Saturday, January 15, 2011

..في رواية مهمة ونص فاتن..مها حسن..سليلة ديستويفسكي


 
"حبل سري" لمها حسن..

جسور بشرية تطرح سؤال الهويـــة



        



إبراهيم فرغلي

عندما انتهيت من قراءة "حبل سري" لمها حسن، الصادرة عن دار رياض الريس، كنت مفتونا بالرواية للدرجة التي جعلتني أتمنى، في لحظة افتتاني تلك، التوجه لمقبرة روائي عظيم مثل ديستويفسكي، وإهداء روحه نسخة من هذا النص.

مبالغة؟ ربما، لكنها بالنسبة لي ليست كذلك، فاليوم تشيع مقولات غير دقيقة عن أن الذوق الفردي يحكم قراءة الأعمال الأدبية، وهي مقولة تستحق وقفات عدة، لما تحمله المقولة من مغالطات، ليس هنا موضوعها على أي حال.

بين فرنسا والشام تدور وقائع رواية "حبل سُرّي" للروائية السورية مها حسن، جغرافياً، لكنها تتوزع فنيا على مساحة شاسعة من الشخوص، والنماذج البشرية، المرسومة بعناية، لتولد الأفكار التي تنبثق، عبر سلوكيات هؤلاء البشر، عن الهوية ومعنى الوجود.

رحلة فنية ممتعة تصحبنا فيها هذه الرواية، عبر أطراف عديدة، تذكرنا بديستويفسكي في تخليقه لبنى رواياته من نماذج وشخصيات عدة؛ تتعدد مشاربهم، ومسارات حياتهم، لكنهم يتقاطعون بصدف واقدار فنية، تتوزع على امتداد العمل بمهارة، ودون مباشرة، وبينما نتأمل تفاصيل سلوكيات هؤلاء الأفراد، ونستمع إلى حواراتهم، وننصت لأصواتهم الباطنية وهواجسهم ومخاوفهم، تتولد لدينا افكارا تتناسل على امتداد الرواية.

وبالرغم من التنوع الكبير بين شخصيات الرواية: فرنسيين..أو أكراد، أو حلبيين أو فرنسيين من أصل عربي أو كردي، وسواهم، فإن كل شخصية تمتلك كل السمات والصفات التي تعكس صدقها الفني، من جهة، كما تعكس مدى دقة الكاتبة وعنايتها بالتفاصيل، وعكوفها على البحث في تفاصيل الحياة اليومية للشخصيات فيما تأكله من أطعمة، وترتديه من أزياء، وما تسمعه من موسيقى، وما تفكر فيه. وكيف ينعكس كل ذلك على سلوكها في الحياة..أو بالأحرى كيف يعكس ذلك نمط حياتها.

ثمة معادلة صعبة حققتها الكاتبة في هذا النص عبر امتلاكها للغة رشيقة واضحة يتدفق بها النص، مغويا للقراءة، لكن هذه اللغة ذاتها، في تدفقها وانسيابها الذي يعطي إحساسا أكيدا بالسلاسة والانسيابية، وخادعا بالبساطة، تمنح القاريء موجات من الأفكار العميقة والأسئلة التي تتسرب لوعيه تارة، أو تلطمه بقسوة تارة أخرى، مع لمسات درامية مشحونة بالعاطفة تتوغل عميقا في وجدان القاريء، تعكس خبرة الكاتبة السردية التي لا تخطئها العين.

يتنقل النص بين ثقافتين هما الثقافة الغربية عبر الشخصيات التي تعيش في باريس، وبين الشرق ممثلا في الشخصيات التي تعيش في حلب في سوريا، وفي قرية مجاورة يعيش بها أقارب البطلة من الأكراد، وفي هذا التنقل يثور سؤال جوهري عن الهوية، ما معناها؟ ومكونها الحقيقي؟..هل تتكون الهوية مما تشكله ذاكرة لزمن محدد، أو مكان، أم من اللغة، أم من وطن مرجعي بعاداته وتراثه؟

تقول صوفي بيران بطلة العمل:"إن الثابت في حياتي هو الترحال. لا أعرف طعم الاستقرار، لا من الداخل ولا من الخارج. اشعر بقوة دفع داخلي، شيء يقول لي هيا تحركي، وكأن ثباتي أو استقراري أو ارتباطي بحالة أو مكان أو شخص أو علاقة هو خيانة ما ولا أدري خيانة لمن".

صوفي بيران الفرنسية، إقامة، وزواجا، وتحدثا، هي في الأساس، كردية اسمها حنيفة كمال، قررت بعد خيبات عدة، بينها قرار الأب، رضوخا لأمه وشقيقاته، بأن يتخلى عنها هي وأمها الكردية ليعيش مع زوجته الأخرى، العربية، وابنتها شيرين (التي تتنازعها وحنيفة علاقة حب كراهية مدهشة ومتناقضة) وشقيقهما إدريس، وبقوة غضب داخلي لا تخبو نيرانه، أن تخرج من بلدها وتهاجر إلى فرنسا..غيرت اسمها ولغتها، وعاشت لا تقوى على المكوث في مكان..تقود سيارتها، بسرعة جنونية، من بلدة لأخرى، ومن شارع لآخر بلا هدف..تستمع للموسيقى وتبكي، وتسأل نفسها عن هويتها.

ومع شخص لا تحبه، وفي لحظة من لحظات حمى الحياة، كانت تهذي بخواطرها عن الهوية، تتفجر الأسئلة التي تؤرق وجودها كله حول معنى هويتها، فيما يقول لها العشيق :" كفّي عن بحثك عن الوطن، الوطن هو أنت، أنظريني، ها أنا فرنسي، ماذا تعني لي فرنسا؟ لا شيء المهم هو أنا وليس الأرض، الوطن هو الانسان اما الارض فهي مجرد شيء، مكان، ظرف وظيفته تقديمنا وها انت اخيرا موجودة سواء اوجدت كردستان ام لا. كردستان هي انت".

تتوالى أسئلة صوفي عن الوطن، أن يكون للفرد مكانا أمر يختلف تماما عن أن يكون له مكان يقرر هو أنه لا ينتمي له إن شاء، أمر مختلف، وأن يكون للفرد مكانا ينتزع منه، كما هو شأن الفلسطينيين، مقابل ألا يكون له مكان ينتزع منه، كأنه يولد مستلب الهوية من الأساس، وما يؤدي إليه ذلك من شعور بأنه بلا شرعية.

إنها الأسئلة الإنسانية التي تخلقها هذه الرواية، وليست الأفكار السياسية، فهي رواية بعيدة كل البعد عن السياسة، وأوهامها وآثامها.

من هذا الشخص، الذي كان ابعد ما يكون عن نموذج الرجل كما تحب، وخصوصا أبعد ما يكون عن زوجها الفرنسي المتوازن، تنجب صوفي طفلة تحمل ملامحها الجميلة ذاتها، وبزرقة العينين نفسها أيضا، ثم، ووفقا لقدر فني عثر، تتركها للعالم، يتيمة، وحيدة، بعد ميتة متوقعة لامرأة تقضي ثلثي حياتها على الطرقات تقود سيارتها بسرعتها القصوى، لكنها لم تكن تقود سيارتها في ذلك الحادث المذهل، بل دراجة بخارية تخص زوجها آلان، الكاتب الفرنسي، متحفظ المشاعر، الذي يكتب رواية عن صوفي، ويرعى ابنتها في الوقت نفسه، بل ويعاملها كابنته مقدما نموذجا فريدا للفرد الليبرالي المتحرر في اكثر صوره إنسانية.

وتستكمل ابنتها (باولا) رحلة الأم في البحث عن هوية، في عالم غربي تنتمي إليه ذهنا وعاطفة ونمط حياة، لكن سيرة أمها تغويها للبحث عن حقيقتها، وبالتالي لتعيد بعث السؤال عن هويتها، لكنها لا تكتفي بالسؤال، بل تتورط بالبحث بنفسها عائدة إلى جذور أمها بعد مفارقة مدهشة تجعلها تلتقي بصدفة مذهلة مع جدتها حنيفة، عمة صوفي (أو حنيفة كما عرفت في طفولتها) في باريس. مما يجعلها تقرر زيارة حلب للتعرف على المجتمع الشرقي الشامي ممثلا في الشام، وفي جذور أمها الثقافية؛ كما يجسدها المجتمع الكردي الذي يعيش في حلب عبر عناصر عديدة متنوعة- أظنها كانت تحتاج لرسم توضيحي لشجرة العائلة في بداية الكتاب من فرط تشعبها- من أفراد ينتمون لعائلة الأم الذين كبروا وتحولوا، وفق ظروف الحياة وما فعلته بكل منهم، كل يعبر عن التغيرات التي لحقت بالمجتمع.

بل إنها تفتتن بمجتمع الشرق، وتقرر الزواج من أحد أصدقاء اطراف العائلة، بعد تأملٍ لحاله وظروفه المختلفة، وتعرّف على التناقضات التي يمور بها هذا المجتمع الشرقي. هذه التناقضات التي ستجد فيها غواية ما في البداية، ثم سرعان ما تصبح عبئا لا تطيق احتماله، حين تقرر العيش في قلب تلك المتناقضات وتكتوي بنيرانها، فتصل إلى ذروة صراعها الفكري والوجودي حول مفهوم الهوية لتصل إلى أن الإنسان في النهاية لا يمكن أن يمتلك هوية واحدة وحيدة في مجتمع اليوم ما بعد الحداثي. إذ يتعين عليه أن يحمل أكثر من هوية، أو مكون من هويات عديدة، يسير بها جميعا بلا تعارض، وهو ما سوف نرى ومضات تفسيرية له من حياة اشخاص أخر، وبينها احد عشاقها الذين يجدون في فرديتهم هذا التنوع الفريد للهوية.

في رحلة البحث عن الهوية تلك يتكشف لباولا أن هناك "حبل سري" يربط مصيرها بمصير أمها، وينعكس على مفهومها للهوية بشكل ما. وهذا مستوى من مستوى الدلالات الذي يحمله عنوان هذه الرواية، بينما يحمل مستوى آخر من الدلالات التي قد تجعلنا ننطق كلمة سُري، بكسر السين، وإعادة تأمل مصائر كل تلك الشخصيات التي بالرغم من تقاطعات حياتها ومصائرها، فإن لكل منهم سرا قد لا يعرفه غيره، يعيش ويموت به.

عالم الأسرار في هذه الرواية هو عالم يبدو كأنه سمة أساسية للفرد، أيا كانت ثقافته، إن كان متحفظا بيوريتانيا عاجزا عن التعبير عن مشاعره مثل آلان، أو متحررا من كل قيود المجتمع مثل العشيق..الذي تحرك نوازعه عقد علاقته بأمه وأبيه، أو شرقيا محافظا كما العديد من افراد العائلة، أو متناقضا كما مثال بعض المثقفين الشرقيين كما تقدمهم الرواية، وهم كثر، أو مثل باولا نفسها التي تخفي سر حملها وإجهاضها عن والدها الروحي، آلان، وتواجه تجربتها وإجهاضها بنفسها
إنها الأسرار التي يجد الفرد نفسه فيها وحيدا مع قدره.

وعالم الأسرار هذا عادة ما نجده في النص مقترنا بموضوع ميتافيزيقي يتعلق بالمصير، وقراءة الطالع، والنجوم، كأن الأسرار، هي مصائر مقدرة سلفا، قد تؤثر في مسارات حياة الأفراد، أو هي مجرد احتمالات لحيوات لا تكتمل، وقد تكون دلالة وعلامة لدى الفرد، يختلقها الوعي من فرط اهتمامه بسؤال من أسئلة وجوده، وفيها يجد إجابة رمزية ما عن واحد من أسئلته. وأظن أن هذه المنطقة ، التي تبدو أساسية في مصائر أشخاص هذا النص، لها علاقة كبيرة حتى بالالتباس الذي يتولد في السطور الأخيرة من الرواية حين نتوقف أمام احتماليات عدة تقصدها الرواية عما إذا كان ما قرأناه كله رواية الكاتب الفرنسي آلان بيران، زوج صوفي، والأب الروحي لابنتها، والتي أعطاها عنوان "الرغبة الأخيرة لصوفي بيران"، أم أن هذا التفسير مجرد أحد الاحتمالات التي تلعبها معنا الراوية في النص. خصوصا ونحن نرى في الفصل الأول صورة غلاف الرواية في مقعد سيارة صوفي.. منشورة وتقرأها هي كأنها تقرأ فيها مصيرها.

في هذه المنطقة الخاصة، منطقة الأسرار، تستعرض مها حسن قدراتها الفنية العالية في إظهار حساسيتها في قدرة فهم التغيرات السلوكية البشرية في لحظات التحول الكبرى،وهي في هذا مرة أخرى سليلة ديستويفسكي، وفي شحن النص بتيارات انفعالية وعاطفية، تقوم على المفارقة أحيانا والمباغتة في أخرى، تستدعيها من منطقة التعلق البشري الغامض بمعرفة مستقبله، ومن سطوة السحر وقارئي الطالع، وكل نوازعه المتولدة من منطقة الميتافيزيقا، تؤكد فيها قدراتها ككاتبة تعرف جيدا ضرورة أن يتخلص الكاتب من نبرتي الذكورة والأنوثة التي تفقد النص "إنسانيته" المفترضة، كشرط فني أولي وأساسي.

هذه النبرة الإنسانية في النص، تتجلى أيضا، في تناول الجنس الذي يتخلص من الرقابة الذاتية التي تعاني منها الغالبية العظمى من كاتباتنا العربيات، بجرأة واقتدار وصدق فني، وبلا فذلكةئ أو ادعاء أو فجاجة في الوقت نفسه، كما يتخلص من الذكورية الفجة التي تفيض بها نصوص العديد من كتابنا العرب، وتتمسك بالشروط الفنية التي تجعل الجنس موظفا بعناية شديدة دراميا، من جهة، ويتوازن في كتابته فنيا بلا تورية، من جهة، أو نزوع فضائحي، من جهة أخرى.

هذا النص إضافة مهمة لمسيرة فن الرواية العربية المعاصر، واستثني هنا ما يفيض به السوق من نصوص تسمى "رواية" كذبا وجهلا تحت نظر نقاد فاسدين ومتواطئين أو كسالى، تؤكد لنا به مها حسن أن هناك الكثير من الأمل في مستقبل فن الرواية العربي، خارج تصنيف الجوائز العربية بالتأكيد، وفي وجود كاتبات من الأجيال الجديدة تستوعب جيدا دور الكاتب بعيدا عن التصنيف الجنسي، والأهم من هذا كله، أنه يضيف إلى رفوف مكتباتنا نصا يجمع الذهنية بالوجدانية في معادلة جديدة تعد إضافة حقيقية لفنون السرد العربي.