Tuesday, February 28, 2012

سلوفاي جيجيك: فن التزييف!

سلوفاي جيجيك: فن التزييف


في الفيلم الأميركي الشهير "ماتريكس" الذي يفترض ان الواقع الذي نعيشه جميعا هو
واقع افتراضي يولده وينسقه كومبيوتر عملاق
 نرتبط به جميعا، يصحو بطل الفيلم ليرى منظرا موحشا تتناثر فيه خرائب محترقة تجسد ما بقي من شيكاغو بعد حرب كونية، فيرحب به زعيم المقاومة مورفيوس ساخرا: "مرحبا في صحراء الواقع". يختار الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك هذه الجملة عنوانا لكتابه الذي نقله أحمد حسان الى العربية، وصدر لدى عن "دار العين" المصرية. الكتاب لافت ليس فحسب بالأفكار التي يتضمنها في نقد السياسات الأميركية في العالم، ونقد المركزية الأوروبية وما تنتجه من نقد ثقافي، بل أيضا بأسلوبه المتفرد في الانتقال بالفكرة الفلسفية من الإناء العملاق للأفكار المجردة وتعبئتها في زجاجات مرئية يضع في كل منها نموذجا ماديا مرئيا من مشاهد الأفلام السينمائية، وتحليلات لأفلام هيتشكوك، والنكات البذيئة السائدة في الثقافة الشعبية، والأفكار الفلسفية لكبار الفلاسفة كانط وهيغل وماركس، ونماذج من الموسيقى الكلاسيكية، ومشاهد من الأحداث الراهنة. الاقتباس الذي بدأت به هذا المقال من فيلم ماتريكس هو واحد من شواهد ثقافية عدة يستخدمها جيجيك في الفصل الأول من كتابه، لتقريب فكرته عن احداث الحادي عشر من أيلول في نيويورك قائلا ان هذا الحدث الواقعي ادى الى تقديم مواطني نيويورك الى "صحراء الواقع". 

قبل ذلك، كان جيجيك قد أجرى مقاربة بين مشهد لوجه ميلاني؛ احدى بطلات فيلم "الطيور" لهيتشكوك، ومشهد الارتطام الأول بين الطائرة والبرج، في محاولة للقول إن هوليوود مارست دورا "ايديولوجيا" منظما على مدى عقود، عبر ما انتجته من أفلام الكوارث، سواء تلك المتخيلة عن أحداث مستقبلية في الولايات المتحدة أو تلك التي تدور احداثها عن كوارث العالم الثالث، لتؤكد للمواطن الأميركي أنه يعيش بعيدا عن كوارث الآخر، "على انها شيء يوجد بالنسبة لنا بوصفه تبديا شبحيا على شاشة التلفزيون وما 
حدث في 11 سبتمبر هو ان هذا التبدي التوهمي الفانتازمي على الشاشة قد دخل واقعنا جيجيك، وهو تلميذ مخلص للفرنسي لاكان ونظرياته في علم النفس، يقدم فكرة زيف الواقع الذي تحياه الولايات المتحدة، مثيرا العديد من الاختلافات المصطلحية والرمزية لمفهوم الواقع، موضحا كيف ان أميركا بما تمارسه من سياسات حولت احساس الأميركيين بواقعهم الى كيان افتراضي يقدم الواقع ذاته مجردا من جوهره، من نواة الواقع الصلبة، تماما كما نجد اليوم في الأسواق سلسلة من المنتجات المجردة من خصائصها الضارة: بن بدون كافيين، قشدة بدون دهن...الخ.

 الشغف بالواقعي

 جوهر الفكرة هنا هو ما يطلق عليه جيجيك "الشغف بالواقعي" الذي حدده ألان باديو باعتباره السمة المحورية للقرن العشرين في تضاد مع القرن التاسع عشر؛ قرن المشروعات والمثل العليا وخطط المستقبل الطوباوية او العلمية. في فصول الكتاب الخمسة إشارات عدة الى أن النتيجة التي عاينها الأميركيون نتيجة الشغف بالواقعي انهم "ضحايا"، وبناء عليه اتخذت الإدارة الأميركية قرارات رجل شرطة العالم الذي افترض أن ما يحتاجه هو الإفراط في استخدام القوة برغم أن الواقع هو الذي تسبب في هذا كله عبر اختراع الأعداء الذين جاؤوا إليه أخيرا في عقر داره.

 يتحدث جيجيك عن الطريقة التي تدير بها الولايات المتحدة معاركها الزائفة، باختيارها عدوّا بلا ملامح محددة، يبدو كأنه مجموعة عصابات مسلحة مشتتة في أرجاء واسعة من العالم، لكنه يختار لها منطقة مثل أفغانستان، فيما يرفع شعارا انه يحارب الإرهاب في كل مكان، وهي ظاهرة يسمّيها جيجيك ظاهرة "الإنسان المخلوع"، وهو الطرف الذي أُسبغت عليه صور المجرم الذي يمكن تبرير ما قد يتعرض له من ممارسات تستبيح حقوقه الإنسانية باستهدافه عدوا أو تعذيبه، موضحاً أن هذا الطابع الذي اختلقته أميركا لنوع العدو يماثل الطابع الاقتصادي العولمي الذي يتشكل من مجموعة من الشركات المتعددة الجنسية. يقول جيجيك: "ماذا تعني الحرب في القرن الحادي والعشرين؟ من يكونون "هم" إن لم يكونوا بوضوح لا دولاً ولا عصابات اجرامية؟ أليست المنظمات الإرهابية الدولية هي القرين البذيء للشركات الكبرى المتعددة الجنسية الكلية الحضور رغم أنها دون قاعدة اقليمية واضحة؟ أليست هي الشكل الذي تلاءمت به "الأصولية" القومية و(أو) الدينية مع الرأسمالية الكوكبية؟".

 رؤية أحادية

الفكرة الرئيسة التي يركز عليها جيجيك عبر الموضوعات المختلفة لرؤيته الى الواقعية أن هذا المنهج الأميركي يؤدي في النهاية إلى تأكيد رؤية أحادية مفادها زيف مطالبتنا بالاختيار بين "الأصولية" و"الديموقراطية" كأن البديل الوحيد من الأصولية هو النظام السياسي للديموقراطية الليبيرالية. ويرفض مقولتي "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات" موضحا أن الرأسمالية أصولية في جوهرها، مدللا عبر أمثلة عدة على شراكة اميركا أو تواطؤها السافر في تصعيد الأصولية الإسلامية.

 كما يرفض مقولتين أخريين ظهرتا عقب أحداث أيلول في وسائل الاعلام العالمية، الأولى تقول إن مناهضة العولمة قد انتهت الآن، والثانية أن صدمة الهجمات كشفت الطابع اللاجوهري للدراسات الثقافية ما بعد الحداثية وفقدان صلتها بالحياة الواقعية. يرفض جيجيك الأولى تماما بينما يرى المقولة الثانية صحيحة جزئيا لكن للأسباب الخطأ موضحا "الأمر الحقيقي هو أن الطابع التافه نسبيا للموضوعات النقدية للدراسات الثقافية قد انكشف: اذ ما فائدة تعبير غير مقبول سياسيا قد تكون له ظلال عنصرية بالمقارنة مع الموت المضني للآلاف؟ هل تتمسك بالموضوعات نفسها، معترفة صراحة بأن حربها ضد الاضطهاد هي حرب داخل إطار كون رأسمالية العالم الأول، مما يعني أنه، في النزاع الأوسع بين العالم الغربي والتهديد الخارجي له لا بد للمرء أن يعيد تأكيد ولائه للإطار الليبيرالي الديموقراطي الأميركي الأساسي؟ أم أنها تخاطر بأن تخطو في اتجاه تجذير موقفها النقدي؟".
 يرى أيضا أن الصراع بين فلسطين وإسرائيل صراع زائف بالجملة، وبينما يبدو متعاطفا مع القضية الفلسطينية بامتياز، مؤكدا مفارقة تقديم الغرب لصورة إسرائيل كطرف يجسد الليبيرالية الغربية المتسامحة ضد الفاشية الأصولية، مع إغفال الطابع التناقضي العنيف لنموذج إسرائيل كدولة دينية فيها اعلى نسبة من الملحدين في العالم، لكنه ايضا يقدم رؤى مهمة في إعادة تفكيك حقيقة هذا الصراع.
 ينقص الكتاب في رأيي ملحق بالمصطلحات المستخدمة وتفسيرها، فجيجيك يستخدم العديد من المصطلحات الفلسفية والفكرية النظرية التي يحمّلها معاني كثيرة تتكثف في المعنى الدلالي الذي قد لا يكون معروفا أو مفهوما للقارئ العادي. لكن الكتاب جدير بأكثر من قراءة، ملهم، وممتع، ويعدّ تقديما مميزا لهذا المفكر اللافت إلى العربية، أنجزه بجديته المعروفة المترجم النخبوي أحمد حسان الذي صدّره أيضا بمقدمة عن جيجيك وأفكاره، وإن كنت أتحفظ عن الجزء النقدي السياسي لبعض آراء جيجيك. هنا نموذج أيضا لكتابة "ثورية"، اسلوبا وجوهرا، نحن في اشد الحاجة إليها في مجتمعاتنا التي تهبّ ثائرة اليوم ضد الطغاة الذين صنعتهم الرأسمالية العالمية وابتلينا بهم لعقود.

 نشرت في صحيفة النهار اللبنانية في ١ فبراير شباط ٢٠١٢