسي واجتماعي في المنطقة العربية قد سبقته ايضا حالة من الحراك المعرفي الذي تسببت فيه معالم عصر ثورة الاتصالات الحديثة.
ولعل الاختلاف الوحيد بين الثورات العربية وعصر الثورات الغربية في القرن الثامن عشر وما تلاه، أن الثورات العربية تحققت في عصر الثورة المعلوماتية، حيث نشهد اليوم طفرة هائلة في الوسائط الجديدة الإلكترونية التي تدخل بالقراءة عالما غير مسبوق يتيح لأي فرد مكتبة لا نهائية عبر توفير نسخ الكترونية من الكتب التي صدرت باللغات الأجنبية في العالم.
المعنى أن ما تحقق بسبب ثورات أوربا في قرن أو يزيد، يمكن أن يتحقق في هذا العصر في عقود قليلة بسبب هذه الثورة التقنية الهائلة والتي لا بد انها سوف تتسبب في طفرة في القراءة والتعليم، خصوصا مع تزايد شعبية المواقع الاجتماعية التي يشهد جانبا كبيرا منها، حوارات مستفيضة لا بد ان يعرج الكثير منها على السياسة والثقافة والمعلومات التاريخية التي تجعل الكثيرين يلجأوا للمعرفة للتيقن مما يسمعوا به أو لدعم آرائهم وهي كلها ظواهر جديدة لم تكن موجودة من قبل.

وفي وقت الثورات الأوربية كان الحصول على الكتب يقتضي ربما الاستعانة بنسخ مستعارة من مكتبات، ولم يكن ممكنا بالتالي توفير ما يحتاجه الفرد في اي وقت، بينما اليوم يمكن لي شخص أن يجد مواقع متخصصة فقط في إتاحة نسخ الكترونية من ألاف الكتب على الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت).
ليس هذا فحسب فالمواقع الإلكترونية الخاصة بترويج وبيع الكتب مثل "أمازون" مثلا، Amazon، أو بارنز ونوبل Barnes&Noble ، أو غيرهما وبعد أن كان تخصصها الأساسي هو الترويج للكتب الورقية اصبح اليوم جزءا كبيرا من اهتمامها، بل ونسبة رهيبة من سوقها موجه للكتب الرقمية، التي تقرأ على وسائط القراءة الجديدة مثل Kindle التي ابتكرتها أمازون ككتاب الكتروني، أي جهاز مهمته فقط تحميل الكتب الرقمية وقراءتها عليه، ومثيلاتها مثل Nook، الذي انجزته بارنز آند نوبل، أو قاريء سوني Sony Reader، أو أجهزة  IPad، وصولا لوسائط أجهزة الهواتف الجديدة IPhone، المجهزة ببرامج لتحميل الكتب أيضا، وسواها من التقنيات الحديثة الخاصة بالكتاب.

مزايا وتخصصات
ما تتسم به هذه النسخ الالكترونية هي رخص أسعارها مقارنة بالكتب الورقية التي تقتضي أيضا إضافة تكلفة الشحن لسعر الكتاب، كما أن الابتكارات تتلاحق في برامج القراءة ذاتها، بحيث تبدو اقرب ما تكون للكتاب الورقي، بحيث يتم تقليب الصفحات مثلا باللمس بطريقة تشبه تقليب الصفحات في الكتب أو المجلات. كما تتوفر إمكانات وضع علامة تنبه القاريء للموضع الذي توقف عنده، إضافة إلى إمكانية أن يظلل مواضع معينة في النص المقروء أو تدوين ملاحظات على ما يقرأ.

هذا الإقبال المتزايد على شراء نسخ رقمية من الكتب، دعا العديد من الأفراد او المؤسسات المهتمة بالنشر، خصوصا في الولايات المتحدة أن تتجه لتأسيس دور نشر رقمية، أي دور نشر تصدر نسخا رقمية فقط من الكتب.


وفي مرحلة لاحقة تخصصت بعض من دور النشر الرقمية هذه  في ترويج أنواع من هذه الكتب فبعضها كتب طويلة نسبيا تصل عدد كلمات النصوص التي تحتويها في المتوسط 300 ألف كلمة، وبعضها كتب متوسطة للقراءة في جلسة واحدة، لكنها جميعا تنتمي للمغامرات أو الرعب.
لكن هذه الدور الرقمية لم تكتف باستقطاب القراء الشباب وغيرهم من هواة هذ االنوع من الكتب بل استقطبت الكثير من الكتاب، بعضهم ليس معروفا لدى القراء، والبعض لم يسبق ان نشر له شيئا.
وكمثل أي سوق أخرى وجد هؤلاء الكتاب بعض الصعوبات في تسويق أعمالهم بالطريقة التي يتمنونها. وبدأت هذه الدور في التفكير في طرق جديدة لتسويق هؤلاء الكتاب، واستغلت خاصية التفاعلية المتاحة على شبكة الإنترنت، وبدأت تروج لهم مع الكتب الذائعة أو تلك الحاصلة على جوائز سواء لتشابه أجواء القصص في الحالتين أو لأي اسباب ترويجية أخرى.

المؤكد أن هذا الوسيط الجديد لم ينتشر بعد بالشكل الذي يجعل منه ظاهرة عامة، لكنه يتزايد، ربما بشكل يومي، ولعله يمثل تشكل ظاهرة جديدة لدى المراهقين في اوربا والولايات المتحدة وشرق آسيا ممن نشأوا وتعلموا مباديء القراءة والكتابة باستخدام التقنيات الرقمية الجديدة. أما في المنطقة العربية فلا شك أن سوق القراءة لا يزال يميل إلى سوق الكتاب الورقي بالكامل ربما.

ولعلني ممن يظنون أنه مهما توسعت سوق القراءة الإلكترونية فإنها لا يمكن أن تقضي على الكتاب الورقي لأسباب عديدة، لها علاقة بالعامل السيكولوجي لمن اعتادوا القراءة ورقيا، حتى في الغرب، ولأسباب أخرى تناولتها هذه الزاوية سابقا.

جيل محظوظ معرفيا

لكن ما يهتم به هذا المقال أن التقنيات الجديدة الخاصة بالقراءة الرقمية وتخزين الكتب الالكترونية مع شيوع ظاهرة المكتبات الرقمية في العالم، سوف تتيح للأجيال الجديدة ما لم يكن متاحا لجيلي ومن سبقه من فرص هائلة للقراءة في شتى المجالات.


ولأوضح الفرق فإنني مثلا حين كنت في السابعة عشر من عمري كان علي لكي أجد كتابا ارغب في قراءته ولا اجده ان أنتظر عاما حتى يحل موعد معرض القاهرة الدولي للكتاب، وان أنتقل إلى القاهرة وابحث عن الكتاب لكي أجده. بينما اليوم يمكنني أن اجد اي كتاب مصورا وموجودا على مواقع الإنترنت المختلفة. وإذا وجدت الكتاب متوفرا بالإنجليزية فلا بأس، فلدي على الإنترنت أكثر من موقع للترجمة، بل وعلى جهاز الىيفون ايضا، ما يمكنني من التعرف على أي كلمة مما لا أعرف في ثوان قليلة، وهذا التوفير في وقت إيجاد المعلومة بالتأكيد له مردود في كم المعرفة الذي يمكنني أن أتحصل عليه اليوم مقارنة بما كان المر عليه قبل أكثر من عشرين أو ثلاثين عاما، بل وحتى مقارنة بخمس سنوات مضت فقط.

والحقيقة أن اكثر ما يبدو مبهرا بالنسبة لي في موضوع التحصل على الكتب الأساسية أو أمهات الكتب كما يقال، خصوصا في اللغات اللاتينية وخصوصا الإنجليزية ان فرص الحصول عليها مجانا اكثر بكثير من الكتب الأحدث أو الصادرة في السنوات القليلة الماضية.

مشروع جوتنبرج

إذا تمكنت من تحميل برنامج  iBook، على حاسوبك او جهاز الآيفون اليوم فسوف يكون بإمكانك أن تقرأ مثلا الأعمال الكاملة للفيلسوف الهولندي إسبينوزا، أو الأعمال المهمة للروائي الروسي دوستويفسكي، أو مشروع غوتنبرغ  Gutenberg ، هو مشروع تطوعي يهدف إلى تحويل وتخزين ونشر الأعمال الثقافية بشكل رقمي. لكن هذا المشروع لا يعود إلى امس أو بضعة اشهر، بل إلى أكثر من أربعة عقود، حيث أسس المشروع مايكل هارت في عام 1971. وأغلب المواد الموجودة في المشروع عبارة عن نصوص كاملة ذات ملكية عامة. يحاول المشروع أن يجعل المواد الموجودة فيه مجانية بقدر المستطاع وبتنسيقات تمكن تشغيلها من جميع الحواسيب تقريباً.
فكرة مايكل هارت عام 1971 تتمثل في تمكين كل من يملك حاسوبا موصولا للشبكة من الحصول ومن ثم قراءة أمهات الكتب وأصول المعرفة الإنسانية. موقع مشروع غوتنبرغ اليوم يوفر نسخا رقمية من أعمال مشاهير الكتاب والمفكرين على مر العصور، طالما لم تكن هذه الأعمال مشمولة بقوانين حماية الملكية الفكرية. ويوجد ضمن الموقع اليوم أكثر من عشرة آلاف عنوان على شكل ملفات نصية مضغوطة أو كملفات نصية فقط. وكان هدف هارت منذ البداية هو تزويد مستخدمي إنترنت بأكثر من تريليون ملف نصي بنهاية عام 2001.
ورغم الكميات الهائلة من الملفات المتوفرة ضمن موقع مشروع غوتنبرغ، فإنه لم يحتو على كثير من الميزات التي يمكن أن تجعل منه مكتبة رقمية كاملة، مثل إمكانيات البحث في النص، أو تصنيف الكتب، وما إلى ذلك، ولا يحتوي الموقع حتى اليوم إلا على محرك بحث بسيط يبحث في الكتب حسب العناوين أو حسب اسم المؤلف. والسبب في ذلك هو أن هارت منذ البدء ليس بمهتم بالنواحي التقنية للموقع، وهدفه الوحيد، وحلم حياته، هو أن يضع أكبر كمية من الكتب الرقمية المجانية على الشبكة. ويحصل هارت على تمويله اليوم من الجامعة البندكتية في ولاية إلينوي، والتي عينته أيضا أستاذا في علوم النص الإلكتروني ووفرت له المعدات اللازمة لتشغيل الموقع، كما يعاون هارت في جهوده شبكة من المتطوعين يبلغ عددهم حوالي الألف.

كتب جوجل
منذ سنوات وشركة جوجل تعرب عن نواياها في إطلاق أكبر مكتبة الكتورنية على الشبكة، وكان ذلك قبل ان تنتهي تقوم بالفعل بتاسيس خدمتها "كتب جوجل"، أو Google Books، وهي أداة من جوجل تبحث في النصوص الكاملة للكتب التي يقوم جوجل بمسحها وتخزينها في قاعدة بياناته الرقمية. هذه الخدمة كانت سابقاً تعرف باسم طباعة جوجل Google Print حينما قدمت في معرض فرانكفورت للكتاب في أكتوبر 2004. أثناء البحث في موقع جوجل (google.com)، حينما تكون كلمة البحث المدخلة مقاربة يقوم الموقع بعرض حتي ثلاث نتائج من بحث كتب جوجل. بالطبع يمكن للمستخدم أن يبحث عن كتب معينة في بحث كتب جوجل. بعد النقر على نتيجة بحث الكتب، تظهر واجهة من خلالها يستطيع المستخدم عرض صفحات من الكتاب بالإضافة إلى إعلانات تجارية لها علاقة بالموضوع وروابط لموقع الناشر والبائع على شبكة الإنترنت. نظراً لاعتبارات أمنية، يقوم جوجل بتحديد عدد الصفحات القابلة للعرض ويمنع أي محاولات لطباعة الصفحة أو نسخها نصياً حين خضوع النص لحقوق ملكية بالاعتماد على تتبع المستخدم.
ولا تزال قاعدة البيانات مستمرة بالنمو بأكثر من مئات الآلاف من الكتب التي تضاف من قبل الناشرين والكتاب، وهناك ما يقرب من 10 الآف عمل يقع في النطاق العام تم إدارجهم في نتائج البحث.
ويتم مسح الكتب او تصويرها رقمياً باستخدام طريقة خاصة بجوجل أشبه بماسح الكتب الآلي حيث توضع الكتب داخل الآلة عن طريق عامل بشري ثم تمسح (تحديداً، تستخدم كاميرا رقمية من على بعد) بمعدل ألف صفحة في الساعة.
ومع حلول العام  2006، أعلنت كل من جوجل ومنافستها مايكروسوفت، انهما لا يتمكنان من معرفة عدد الكتب التي قامت كل منها بمسحها. جوجل قالت أنها تقوم بمسح أكثر من 3 الآف كتاب يومياً مما يعني أنها تمسح أكثر من مليون كتاب سنوياً.

ثورة الورق الالكتروني!
هذه الثورة المتسارعة في تأسيس مكتبات موسوعية رقمية لا شك أنها سوف تنعكس، وسريعا جدا على سوق التقنيات الحديثة، فها هي شركة (إل جي الكورية) اعلنت أنها بدأت بإنتاج شاشاتها البلاستيكية المرنة التي تعمل بتقنية (اي انك) وتطلق الشركة على هذه الشاشة إسم الورق الالكتروني إذ تسمح هذه التقنية بإظهار الكلمات بشكل مطابق لما تظهر عليه مطبوعة على الورق التقليدي، وهي نفس التقنية المستخدمة في أجهزة القراءة الشهيرة مثل أجهزة (كيندل) من آمازون. بالإضافة إلى ذلك فالشاشة مرنة ويمكن طيها وثنيها مثل الورق الحقيقي تماماً، وتطمح الشركة إلى ثورة جديدة في عالم القراءة بفضل شاشتها الجديدة.
ما الذي تعنيه مثل هذه الثورة الجديدة؟ أن نمتلك جهازا بحجم الآيفون مثلا، ثم نطويه ليصبح في حجم كتاب أو آي باد لنستخدمه في القراءة؟  ربما هذا الفرض اليوم يبدو خياليا، لكن الطفرات المستمرة في هذه التقنيات لا تجعلنا نستبعد شيئا، خصوصا وأن فكرة الورق الإلكتروني في الحقيقة تقوم على فرضيات قريبة لهذا الخيال.

وماذا عن الحبر؟
حين نتحدث عن ورق الكتروني سيصبح من البديهي الآن أن نتحدث عن الحبرالالكتروني.
فما هو هذا النوع من الحبر؟ هو نوع من أنواع الورق الإلكتروني المصنع من قبل شركة E Ink. وهذه التقنية الحديثة نسبياً تستخدم بشكل رئيسي في الأجهزة المتنقلة مثل قارئ الكتاب الإلكتروني (مثل أمازون كيندل) وأحياناً الهواتف المحمولة. ما زالت هذه التقنية تستخدم التدرج الرمادي (أي اللونين الأبيض والأسود). من أهم مزايا هذة التقنيه توفيرها العظيم في الطاقة (البطارية) مقارنة بتقنية LCD المستخدمة في الهواتف المتنقلة الحديثة.
هي عبارة عن كبسولات متناهية الصغر قطر الواحدة منها أصغر من قطر شعرة الإنسان. هذة الكبسولات تحتوي على جزيئات بيضاء وأخرى سوداء، إحداها سالبة والأخرى موجبة. عند تسليط تيار سالب (بما يتناسب مع الصفحة المراد عرضها) فإن الجزيئات السوداء تندفع للأعلى والبيضاء للأسفل، ولا تحتاج إلى تحديث مستمر إلا لتغيير الصفحة. مما يوفر الطاقة.
والهدف النهائي من وراء ذلك هو الوصول إلى شاشات في سمك الورق العادي تعمل مع الحاسبات الشخصية واليدوية والتليفونات المحمولة والحاسبات المستخدمة ككتاب إلكتروني والمساعدات الشخصية الرقمية وغيرها من الأجهزة الأخرى، وتكون قادرة على التعامل بسهولة مع تكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية، بحيث تسمح بتغيير محتواها وعرض محتوى جديد عليها لاسلكيا من جهاز آخر، وتكون أيضا قادرة على الاحتفاظ ـ لفترة مناسبة ـ بصورتها وشكلها وما بها من محتوى عند قطع الكهرباء‏.‏
لهذا كله، وبما يعنيه من ثورة معرفية متوقعة بسبب كل هذه التقنيات، فإن العالم العربي مرشح للحاق بالمعرفة في سنوات اقل كثيرا مما كان متوقعا، تماما كما كان شأن توقع الثورات والانتفاضات التي هبت فجأة علينا من كل صوب ترفع رايات الحرية وتعلن عن ميلاد الإنسان العربي الجديد. أوهذا ما نرجوه.

 ثقافة الكترونية – يولية2012 -مجلة "العربي" 





العتب على النظر




بين الشكل والمضمون في العالم الافتراضي

العتب على النظر!



إبراهيم فرغلي

يستوقفني عند تصفح صفحة الفيسبوك مثلا أو تويتر بعض الإحالات إلى ما يقوم الأصدقاء او أي من المنضمين لصفحتي ببثه، بعضها مقالات يرشحونها للقراءة، وبعضها مقالات كتبها بعض منهم. وما يلفت الانتباه هنا أن كثيرا مما يبث قد يتم التعليق عليه من انطباع عابر يتولد من العنوان، أو حتى الضغط على زر "like" الذي يعبر به مستخدم الفيس بوك عن إعجابه بالمادة، لكن ربما دون أن يقرأها، أو ان يقرأها بنصف تركيز.

ولعل هذا بديهي لصفحة تابعة لموقع اجتماعي ومع ذلك فقد استثارني سؤال: ما الذي يحرض شخصا على قراءة موضوع ما، عبر رابط مبثوث على صفحة الفيس بوك. هل هو العنوان؟ أم صورة ترتبط بالموضوع وتلفت الانتباه له؟ وما الذي يجعله يتجاهل قراءة موضوع قد يكون موضوعا لاهتمامه فعلا؟ او أن يتخذ قرارا بتأجيله لصالح موضوع آخر تماما قد لا يكون بنفس اهمية الموضوع الأول لكنه يجد نفسه مدفوعا لمطالعة الأخير بفضول؟ ثم هل الطابع اللاهث لحياتنا اليومية وإيقاعها السريع تجعل من القراءة على الفيس بوك عملا شبه مستحيل أيا كان الموضوع ومدى درجة اهتمام الشخص به؟ أم أن الموضوع يرتبط بعملية أكثر تعقيدا وتركيبا ؟ الشكل والمضمون ربما؟ بالتأكيد، بل وقدراتنا البصرية المركبة والمحدودة في آن معا. فهذا هو موضع اهتمامي الآن وهنا.

هل يؤثر تصميم موقع من المواقع الإلكترونية على اجتذاب القاريء أيا كان مضمونه؟ أم أن التناسق بين الشكل والمضمون يلعبان دورهما في اجتذاب القاريء؟ وربما احيانا يكون التنسيق السيء للموقع سببا في عدم إقبال القاريء عليه حتى لو كان مهتما بالمادة المنشورة به.

بالتأكيد ثمة علاقة كبيرة بين شكل الموقع ومدى الإقبال عليه، وهناك اليوم طفرة ملحوظة في  التصميم والإبهار واستخدام إخراج فني مختلف لشكل الصفحات في مئات المواقع الالكترونية المختلف، ولمن يتابع شبكة الإنترنت منذ فترة طويلة بإمكانه أن يلاحظ فارقا أساسيا يمكن التعبير عنه بالفرق بين السكون والحركة. بمعنى ان التصميمات الأولى للمواقع بشكل عام أيا كانت درجة الإبهار في تصميمها كانت تعتمد على صور ثابتة ونصوص ثابتة فتبدو ثابتة وساكنة بصريا، أما اليوم بعد تداخل تقنيات الصور المتحركة والمواد الإعلانية والتجارية المصورة بالفيديو، فإن أغلب الصفحات تبدو اليوم وهي تومض وتتحرك بالإعلانات والإشارات إلى اخبار ومواقع دعاية وخلاف ذلك. حتى في المواقع التي لم تكن تحوي مثل هذه الخيارات سابقا وبينها صفحات الإيميل الشخصي التي اصبحت اليوم ممتلئة بصور متحركة في اطرافها للفت انتباه المستخدم إلى الإعلان، وهي خاصيات لم تكن متعارفا عليها في السابق. وهو ما نلاحظه أيضا في المواقع الإخبارية الافتراضية او المواقع الخبرية الالكترونية التابعة لقنوات فضايئة أو إذاعية، حيث نجد تتابع شريط متحرك للاخبار، وصور تومض مع الأخبار الأكثر تداولا أو الأكثر أهمية.

الأهم من ذلك ما تعانيه الكثير من مواقع الانترنت اليوم من الاهتمام بالشكل على حساب المضمون، وهذا واضح من خلال التركيز على إبهار الزوار لتلك الموقع من خلال برامج الفلاش والوسائط المتعددة والخلفيات الرسومية والموسيقية، وذلك بسبب الاعتقاد الخاطئ بان هذا الأسلوب يساعد في جذب الزوار، وهذا صحيح لعدة ثوان ثم ما يلبث أن يتبدل الحال ويؤدي إلى نتائج عكسية.

والحقيقة أن تأمل صفحات المواقع الإلكترونية المختلفة سوف يرينا أن هناك الكثير منها الذي يبدي اهتماما كبيرا بالتصميم، وقلة قليلة التي ستحرص على التوازن بين تصميم الشكل وعلاقته بالمضمون.

على سبيل المثال سنجد أن المواقع الاجتماعية من أكثر المواقع حرصا على تطوير تصميم إخراجها الفني بشكل دوري، وإيجاد علاقات جديدة بين الشكل والمضمون، انطلاقا من حرص القائمين على تلك المواقع في استمرار اجتذاب المستخدمين وارتباط عاداتهم اليومية في تصفح حساباتهم الشخصية على تلك المواقع وكبح الإحساس بالملل خلال العلاقة الممتدة مع تلك الحسابات، ولعل موقعا مثل موقع الـ"فيس بوك" يمكن أن يمنحنا نموذجا مثاليا لذلك عبر التغيير الدوري الذي يقترحه على مستخدميه لشكل الصفحات الخاصة بكل منهم، وعمل نماذج جديدة لأرشفة الصور الخاصة بهم أو الموضوعات التي يدونونها أو فيما يختارونه من مواد الكترونية يبثونها على صفحاتهم ويعلقون عليها. كذلك الأمر بالنسبة للموقع الاجتماعي الشهير أيضا "تويتر" والذي قدم لمستخدميه قبل فترة وجيزة تصميمات مختلفة للإعدادات واقتراحات فنية مختلفة لخلفية صفحة حساب كل مستخدم.
ومن المؤكد أن المواقع الخاصة بالفنون البصرية عادة ما تكون ذات تصميمات مميزة لها طابع فني، تمتلك الكثير من العوامل الفنية الجاذبة للعين، وكذلك المواقع الإلكترونية المهتمة بالأطفال، فاغلب مصمميها يعتمدون على الرسوم وفنون الجرافيك، وعلى الألوان والإبهار.

ليس بالفن وحده يصلح التصميم!

لكن هل يصلح الكلام النظري عن خصائص ومواصفات التصميم الجيد للمواقع لفهم هذا الموضوع؟ وهل اتباع هذه النظريات أو القواعد يكفل بالفعل تحقيق موقعا الكترونيا جاذبا ولافتا يؤدي الغرض من التوازن المطلوب بين شكل التصميم ومضمونه؟ بل إن الإبهار أحيانا على حساب المضمون أو الاهتمام بالشكل على حساب المضمون هو في الحقيقة ليس سوى تعبير عن عدم إدراك المصمم للعديد من القدرات البصرية للإنسان.


تتبعت الموضوع على الإنترنت حتى توصلت إلى أن هناك مجموعة من التفاصيل الخاصة بالتعرف على قدرات الإبصار والإدراك البصري لدينا كشرط أولي لفهم عملية التصميم. ولم أجد مثل هذه الأفكار في الكثير من المواقع العربية التي وجدتها تهتم بالتنظير لموضوع التصميم. ومن بين عشرات الكتب المختصة في فن التصميم التي اطلعت على عناونينها وبعض محتوياتها عبر المكتبة الالكترونية العملاقة أمازون Amazon توقفت عند كتاب لفتتني فرادته.
الكتاب، يوضح لنا أن العلاقة بين الشكل والمضمون ليست مجرد معرفة فنية، أو توفر إعداد معين لتوفير المعلومات أو البيانات أو المواد المراد نشرها بطريقة جذابة وملفتة للاهتمام، بل هي عملية ترتبط على معرفة الكثير من الحقائق غير الدارجة عن قدرات البصر والرؤية عند البشر، وهذه المعرفة العلمية بهذه المواصفات هي التي تجعلنا نشعر أن تصميما بعينه مثاليا نموذجيا، ونشعر بأن تصميما آخر ليس مريحا لنا، فما هي تلك القدرات والخصائص التي تتمتع بها حاسة الإبصار أو تفتقر إليها؟ عنوان الكتاب هو

 100 Things Every Designer Needs to Know About People


 وترجمته  "مائة شيء يجب أن يعرفها كل مصمم عن البشر". ومؤلفة الكتاب هي سوزان فاينتشينك،    Susan Weinschenk أستاذة علم النفس، والمتخصصة في دراسة علاقة علم النفس بالوسائط الحديثة على مدى ثلاثين عاما.

نحن نرى بعقولنا !
تفاجئنا سوزان فاينتشينكحين توضح لنا بداية أن ما نراه في الحقيقة ليس هو ما يبدو على حقيقته، بل ما تترجمه الإشارات البصرية في المخ وتقربه لإدراكنا اي أننا نرى بمخنا وليس بعيوننا. وتعطي سوزان دليلا على ذلك بوضع رسم عبارة عن ثلاث نقاط تتخذ شكل مثلث إذا وصلنا بين النقاط بخطوط مستقيمة، لكنها غير موجودة، وسوف نرى الشكل بوصفه مثلثا، لأن المخ يقوم بتحويل الصورة إلى أقرب صورة يمكننا إدراكها، رغم أنه لا وجود لمثلث هندسي من الأساس.
لماذا إذن نرى الشكل على هذا النحو؟ توضح سوزان أن المخ يقوم في كل ثانية باستقبال عدد خيالي من المدخلات الحسية (متوسط 40 مليون مدخل في الثانية) وعليه أن يستخلص منها شيئا منطقيا، لذلك فهو يقوم بعملية معقدة من الاختيار والتخمين ويحولها إلى إشارات بصرية يمكننا إدراكها، وغالبا ما تكون التخمينات دقيقة، لكن في بعض الأحيان لا تكون التخمينات بنفس مستوى الدقة وهنا يتهيأ لنا أننا نرى شيئا، لكنه يكون اقرب ما تمكن المخ من تقريبه إلى إدراكنا وليس حقيقة الشيء الذي وقع عليه بصرنا.
لذلك ايضا تقول سوزان أننا عندما نشاهد جدولا ظللت بعض أجزائه بألوان معينة نلتفت لها بحيث أننا تقريبا لا نلاحظ المساحات غير المظللة باللون، ايا كان المكتوب فيها. وهذا يكشف الأهمية الكبيرة للون في التأثيرعلى المتلقي.

لا تنظر في الظلام في خط مستقيم

توضح سوزان جزءا آخر من محدودية قدراتنا على الإبصار مشيرة إلى الكيفية التي تستقبل بها عيوننا الضوء بالقول أن العين تمتلك قدرا من المجسات الضوئية تأخذ منها سبعة ملايين شكلا مخروطيا تتسم بالحساسية للضوء القوي الساطع بينما تأخذ 125 مليون مجسات على هيئة قضبان مهمة الحساسية للضوء الشاحب والضعيف.
تقع المخاريط في بؤبؤ العين أي في منطقة مركز العين، اما القضبان فتتوزع بعيدا عن المركز، التالي فعندما تكون في مكان إضاءته ضعيفة ثم تقوم بتركيز نظرك على ما ترغب في رؤيته، فسيكون من الصعب تمييزه لأنك تستعين في تلك الحالة بالمجسات الضوئية الخاصة بالإضاءة القوية، وليس بالقضبان التي تمتلك حساسية أكبر لرؤية الضوء الضعيف، وبالتالي إذا رغبت أن تراه بشكل افضل عليك أن تبعده عن مركز الرؤية.


أما فيما يتعلق بأوهام البصر او ما نعرفه باسم خداع البصر فله العديد من الأسباب، من بينها كما تشير سوزان توضيحها إلى أن شبكية العين لا تعكس سوى صورا ثنائية الأبعاد فالمعروف أن عملية الإبصار تعتمد على كل من القرنية والعدسة، حيث تقوم الأخيرة بالتركيز على الصورة التي تعكسها الشبكية، لكن الشبكية ليس لها قدرة إلا على عكس الصور ذات الأبعاد الثنائية، وبالتالي فهي لا يمكنها أن تعكس الصور ذات الأبعاد الثلاثية المجسمة فتعكسها كأنها ذات بعدين فقط، وهذا ما يسبب خداع بصر، لكن حين تستقبل القشرة البصرية في المخ هذه الصورة تقوم بتعديلها إلى صورة ثلاثية الأبعاد مرة أخرى، وهنا مثلا نكون قد رأينا مجسما فيبدو لنا للوهلة الأولى أنه باب وسرعان ما ندرك أنه شيئا آخر.

هنا تقدم الباحثة ملخص هذه المعلومات في تحويلها لقواعد خاصة بالتصميم قائلة:"ما تعتقد ان الناس سوف يرونه على صفحة الويب ليس بالضرورة أن يكون ما سيرونه في الحقيقة، فهذا قد يعتمد على خلفياتهم ومعارفهم وتىلفهم مع ما يرونه وتوقعاتهم". أما القاعدة الثانية التي تستخلصها من هذه المعلومات عن قدرات الإبصار الشرية فهي: "إن إمكانية إقناع الناس أن يروا شيئا بطريقة محددة يعتمد على الطريقة التي سوف تقدمه بها إليهم".


الرؤية الجانبية أنقذت أجدادنا!

في مجال الرؤية هناك نوعان: الرؤية المركزية وتتعلق بما نركز عليه لرؤيته أو قراءته، والرؤية المحيطة وتتعلق بما على أطراف ما نراه. فعندما تقوم بقراءة نص على الشاشة فأنت تستخدم الرؤية المركزية، وإذا لاحظت ومضة على جانبي الشاشة قد تشعر بالضيق لأنها تقلل من تركيزك فيما تقرأ، ولكنك سوف تلتفت غالبا غلى مصدر الومضة أو الحركة. ولهذا السبب يقوم المصممون المتخصصون في تصميم الإعلانات التجارية على الإنترنت بوضع إعلاناتهم على جانبي الشاشة وبحيث تكون على هيئة صور متحركة أو خطوط لها إضاءة او غيره مما يلفت انتباه المستخدم.
وقد اظهرت دراسة حديثة في جامعة أركنساس الأمريكية أن الرؤية المحيطة، التي نلاحظ بها ما هو بعيد عن مركز رؤيتنا، لها أهمية كبيرة على ما يبدو في فهمنا للعالم الذي يدور حولنا، وقام باحثان هما آدام لارسون، وليستر لوشكي بعمل تجربة يثبتان فيها النظرية وذلك عن طريق عرض صورة لمكان داخل أحد البيوت، وتغطية أطراف الصورة مرة والإبقاء على مركزها واضحا، وفي الثانية قاما بإخفاء المركز والإبقاء على الأطراف، وكانت النتيجة أن من رأى الصورة ذات المركز الواضح تعرف على ماهية الصورة وهي المطبخ مثلا لكنه لم يستطع تحديد مكانه، أما عند إخفاء المركز فقد تمكنوا من تحديد ماهية الصورة وموقعها في البيت.
تقول الدراسات المختصة بعلم التطور أن الإنسان القديم الذي كان يجلس ليحدق في السحب مثلا أو يقوم بسن الرمح الخاص به، ولكن استطاع أن يلمح في نفس الوقت اسدا أو حيوانا مفترسا قبل أن يقترب منه استطاع أن ينجو بنفسه، بينما من لم يمتلك هذه القدرة على الرؤية المحيطة فقد تعرض غالبا للافتراس. وبالتالي وعلى مدار زمن طويل عاش الإنسان صاحب هذه القدرة والتي توارثناها، وأصبحت خاصية بصرية يتمتع بها غالبية البشر.

ومن هذه الظواهر البصرية تتخذ سوزان فاينتشينك مجموعة أخرى من القواعد المختصة بالتصميم فتقول :"يستخدم الناس خاصية الرؤية المحيطة حين يتطلعون لشاشات الكمبيوتر، ويقررون عادة مضمون الصفحة من خلال لمحة تعتمد على رؤيتهم المحيطة بالصفحة.
بالرغم من أن مركز الصفحة يتضمن الموضوع الذي يستحق التركيز، لكن كن متأكدا من أن جوانب الصفحة دائما تضم المواد التي تخدم الموضوع.
إذا لم ترغب في تشتيت انتباه المتصفح عن مضمون مركز الصفحة فلا تشتت انتباهه باي مضامين فرعية في جوانب الصفحة".

رؤية الوجوه


تخيل أنك تسير في أحد الشوارع ولمحت وجها لأحد اقاربك لم تكن تتوقع رؤيته في هذا الشارع، وحتى لو كان الشارع مزدحما وممتلئا بالوجوه، فإنك سوف تميز وجه هذا الشخص بسرعة وسوف يرتبط ذلك سريعا بعاطفة ما، محبة، ضيق، كراهية، إلخ.

السبب في ذلك كما يشير الكتاب ووفقا لبحث نشر في العام 1997 قامت به نانسي كان ويشر، تبين أن المخ به مساحة خاصة، خارج القشرة البصرية ، مهمته الوحيدة هي تمييز ملامح الوجوه .هذا الجزء الخاص برؤية الوجوه يقوم بتمرير بيانات خاصة بملامح الوجوه للمخ عبر قنوات اسرع من تلك الخاصة بتمييز الاشياء. وهذا الجزء يقع قريبا من فص المخ الخاص بالمشاعر.


وتستخلص الباحثة من هذا أن الإنسان ينتبه لصورة ملامح الوجوه على الشاشة أكثر واسرع من اي شيء آخر، كما يلتفت إلى العيون ومدى حيويتها أيضا. لذلك تقترح سوزي أن من يرغب في الإعلان عن منتج معين يمكنه أن يضعه قريبا من صورة وجه ينظر إلى المنتج وسوف يكون رد فعل المتلقي هو التوجه ببصره فورا غلى ما تنظر إليه صورة الشخص على الشاشة.

يضم الكتاب الكثير من هذه المعلومات المهمة التي توضح كيف أن التصميم بالفعل ليس مجرد معرفة بتقنيات التصميم نفسها وإتقانها بل أنه مثل غيره من الموضوعات يحتاج لمعرفة ودراسة خصائص من سوف يستخدم التصميم. ولعل هذا ما يجعلنا نفهم لماذا نحكم على تصميم بأنه جيد وناجح بينما نحكم على تصميم آخر بأنه فاشل أو لا يؤدي الغرض منه، وهذه أيضا ما يجعلنا نعرف متى نشعر بالتوازن المفترض والنموذجي بين الشكل والمضمون دون أن يطغى أي من الطرفين على الآخر.


 ثقافة الكترونية – يونية 2012- مجلة "العربي"