Thursday, March 22, 2012

مَن يدبّج الرسائل ويوصلها إلى أصحابها بعد "استقالة" ابرهيم أصلان


مَن يدبّج الرسائل ويوصلها إلى أصحابها بعد "استقالة" ابرهيم أصلان


نشرت في النهار اللبنانية في ٨ يناير ٢٠١٢ 
إبــراهيم فرغلي 
كنّا نجلس في مقهى "أم كلثوم" في وسط القاهرة، في ليلة باردة، أنا ومجموعة من الأصدقاء، أذكر منهم الآن كلاًّ من ياسر عبد اللطيف، وائل عبد الفتاح، ياسر إبرهيم، ونادين شمس. ثم جاء طيف إبرهيم أصلان، محمولا على سيرته، فارتفعت هالة قداسة افتراضية أعلى رؤوس الجميع، وبدأوا نغمة واحدة من الإعزاز والتقدير لأصلان وكتاباته. الشعار المطلق المرفوع حول إبرهيم أصلان، أصابني بنفور تحفّزه فوبيا مستترة تراودني كلما شعرت بإجماع مطلق حول مبدأ أو فكرة أو شخص. 
السرّ
قلت لهم إنني لا أفهم سراً لأسطورة إبرهيم أصلان هذه، وهو لم يكتب سوى ثلاثة او أربعة كتب، وكان ذلك قبل نحو اثني عشر عاماً. انبرى وائل عبد الفتاح يتحدث عن بلاغة الإيجاز، وعن المحو أكثر من الكتابة، وعن الكم والكيف، وعن أن الكاتب الحقيقي قد يكفيه كتاب واحد، وهو ما كان بديهيا بالنسبة إليَّ، لكني لم افهم كيف يكون هذا وحده مثاراً لصناعة أسطورة. وإذ شعرتُ بقصور عبارته في توضيح سر عبقرية اصلان، متشككا في أن وائل عبد الفتاح ينظِّر للكسالى الرائعين ويتحمس لهم أيا كانوا، تحول سؤالي إلى لون من الاستفزاز، مستثيراً إياهم لكي أفهم اكثر. زادت حدة العضب وارتفعت حدة النقاش، لكني أحسست في لحظة أن اليقين الكامل في أصلان أعجز الجميع عن إدارة النقاش بشكل مقنع، بالنسبة إليَّ على الأقل، تماما كما يدافع مسلم عن الإسلام من دون أي معرفة بما يدافع عنه، مع الفارق في التشبيه.
لكني بعد شهور من تلك الواقعة، قُدِّر لي أن ألتقي ابرهيم أصلان، من أجل مقابلة خاصة عن خيري شلبي الذي كنت أعدّ عنه ملفاً خاصاً بعيون المقّربين منه، بالرغم من أنني كنت أعرف جيداً أن أصلان يختلف تماماً من حيث أسلوب الكتابة مع شلبي، لكن كنت أريد ان أعرف كيف ينظر إليه إنسانياً وأدبياً، خصوصا ان بينهما علاقة طويلة ممتدة.
استقبلني إبرهيم اصلان في غرفة مكتبه بمكتب جريدة "الحياة"، في "غاردن سيتي"، باشّاً ودوداً، يتألق بشعره الأبيض المشعث الذي يمتلك اناقة فطرية خاصة، وتختفي ابتسامته خلف شاربه الكث، بينما تفضحها التماعة العينين الذكيتين. بادرني بحكاية تعرّض لها من زميل في "الأهرام"، اكتشف لاحقاً أن ذلك الشاب وأصلان نفسه كانا معاً ضحيتين لما دبّره لهما صديق ثالث من "الأهرام" أيضاً. إذ استغل الصديق جهل ذلك الزميل بالوسط الثقافي، وإزاء إصراره على أن يقوم الزميل بحوار مع أصلان وسؤاله لصديقنا عن الأسئلة التي يمكن ان يوجهها الى أصلان، فقد تفتق ذهن الصديق عن مجموعة أسئلة لا توجَّه إلا الى كاتب مختص بالتراث واستلهامه، مثل جمال الغيطاني، ولكن ليس البتة الى أصلان. 
كنت أضحك بقوة فيما أصلان يحكي بطريقته الجذابة، وبضحكات متقطعة، وبنبرة صوته المرتعشة، كما كفّ يده التي كانت تمتد بين آن وآخر الى فنجان القهوة ليرتشف منه رشفة، كيف أنه ترك الزميل، وغادر الغرفة ليفكر في ما يحدث، ويحاول أن يفهم ويدخّن سيجارة، ثم عاد إليه وطلب منه أن يلقي بالأسئلة التي لديه دفعة واحدة، فإذا بها من العيّنة نفسها، فما كان منه إلا أن طلب منه الخروج من مكتبه على وجه السرعة.
بلاغة التكثيف
في ذلك اليوم تعلّمتُ درساً مهماً في الكتابة، وأعدتُ، عقب هذا اللقاء، قراءة اعمال أصلان بنظرة مختلفة، مدققاً في كل جملة، مكتشفاً جملة مهمة قالها لي يومذاك عن بلاغة التكثيف، موضحاً أن كتابة نص تُنجَز بما نقصيه من هذا النص ثم نستخدمه في الخلفية في الكتابة لاحقاً. ضرب لي مثلاً من لوحة لفان غوغ، لا نرى بها سوى كرسي من القش، أو لوحة أخرى لا يوجد فيها سوى زوج من حذاء قديم بال، يوجز به فكرة مطولة، ثم عاد ليوضح فكرته بالقول ان الكتابة عن العدل لا تعني أن نكتب عن العدل بل أن نكتب بالعدل، بالخبرات التي نعرفها عن معنى العدل وتحويلها عناصر للكتابة.
في جانب آخر من استبصاراته النافذة عن الكتابة، كان كثيراً ما يردد أن سيرته الذاتية كشخص، بالرغم مما قد يعتريها من مصاعب ومشقة، ليس في ذكرها بطولة، لكن الخبرة التي بنتها تفاصيل تلك الحياة هي ما يمكن الافادة بها من الكتابة، أو بنص قوله: "كل عمل فني هو سيرة على نحو أو آخر، لعلها سيرةُ تطورِّك وجدانياً. لكن الناس تعيش آلاماً وأحلاماً قد تكون أوجع مما يوجعني. الناس الشعبيون الذين عشت في وسطهم عندهم تجارب شديدة الغنى، ولو لم يعيشوا هذه التجربة كان يمكن أن يموتوا جوعاً، ومع ذلك لا يعتبر أحدهم أنه صاحب فضل لأن لديه تجربة غنية. ربما عليَّ أن أتمتع بقدر من الصلافة حتى أحدّث الناس عما جرى لي، باعتباري كائناً، "كما خلقت" وأريد أن أحدثهم عمّا عشته، بينما هم يعيشون ذلك بشكل مؤلم. لم أكن أستطيع أن أفعل ذلك. ولكن يمكن أن تتحول هذه الآلام كلها إلى نبرة في النص، طبقة صوت تحكي بها، درجة لون، الزاد الذي تشتغل به، أنا عندي يقين دائماً أنه ما دامت الأحاسيس حقيقية فستظل موجودة وراء القليل مما يكتب، إذا استطعتَ حوِّل هذه القيم الإنسانية كلها، والمواجع والآلام، من موضوع إلى أداة للتعبير".
خصوصية المثقف المستقل
لكن الحقيقة ان هذا ليس الدرس الوحيد الذي قدّمه إلينا اصلان، فقد قدم درسا آخر بليغا كنموذج لمثقف مستقل، حتى على رغم عمله لفترة مسؤولا عن سلسلة "آفاق عربية" التي كانت تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، التابعة لوزارة الثقافة المصرية. فلم يتورط يوما في الانحياز الى السلطة الثقافية على أي نحو، ولم يسمح بأن يتم استخدامه على يد أي طرف، واضعاً مساحة كبيرة بينه وبين كل ما قد يبدو تابعاً للسلطة الثقافية. بل إنه غامر مغامرة جريئة ونشر رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" بين ما أصدرته تلك السلسلة، فأثارت زوبعة كبيرة، حين كتب ناقد إسلامي تحريضاً على الرواية وناشريها، فانقلبت مصر تقريباً، مما اقتضى إخضاع أصلان للتحقيق. كما قرأت في الآونة الأخيرة أنه رفض لقاء الرئيس المخلوع حسني مبارك قبل عام في إحدى المناسبات الرسمية.
بدأت رحلتي مع نص اصلان بـ"وردية ليل" وشغفتُ بها متأملا ذلك الحد الفاصل الرهيف الذي يجعل من هذا العمل رواية لا قصة. وبفكرة أن عالماً كبيرا وخاصاً يمكن أن يعبَّر عنه بمثل هذا الاقتصاد، وبتلك العجائبية التي تتخلق من حوارات تبدو بسيطة بين شخصيات عادية لكن حياتها تلك غنية على نحو لا يمكن معرفته إلا بالإنصات إلى أرواحهم كما يفعل أصلان، ثم قرأت "بحيرة المساء"، و"يوسف والرداء"، ثم "مالك الحزين" التي أستعيد الآن كيف كنت أقرأها مبتسماً، ليس فقط من روح الشخصيات وخصوصيتها وطرافة فكرة الشيخ حسني الكفيف صاحب البصيرة، وعمقه، بل من لمسات اصلان الخاصة التي كان يمنحها لكل شخصية من شخصيات الرواية، مخصصاً كلاً منهم بأسطورته الخاصة، وبالكيفية التي يضفي بها اصلان على اللغة المقتضبة المقتصدة تلك اللمسات المشهدية التي تجعل من كل مشهد لقطة بصرية وشعرية من عمقها، مغلفاً ذلك كله بروح ساخرة ومرحة في الوقت نفسه.
اعجبني حين استلهم داوود عبد السيد فيلمه الشهير "الكيت كات"، نفاذه إلى روح النص، على رغم الاختلافات الكثيرة بين النص والفيلم، وأولها تأخير مشهد وفاة التربي، "العم مجاهد" الذي كان احد المشاهد الشديدة الشاعرية في الفيلم والتي اختزلت في ظنّي الروح الإنسانية والمهارة الكبيرة التي غلّف بها أصلان هذا النص الآسر.
يصف أصلان نفسه بأنه جهاز استقبال لا يرسل شيئا، وهي مقولة إن كانت تكشف شيئاً، فهي تعبّر عن تواضعه. لكن نصوصه، مضافا إليها تحفه الأخيرة الأدبية من مثل "حكايات من فضل الله عثمان" (اسم الشارع الذي ذكره عبورا في بداية رواية "مالك الحزين" في حي امبابة الذي أمضى فيه عمره كله تقريبا عدا سنوات أخيرة قليلة)، و"عصافير النيل"، و"خلوة الغلبان" وسواها، تكشف أن ما يستقبله بتأنٍّ وتمعن، يرسله في النص، بالشكل الذي يفعله فنان محترف يقوم بالنقش على خام صلد، فلا يقشر من مادته إلا برهافة، ولا يُرينا إلا الأصيل الذي يجعلنا نقول عن عمله إنه تحفة فنية.
أما وعيه بهذا فقد عبّر عنه يوما بقوله: "كان عندي يقين، ولا يزال، بأن الحقيقة الفنية ليست بحاجة لأي برهان للبرهنة عليها، شأنها شأن أي كائن بشري، وكان عندي إحساس بأن هذا الإبداع يقوم على صورة من صور الوجد. الإحساس هو الذي يقودك، علاقتي بالعالم تتكثف بإحساس يكاد يكون عضوياً، وأنا أسعى لإعطاء هذا الإحساس شكلاً أو قواماً، لا أريد أن أقول متجاوزاً الرسائل والمعاني، لكن أنا أسعى الى أفق آخر، الى معنى، ففي النهاية لا يمكن أن تبدأ من فراغ، ولكن من إحساسك متكئاً على تفصيل وآخر، تحاول أن تعطي هذا الإحساس قواماً وتسعى نحو معرفة ما. أحياناً ينتابني الإحساس بأن العمل الفني هو سعي نقيض لهذا المعنى".
رجل مثل هذا، يأتنس الناس بوجوده، وبروحه، ووجوده بينهم، حتى لو لم يتواصلوا معه، فكيف بمن كان يعيش بينهم؟ كان خبر موته فاجعاً وموحشاً بالفعل لمحبيه، من البشر الذين أمضى حياته بينهم شخصاً عادياً، ولأهله في طبيعة الحال، ولكل من اقترب منه خلال ثورة 25 يناير وما بعدها في الميدان، كاشفاً عن اهتمامه الكبير بهذا الجيل، هو المعروف عنه دائماً رعايته للشباب واهتمامه بهم كما كل إنسان نبيل مثله، ومعبّراً عن سعادته بأنه عاش حتى يرى هذه الثورة على يد هذا الجيل. 
يا عم إبرهيم: إليك، أو الى روحك الصافية، اعلن أن موتك قد أدهشني، أنا الذي عادة لا يدهشني شيء، وجعلني لوهلة أتمنى ألاً يكون الخبر صحيحاً، كما أعلن لروحك أن الحزن على رحيلك لا عزاء له، ربما إلاّ باستعادة تراثك الأصيل ودروسك العبقرية اللامعة التي حُفرت في الروح. لك الرحمة ولنا جميعاً  خالص العزاء.
نقلا عن صحيفة (النهار) اللبنانية