Thursday, January 26, 2012

قاهرة نجيب محفوظ.. مدينة الأدب التي لا وجود لها في الواقع



قاهرة نجيب محفوظ.. مدينة الأدب التي لا وجود لها في الواقع
نص: إبراهيم فرغلي  تصوير: راندا شعث

يعد نجيب محفوظ واحدا من الكتاب القلائل الذين استطاعوا أن يمنحوا المكان خلودا أدبيا، وعلى نحو خاص مدينة القاهرة القديمة المعروفة تاريخيا بالقاهرة المعزية، أو الفاطمية، وانضم بذلك إلى قائمة الكتاب الذين منحوا الخلود لمدنهم، لكنه تفرد عن غيره بأنه اعطى البطولة المطلقة للأحياء والأماكن حين أطلق على أشهر رواياته أسماء أزقة وشوارع قديمة خلق منها عوالم فسيحة لاختبار النوازع والأهواء والصراعات والأشواق والعواطف البشرية التي رسم بها ملامح أجيال شكلت الشخصية المصرية التي عاشت واستقرت في أحياء القاهرة.
وقد كان هذا الموضوع موضع اهتمام عدد من النقاد ممن قرأوا أعمال محفوظ وبينهم مثلا  الأكاديمية الهندية بيتي سينج الاستاذة بجامعة دلهي التي كتبت في واحدة من دراساتها عن محفوظ: "إن الروائيين العظام يظهرون سعة فى أفق التفكير والخيال تخلق، إذ تتجسد فى أعمالهم آفاقاً رحبة للوجود فى نطاق رواياتهم، ومما لا شك فيه أن ذلك لا يتضمن ما تختص به التجربة الإنسانية فحسب، ولكن أيضا حساً ملموساً بالمكان والزمان، وقد استطاع نجيب محفوظ مثلما فعل ديكنز فى مدينة لندن وجويس فى دبلن واديث وارتون فى نيويورك، أن يستوطن القاهرة بشوارعها وحواريها التى عرفها عن كثير وإذا كانت القاهرة تعد بالفعل إحدى أشهر مدن الشرق الأوسط بتاريخها الثرى، فقد زادها تجسيد نجيب محفوظ للناس والأماكن فى رواياته ثراء، أن الزمن سوف يحمل لاشك ، لحظة تختفى فيها البيوت والآثار والأماكن التى اختارها نجيب محفوظ لتتضمنها أعماله، ولكن هذه اللحظة لن تستطيع، بحال من الأحوال ، التسلل إلى صفحات رواياته ولعل الحظ كان كريماً حين احتفظ لنا ببعض تلك الأماكن حتى نستطيع أن نراها كما رآها نجيب محفوظ" .


لكن، ورغم ذلك، فإن المدقق في اعمال محفوظ، في الحقيقة، لن يجد أوصافا تفصيلية للأحياء والأزقة والشوارع على طريقة بلزاك أو ستاندال أو حتى ديكنز في وصفه للندن، فكل ما هناك لا يتجاوز رتوشا سريعة كضربات الفرشاة التي يرسم بها فنان تجريدي ملامح عامة لشخص أو مكان، وعلى سبيل المثال فهو يصف زقاق المدق في مطلع الرواية التي تحمل الاسم نفسه كما يلي :" تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة وأنه تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزيّة".  
كما يصف رؤية ياسين أحمد عبد الجواد لشارع قصر الشوق قائلا:"وتراءت له عطفة قصر الشوق لم يتغير من الحي شيء ما زال ضيقا تسده عربة اذا اعترضت سبيله وها هي بيوته تكاد تتماس مشربياتها ودكاكينه الصغيرة في تلاصقها وزحمتها...وارضه التربة بفجواتها المفعمة وحلا".
لكنه عبر الحياة اليومية للشخصيات، وأحلامها ونوازعها وقيمها، وعلاقاتها المعقدة والمركبة داخل هذا الحيز المكاني أسبغ على المكان الجغرافي الواقعي ما يمكن وصفه بـ"روح المكان"، لكن ارتباط اسم محفوظ بالقاهرة في الحقيقة قد يعود لأنه منح أسماء الأماكن لأعماله الأدبية، ولأنه اختار أن تكون أغلب أعماله في القاهرة إضافة إلى الدور الذي استكملت به السينما هذا "الكلاشيه"؛ حيث يقتضي العمل السينمائي، كمُنتَج فني بصري بامتياز، على المخرج السينمائي أن يقدم تصورا بصريا تفصيليا للمكان، يبنيها من رتوش محفوظ  الوصفية المقتضبة، والنتيجة كانت تثبيت أحد الكلاشيهات الأساسية التي تم ويتم تداولها عن محفوظ بوصفه الكاتب الذي يمتلك مفاتيح القاهرة، بينما اعتقد عبر قرائتي المتأنية لأعماله الروائية جميعا أنه استطاع أن يخلق "قاهرة أدبية" تخصه، أو بمعنى آخر يمكن أن نطلق عليها "قاهرة محفوظ الأدبية".
إن محفوظ الذي تتهم اعماله بالواقعية دون كثير من التمحيص في الحقيقة انشأ قاهرة أدبية لها مدلولاتها التي تخص محفوظ نفسه،  مما نرى من وصفه المستمر مثلا لتكايا الدرويش وما ينطلق منها من أناشيد غامضة في "ملحمة الحرافيش"، ومن فكرة الصحراء والخلاء كمكان بعيد ينفي الشخص نفسه إليه،  خارجا عن عالم الحياة الذي تمثله الحارة، وغير ذلك،  لكن محفوظ في ظني هو كاتب الرمزية المكانية والزمانية والفلسفية بامتياز، ولا اظن تعمده إنطاق شخصياته واغلبها من العوام والبسطاء بللغة العربية الفصحى إلا إخلاصا منه لنموذجه الأدبي الرمزي هذا.
هذا هو نفس المنطق الذي عمل من خلاله على اتخاذ بعض الأماكن من الواقع ليحولها إلى عالم روائي واسع وممتد كما شأنه مع زقاق المدق الذي لا يتجاوز في الواقع سوى مساحة ضيقة صغيرة لزقاق يكاد يتسع لبنايتين متجاورتين حوله هو في العمل إلى عالم كامل ممتليء بالنماذج البشرية والآثار من المساكن إلى المقاهي وباعة الزقاق الذين يجسدون جزءا من ملامحه.
وايا كان منهجه الفني فقد قدم محفوظ مجموعة من الأعمال الأدبية التي صاغ من خلالها التحولات التي مرت بها الشخصية المصرية على امتداد القرن الماضي، فاين اصبحت هذه الشخصية اليوم؟ والى ما انتهت قاهرة محفوظ الآن وهنا؟
في محاولة فنية خاصة حاولت الفنانة راندا شعث ان تتقصى بعضا من ملامح قاهرة محفوظ بعدستها وعينيها، عبر اختيارنا المشترك لفقرات دالة من نصوصه في محاولة فنية جديدة تتقصى ملامح القاهرة التي كتب عنها محفوظ كما عاينها قبل أكثر من نصف قرن وزيادة، فكيف اصبحت اليوم بعد 100 عام من ميلاده؟