Monday, October 24, 2011


"إني أحدثك لترى" لـمنى برنس
مقامرة روائية جرأتها مكسب وخسائرها ليست هينة!

إبراهيم فرغلي


 بغض النظر عن كل التنظيرات التي نظرت للنص التسعيني دون أن تقرأه! أظن أن نص "إني أحدثك لترى" للكاتبة المصرية منى بِرِنْس هو نص تسعيني بامتياز. وبالبرغم من أنه نص تعتور لغته سمات تجعلها "عادية" تفتقر لأي جهد في تخليق لغة تليق بالسرد كما هو شأن كل كاتب حقيقي، لكنه، في المقابل، يضم عددا من الملامح التي تكرس للنص التسعيني، وتضيف إليه.
"إني أحدثك لترى"، الرواية الصادرة حديثا عن دار ميريت للنشر بالقاهرة، تجسد نصا ما بعد حداثي، من جهة كونه نصا ينحو نحو النسبية وينفر من المطلقات. كما أنه نص يعتمد أسلوبا مضادا للبناء التقليدي للرواية من جهة أنه يدخل "تفاصيل عملية الكتابة" في نسيج السرد كاشفا، حتى لو بدا ذلك بلا عمق حقيقي،  أسئلة الراوية عن معنى الرواية، ومدى أهمية التقيد بأسس البناء التقليدي من عدمه، بحيث أن الكتابة تبدو أقرب لمغامرة فنية تخوضها الكاتبة، خطوة بعد أخرى، دون أن تعرف إلى أين سيقودها السرد، وليس بالشكل التقليدي المخطط سلفا بعناية، على الطريقة المحفوظية.
"يعنيني الآن أن أقامر في الكتابة كما قامرت في الحب: بجرأة أشد، سأعربد في الكتابة مثلما أعربد في الحب". هكذا تقول "عين الساقي"؛ الراوية، والكاتبة الافتراضية للنص في مفتتح الرواية كاشفة عن النهج الذي سيسير عليه النص، حتى بعد أن تساورها الشكوك حول إمكانية تطور النص في بداياته. " سأستكمل الكتابة مثلما يترائى لي الآن. وإن لم أفلح في كتابة نص سردي شيق فليعذرني القاريء، سأعيد الكتابة في شكل أقرب إلى قصيدة نثر مطولة".
وبالرغم من المثالب التي تشوب النص مثل هلامية شخصية الراوية التي لا نعرف عنها شيئا سوى أنها باحثة اجتماعية لا تحب عملها، وتعيش مع جدتها الروسية ذات السبعة وتسعين عاما.
تقول الكاتبة:"عين امرأة في منتصف العمر تقريبا، ملامحها مصرية جدا ودائمة الفخر بأنها من نسل الفراعنة، باحثة اجتماعية لا ترى جدوى من أبحاثها. وتريد أن تحب". أما البطل "علىّ" فهو:"رجل تعدى منتصف العمر، من دولة عربية شقيقة، أجداده من البربر، صحفي يمثل بلده لفترة مؤقتة في مصر، وحتى هذه اللحظة لايعرف ماذا يريد. ويعيش اليوم بيومه".
بالرغم من ذلك نجحت الكاتبة في كتابة نص مشوق عماده قصة الحب بين الراوية-الكاتبة، والبطل المشار إليه.
أيضا بالرغم من تناول النص لموضوع الحب الذي لا يعتبر موضوعا أثيرا لكتاب التسعينات- النص التسعيني في غالبيته ينفر من الرومانسية وأطيافها- لكنه يقدم قصة الحب بلا ميوعة عاطفية من أي نوع. إذ تحكي الراوية "عين" حكاية حبها للرجل الذي جعل منها امرأة بحياد آسر، وبنبرة إنسانية وصدق فني عال، تعبر عن أعمق مشاعر الحب، التي تقارب التعبد، وأعمق المشاعر الحسية، وتلقي القفشات، وتبكي، بتلقائية مدهشة، بل وتلقي بنفسها في أحضان رجال آخرين، لكن بلا أي افتعال، أو محاولة للاستعراء الروائي. بالعكس فالسرد يحافظ على نبرة "الصدق الفني" على امتداد النص بالشكل الذي يجعل منه حالة استثنائية في النصوص السردية التي كرست لقصص الحب في السرد المعاصر..
أما أهم سمات هذا العمل، إضافة لصدقه، فهو الجرأة الشديدة. والجرأة هنا ليست في تناول الوصف الجنسي أو في تعدد علاقات الراوية، وإنما في الطريقة التي تسرد بها الراوية هذه الوقائع، بلا رقابة ذاتية، وبلا افتعال، وكأنها تحكي عن أي حدث آخر عابر، مما هو مبذول ومطروق من شؤون الحياة.
مع تقدم النص ستظل اللغة ومستواها العادي سلبية قد لا تغتفر، إضافة إلى افتقار السرد إلى المبررات السيكلوجية والموضوعية التي توضح كيفية انتقال الراوية من مستوى وعي المرأة التقليدي المؤسس على الأفكار الأخلاقية الإزدواجية للطبقة المتوسطة، إلى وعي المرأة المتجاوزة لأفكار المجتمع الشرقي التي تتعامل في الحياة بندية حقيقية وترفض كل الأفكار البرجوازية التي تضفي شبهة الامتلاك على العلاقات، فترفض الزواج، والانجاب، وحتى التورط في علاقة عاطفية قد يفهم منها الرجل أنه يمتلكها. صحيح أن النموذج الذي تعبر عنه الرواية لم يعد أعجوبة، ويعبر عن نسيج واسع من طيف المرأة العربية، لكنه نموذج مسكوت عنه في النص المعاصر، لأسباب ليس هذا مجال تعدادها، وإن كانت تصب في مجال السمات العديدة للمجتمع العربي الذكوري. وبالتالي فقد كان من المهم توضيح التطورات السيكلوجية التي مرت بها شخصية الراوية.
تقدم الرواية علاقة حب استثنائية في السرد المعاصر، إذ أنها علاقة متخلصة من أغلب القيود التي تحيط بالرجل والمرأة الشرقيين، كما أنها تقدم نموذجا لامرأة تتعامل مع جسدها بلا تعقيدات، عن وعي حقيقي بأنها تمتلكه، وليس هو الذي يمتلكها، ساردة العديد من العلاقات العابرة التي تمر بها الراوية في أوقات تأزم علاقتها الرئيسية، مع صبي من سيوة، ثم مع عدد من الأجانب في رحلة قطعتها من سيوة وحتى الجزائر في الصحراء، كأنها تتعمد أن تؤذي نفسها نكاية في عشيقها الذي يبدو أنه يفكر في أن يتحرر من علاقتهما، وعندما تتوقف لتسأل أسئلة عن جدوى علاقاتها العابرة من فرط ألم الخواء الذي يعقب كل تجربة منها، لا تتوقف كثيرا أمام الإجابة إذ ترى أن ذلك، على الأقل، أقل وطأة من الشعور القاسي بالوحدة.
 لذلك، ومرة أخرى لا تتردد أن تلقي بنفسها في أتون علاقة غريبة مع شاب كورسيكي تلتقيه صدفة في رحلة أخرى إلى سيناء، فتفتتن به، رغم عدم تكافؤهما الاجتماعي والفكري، ومع ذلك فهي تجد في علاقتها به إرضاء للجانب الوحشي من نفسها، لذلك تستجيب لممارساته الشاذة لتتعرف على كيفية "التعرف على الألم الداخلي"، ثم كيف يطلب منها "الاكتمال"، بحيث يتبادلان الأدوار! إضافة إلى مشاهد لممارسة جماعية، لكن يظل اللافت هو الطريقة الحيادية التي تصف بها الراوية كل تلك المشاهد كأنها تحكي عن جسد لا يخصها.
أما السؤال الأخلاقي الوحيد الذي تتلقاه عين عن طبيعة حياتها فيأتي من شخص أجنبي؛ مثقف من النمسا، تلتقيه صدفة، ويمارسان الحب، لكنهما يختلفان فيعايرها بأنها "امرأة لليلة واحدة" فترد عليه بنفس القسوة عن عهر الرجل الذي لا يحاسبه عليه أحد كاشفة أزمة المفاهيم الأخلاقية في عصر العولمة.
  يتضمن السرد، أيضا، دفقا عاطفيا يتسرب بين ثناياه مكونا حالة من الصوفية التي تسم بها الراوية مشاعرها تجاه عشيقها، في مستويين: الأول يأتي من الحكي عن تطورات العلاقة، خاصة في فترات تأرجحها، حين تعرف الراوية أن الراوي سيتزوج امرأة من بلده، أما المستوى الثاني فيتدفق في مقاطع سردية شعرية، تجرح حداثة النص، لكنها تتسق مع منطق السرد، كـ"مقامرة" روائية.
في النهاية تبدو الرواية كأنها ثمرة هذه العلاقة، كأنها الطفلة التي كانت تتمنى "عين" أن تنجبها من عشيقها، لكنه رفض، فأنجبت هي هذه الرواية، كما تعترف هي في كلمة على ظهر الغلاف.
في النهاية قد يبدو الصدق الفني الذي ميز هذا العمل، ونبرته الإنسانية، وجرأته، كفيلة بأن تمنحه امتياز الجودة، لكن مثالب اللغة، وهيولية الشخصيات التي بدت كأنها تخلق هكذا كما هي، كأنها قادمة من عدم، وبلا تطور قد تجعل منه عملا مبشرا يفتقر للكمال، ومقامرة، قد تعادل مكاسبها خسائر لا يستهان بها. 

نشرت في النهار اللبنانية -