Thursday, February 3, 2011

الصبر ساعة

الصبر ساعة يا شباب مصر
مقال أمجد ناصر في "القدس العربي

المناخ الانتفاضي يلف العالم العربي مشرقاً ومغرباً. هذه بشائر العام الجديد التي لاحت من بلاد أبي القاسم الشابي مؤكدة، ومردّدة، بيت شعره الشهير: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدَّ أن يستجيب القدر. واضح أن 2011 لن يكون كسائر الأعوام في الحياة العربية. إنه الرقم السحري، كما تبدو ملامحه حتى الآن، في رزنامة تاريخنا المعاصر. سيكتب لهذا العام أن يكون أكثر الأعوام العربية سخونة في الأحداث، أكثرها مدعاة لأمل فقدته، أو كادت، النخب والشعوب على السواء بعدما بدا أن لا شيء يحدث في هذا الفضاء المشبع بالإحباط.

فقدنا، أو كدنا، أيّ أمل بالتغيير. لم يكن هناك ما يدعو إلى الأمل قبل أن يضرم محمد البوعزيزي النار في جسده الهش ويصعد، بائع عربة الخضار التونسي، كرةً ملتهبةً إلى جبل الجلجلة العربي. كان كل شيء يبدو مستقراً على ما هو عليه: الأنظمة ممعنة في خنق شعوبها. العيش اليومي المرّ يزداد مرارة. فصائل من الطفيليين (من يسمونهم 'رجال الأعمال') يمصّون، كالعلق، ما تبقى من دم في جسد شعوبهم. التبعية الذليلة للغرب تتكرس حتى لتصبح شرطاً وحيداً لبقاء الطغاة النماريد. مقدرات الدول تُنهب، في رابعة النهار، وتباع لرأس المال الطفيلي الداخلي والخارجي. البؤس الاجتماعي والفقر المدقع يتجاوران، في نسخةٍ ما بعد حداثيةٍ فنتازيةٍ، جنباً إلى جنب. 'المولات' و'الأبراج' التجارية العملاقة تقابل المزابل.

استقر هذا المشهد العربي، المشحون ببروق وصواعق متوارية، وبدا أن لا شيء يمكن أن يهزّ ثباته المكين. لا شيء يمكن أن يغيره. لكن شرارة التغيير اندلعت ووجدت حطباً جاهزاً ينتظرها. من تونس انطلقت الشرارة وامتدت شرقاً وغرباً. لكن نار التغيير المقدسة لم تأت، سريعاً، على الحطب القديم. يحتاج الأمر لإدامة النار. فحطب عشرين أو ثلاثين سنة لا يحترق بين عشية وضحاها. وعلينا أن لا نيأس عندما نرى بقايا النظام القديم تتلكأ في الانهيار. تقاوم بكل ما اوتيت من قوة وخبث. لكن المهم، في كلّ ما حدث، أن الناس اكتشفت سلاحها وها هي تستخدمه. ويا له من سلاح بسيط: أن تقول لا!

***

أثبتت ثورتا تونس ومصر وتحركات اليمن والأردن والجزائر وجود قوى دافعة لعملية التغيير ليست من صلب التنظيمات السياسية التقليدية بما فيها الإسلاميون. هناك قوى تشكَّلت في هذه المجتمعات العربية (وغيرها) خارج الحاضنات السياسية والفكرية التقليدية: اليسار بشقيه القومي والماركسي، والقوى الاسلامية بشقيها الدعوي والجهادي. هذه القوى الجديدة تتمثل في فئة الشباب. من المؤكد أن هؤلاء الشباب يتبنون قيماً سياسية وفكرية ينهل، بعضها، من المعين السياسي والفكري سابق الذكر، لكنها، كما يتضح، حتى الآن، ليست ممهورة بخاتم حزب بعينه أو فكر محدد. كأن انتماءها الى مشاغل عمرها وثقافته وفضاءاته الواقعية والافتراضية هو هويتها.

لقد فوجىء الجميع عندنا نظماً ومعارضات (كما فوجىء المراقبون الغربيون) بانبثاق هذه الشريحة كمحرك رئيسي لعملية التغيير. صار الكل يلهث للحاق بهذا الهدير الشبابي الذي خضَّ حالة الاستنقاع العربية الموصوفة. فهناك من يريد أن يتخذ لنفسه موطىء قدم وسط هذه الجموع الشبابية، وهناك من يريد أن يفهم كيف انبثقت الحياة في جسد ظنه الجميع هامداً بلا حراك، وها هو ينهض وينتفض.

أبرز ملمح لهذه الظاهرة الشبابية الثورية (التي تذكِّر بحركة أيار الطلابية الأوروبية عام 1968) يتمثل في انزياحها عن التصور الماركسي التقليدي للقوى صاحبة المصلحة في الثورة كالعمال والفلاحين. أي ما يسمى بـ 'الطبقات الكادحة'. الصور التي رأيناها على شاشات التلفزة التي نقلت لنا، على مدار الساعة، تحركات جموع الشباب في تونس ومصر لا تعطي انطباعا بالمنبت الكادح لهؤلاء الشباب، بل تمكن المغامرة بالقول إنهم ينتمون الى شرائح دنيا من الطبقة الوسطى، أو ما توصف، في التصنيف الماركسي أيضاً، بالبرجوازية الصغيرة. هذا، على الأقل، ما بدا من خطابات الشباب ومظهرهم اللذين يردَّانهم إلى شكل من أشكال 'العولمة'، عطفاً، بالطبع، على صلتهم بوسائط الاتصال الحديثة وما توفره من 'أدبيات' تنشر وتتداول في الشبكات الاجتماعية.

المفاجىء أكثر في شأن هؤلاء الشباب أنهم ليسوا إسلاميين. هذا ما يتصادم، بقوة، مع تصورنا وتصور غيرنا (الغرب تحديداً) القائل إنَّ أيّ تغيير في العالم العربي هو، بالضرورة، إسلامي، وإنَّ أيّ بديل للأنظمة القائمة، هو بالضرورة إسلامي الطابع. ألم يقل ذلك توني بلير في تعليقه على الثورة في مصر؟ أليس هذا فحوى الرعب الذي استولى على نتنياهو؟ لقد تعالت الصيحات من هنا وهناك: إنه التغيير على الطريقة الإيرانية! إنه شبح الخميني يلوح في الأفق!

لكن غربيين كثراً لم يروا ما رآه توني بلير، ذَنَب جورج بوش الابن، أحد مهندسي تحويل ما تبقى من الحركة الوطنية الفلسطينية إلى كانتون تحت الاحتلال. هناك غربيون كثر، في المؤسسة الرسمية والشارع على السواء، يرون أن ما يحدث في مصر ثورة شعبية بامتياز. ليس وراءها جهة خارجية، لا تستخدم أساليب عنيفة في محاولتها إسقاط النظام، لا ترفع شعارات تشير إلى ايديولوجيات راديكالية (يسارية أو إسلامية). لا تصدح بالعداء المطلق للغرب. وسواء كانت مظاهر الاخوان المسلمين الخجولة في التظاهرات تعكس حجم 'الجماعة' الحقيقي بين الشباب أم تكتيكاً ذكياً من قبلها لتجنب أي تشويش على الثورة، فإن الفزَّاعة الإسلامية، إيرانية الطابع، التي يخيفون بها الداخل والخارج قد سقطت على الأرجح.

هناك ثابت وحيد هو هؤلاء الشباب الذين يهزّون هواء بلادهم الساكن بقبضاتهم.

هذه الحقيقة هي التي جعلت باراك أوباما يتوجه في كلمته الأخيرة الى 'ساحة التحرير' مباشرة.

من دون وسيط. من دون أن يمر بالنظام المترنح قال أوباما للشباب الثائرين إنه يسمع أصواتهم، وإن ثورتهم (لم يسمها كذلك بالتأكيد) أصبحت مصدر إلهام لعديد من الشعوب بما في ذلك الشعب الامريكي!

وبصرف النظر عن صدق كلام أوباما من عدمه، فالمؤكد أنه لم يقل ذلك الكلام غير المسبوق، في مديح ثورة تكافح ضد حليف وفيٍّ للولايات المتحدة الامريكية، بلا دلالة. بلا قناعة. الدلالة أن الشعوب يمكنها، عندما تتولى أمرها بيدها، إجبار القوى العظمى على سماع صوتها واحترامها، أما القناعة فتتمثل في إدراكه أن فجراً عربياً جديداً يلوح في الأفق ولا ينبغي الانتظار كي تسطع أنواره.

***

اليوم تدخل الثورة المصرية ساعة الحسم. لقد قطعت أكثر من نصف المسافة. اجتازت الأصعب (كسر جدار الخوف).. وها هي تنتقل اليوم، بعزم وثبات مذهلين، إلى طور 'رحيل النظام'. لقد صعد الشباب إلى الشجرة ولن ينزلوا منها، فيما صعد النظام الى منصة نهايته، خصوصاً، بعدما لجأ الى فصائل البلطجية وفلول الأمن لزجهم في معركة فعلية (حجارة، مولوتوف، عصي، سلاح أبيض) مع شبان الساحة الذين قدموا مثالا ساطعاً في الانتفاض السلمي، ما أجبر رئيس أكبر دولة في العالم على التحدث إليهم مباشرة.

إنها لحظات صعبة وتحتاج إلى تكتيكات جديدة لمحاصرة النظام واجباره على الرحيل.

شدّوا الهمَّة أيها الشباب فما النصر إلا صبر ساعة.
 
نقلا عن "القدس العربي" 3 فبراير2011