Saturday, July 30, 2011

الفنان هاني الجويلي.في ذكراه الرابعة..استعادة.



لكن كائنا من ورق سيبقى ليحكي أنه كان هنا
الفنان هاني الجويلي..
سجل متونه البصرية مضيئا مساحات العتمة ومضى إلى النور


عرفت الفنان الراحل هاني الجويلي(1969-2007) قبل فترة طويلة من لقائه الشخصي، عن طريق الشاعرة جيهان عمر التي كانت تجمعها به علاقة حب، كنت أحد شهودها مع الصديق سيد محمود، خلال فترة وجود هاني الجويلي في إيطاليا في بعثة دراسية استغرقت عام ونصف كنت وسيد خلالها نذهب في الأسبوع مرتين على الأقل لتوصيل خطابات هاني إلى جيهان، لأنه كان يرسلها إلى الأهرام. بعد حضوره أخيرا للقاهرة كان يريد أن يتعرف إلى مرسالي الغرام، وحضر بصحبة جيهان للقائنا في الأهرام. وأصبحنا، من اللحظة الأولى، صديقين. وبعد عدة شهور قرر إقامة أولى معارضه الذي أتاح لي أن أتعرف إلى موهبته الفنية الرفيعة لأول مرة.
واكتشفت خلال جولتي مع الصور التي شكلتها عين هاني واقتنصت بها لحظات من الزمن أنني أطالع نصوصا بصرية كتبتها روح شاعر كبير، لكنها فضلت ألا تكتب القصيدة بالكلمات وإنما بالصورة. وترسخ هذا الانطباع، كلما أتيح لي أن أشاهد أعماله المتتابعة لاحقا، وصولا لمعرضه قبل الأخير الذي أقامه في أتيلييه القاهرة بعنوان "خيط أحمر رفيع" الذي كان موضوعه هو وسط البلد في أثناء المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن.
بالرغم من جو المعرض بدا لي غريبا عن أعمال هاني المتأملة الفنية والمركبة، لكني مع إعادة تأمل الصور اكتشفت أن عين الفنان ذات الحساسية الشديدة لم تتخل عن رهافتها وشعريتها لأنها كانت تبحث بين تلك المشاهد العنيفة، عن الحد الفاصل بين المتناقضات، وعن الشعرة التي تفصل بين معنيين متناقضين. مشهد لابتسامة أحد المتظاهرين، بينما الغضب يسيطر على الوجوه. التربص في أذرع جنود الأمن خلف الحواجز الأمنية التي تبدو الأيدي فيها تحنو على المعدن الحاجز، بينما هي متأهبة، إذا جاءتها الأوامر بأن تعصف بكل ما يقابلها. وكعادته اختار هاني إزالة الحاجز الزمني باستخدام الأبيض والأسود كأنه يرى بعينيه تلك المشاهد كسلسلة لا تنتهي من المواجهة بين السلطة والجمهور، أيا كان موضوع الخلاف. لكنه بدا أيضا وهو يحاول أن يثبت لحظة غضب في شارع يوصف جمهوره بالخنوع، وعدم الرغبة في الثورة، بينما هذا الجمهور نفسه، كما يبدو في أكثر من لقطة يبدو ساخرا مستخفا، بابتسامة مازحة أو ساخرة من القوة التي تبدو عبر الصور كأنها قوة غاشمة.
لكن هذه الصور، في الواقع، تعكس جانبا من شخصية هاني الجويلي، التي كان يخفيها تحت ظلال ابتسامته الدمثة، وصوته ذي النبرات الحادة غير الغليظة، وهي شخصية مقاوم الفساد بصلف يكاد يصل لحد التهور، وبندية تعطي انطباعا بالغرور، بينما ليس ذلك إلا تعبيرا عن الاستقامة الكاملة ونقاء القلب الفطري وكره كل صور الفساد، وهو ما حكى عنه خلال المرة الأخيرة التي التقيته فيها بالأسكندرية قبل نحو شهرين مع زوجته الشاعرة جيهان عمر والصديقان علاء خالد وسلوى رشاد، وهو اليوم الذي صادف احتفال هاني وزوجته بعيد زواجهما الخامس. حكى لنا هاني عن مواجهته لإدارة الأكاديمية المصرية في روما، وحدة الطريقة التي تعامل بها معها. وانتقد الكثير من الأوضاع التي سادت أجواء الأكاديمية خلال فترة وجوده بها.
وقد تجلت موهبته في العديد من المعارض الفنية المحلية والدولية، الفردية والجماعية،التي أنجزها، والورش، والتجارب الخاصة، والمسابقات، والجوائز التي حصدها مثل جائزة الدولة التشجيعية التي حصل عليها مرتين، وجوائز صالون الشباب، وشهادات التقدير.

أما موضوع معرضه الأخير فقد اختار له عنوان " بني آدم" كأنه كان يحاول أن يصل إلى أعماق البشر في لحظة مصيرية يبدو فيها المجتمع المصري وكأنه، في ذروة مرحلة التغير والتشوش، قد فقد الكثير من قيمه، وروحه الأصيلة، أي فقد إنسانيته. وبروح الشاعر عبر هاني عن فكرته في البروشور: أيها الساكنون على سطح فوتوغرافياتي..أين نلتقي؟ وكيف تتحدد لحظات اللقاء؟ الأسئلة..معجزة العقل التي تتوهج عبر متون الصور..أسئلة: السكون والحركة، العتمة والنور، التلشي والسطوع. صورنا هي فعل مقاومة ضد الفناء. تنبعث مذاقات الحنين والأسى من رحيق البصريات التي تحمل عبق لحظات الزمن المنفلتة، تتقاطع مصائرنا وتتباعد في مصفوفة نسيجها ألياف الذاكرة ومومياوات العصر الحديث، مجلدات الصور التي تحكي ما كان من أمرنا مع الآخرين. مع التفاصيل اليومية، مع الحياة.
مابين رسوم كهوف الإنسان الأول وألبومات الصور التي ترسم تاريخنا، خيط رهيف يقودنا إلى بيوت الذاكرة، حيث تسكن الآلام والأحلام، الضحكات وطقوس البهجة المستعارة..خطوط الزمن على وجوهنا وأجسادنا".
هذه الروح الشعرية هي التي جعلت هاني متحمسا بشكل دائم للبحث عن المناطق المشتركة بين البشر والأماكن والمسافات، على الأقل هذا ما عكسه بشكل واضح في معرض من معارضه بعنوان:بين بورا والماكس وقدم فيه صورا من منطقة الماكس بالأسكندرية، متجاورة مع منطقة بورا الإيطالية. قدم صور المنطقتين الساحليتين كأنهما في النهاية تفاصيل لمكان واحد، كأنه أراد أن يعطينا عينيه لنرى بهما أن الفواصل التي صنعتها السياسة ومجدها التاريخ، ليست سوى فواصل وهمية، كما أزال حواجز الزمن في نفس الصور، وأضاف إليها عناصر لونية جمالية من صلب المشهد نفسه ممثلة في مساحات من جدران البيوت الفقيرة التي يأوي إليها أهل المنطقتين على اختلاف الثقافتين التي ينتمي كل منهما إليها.
لكن هاني الجويلي لم يكن يمتلك رؤى شعرية فقط، لكنه أيضا كان يمتلك تأملات فلسفية جسدها في معرض "Alteranative Relations”  حيث تتجاور في كل عمل صورة مركزية مع عدد من الصور الفرعية، أغلبها بالأبيض والأسود بينما تكون بينها صورة واحدة ملونة، فتبدو كأنها محاولة لتصوير الزمن في لقطة ثابتة، كما يتأمل المعني المتناقضة لما تبدو دلالته في اللغة محدودة مثل الجمال، ممثلا في وجه امرأة ووجه فرس. أو إبراز فكرة السلعة وتعددها في محيط الفقراء. أضافة لمحاولات فهم معنى الزمن، أو إدراك صور المرأة في تناقضاتها، وفكرة التقاط التباين واختلاف الأولويات والهموم والمشاعر بين بشر لا يجمعهم سوى مكان جغرافي(توسع في نفس الفكرة عبر مجموعة من الصور التي التقطها لرواد مقهى الحرية الشهير بباب اللوق)، بل إنه في بعض الصور لا يستفز فقط حاسة النظر، وإنما يحرض حاسة السمع للإنصات لما وراء جدران من أزمنة غابرة رآها فنقلها لنا بنفس الإحساس.
عندما صور مجموعة من الأعمال عن مصر، توسل الكادرات البسيطة بلا تعقيد أو تركيب من أي نوع كأنه أراد أن يرينا أن الكادرات التي تجسد حياة المصريين الآن وهنا على اختلاف مشاربهم وثقافتهم وطبقاتهم، هي كادرات مركبة بلا تعمد أو إصرار. المجتمع فقد بساطته وتلقائيته وأصبح مركبا ومعقدا بحيث أن العين تلتقط ذلك بسهولة في مكان.

أما في تصويره لمولد السيدة زينب فقد حرص على تأكيد الطقس الاحتفالي الجماعي من جهة، ثم على التقاط وتثبيت ملامح العابرين قاصدين المكان على اختلاف ما يبحثون عنه: سواء كان المحرض هو البحث عن متعة عابرة، أم عن اليقين، والتبرك ، أو شفاء لروح أعطبتها ضغوط القهر واليأس، أو حتى بحثا عن معجزة لشفاء طفل مريض، أو بحثا عن الأمل.
هل كان هاني، المشغول بالزمن، يعرف مصيره وهو يكتب: "أنا الفوتوغرافي جئت، أبحث عنك، أجدك، أحملك معي، ونمضي سويا. على دروب الذاكرة، معا نتلاشى، لكن كائنا من ورق سيبقى ليحكي أننا كنا هنا هكذا..الآن".
ربما..لكن المؤكد أنه كان صاحب مشروع فني مميز، وموهبة كبيرة، ستظل صوره مخلدة لها تسجل وتوثق أن شاعرا كبيرا وفيلسوفا نقل موهبته إلى عينيه فأرانا ما لم نكن لنراه، وأنه كان يعيش بيننا، وأنه كان يعرف أننا لن نصدق رحيله بسهولة، فاستعد طويلا لوداعنا بطريقته الخاصة، برؤاه الخاصة وحساسيته وإنسانيته ونبله، وبكائن من ورق سيبقى ليحكي أننا كنا هنا.

نشرت في النهار اللبنانية في صيف عام 2007