Wednesday, June 9, 2010

ما يراه النهد




على جسر خشبي عتيق مطل على ضفة مياه ضحلة، تسبح قريبا منه سبع بطات، جاءت تلك الفتاة عارية كما حلم جميل، عشرينية خمرية، رشيقة، متصالحة مع الجسد النضر، أولت ظهرها للبحيرة المعشوشبة، واستلقت على ألواح الخشب التي تشكل جسد الجسر


وبهذا منحت جسدها للشمس، وتوجه نهداها يتاملان السماء بعيني الحلمتين، الحوراوين، إذ تنظر كل حلمة إلى جهة، فاكتست السماء بازرق ساطع وتخلصت من أي حجب




لم يكن يعنيني سوى الإنصات إلى الحوار الهامس بين لسان النار والشمس


وغزل السماء للنهدين


كنت أريد أن أسال النهد عما يراه بعينيه في السماء


من بين أعشاب البحيرة اعتبرت مهمة الصيد التي جئت لأجلها انتهت، وخلعت ما أرتدتيه والقيت نفسي ،بحذر، في المياه الباردة، وسبحت ببطء باتجاه الجسر، كأنني مجذوب بفعل نداء باطني غامض

اقتربت، ببطء، وقرب شجيرة عشوائية قرب الجسر تسللت، واختبأت. . عاريا
حبست أنفاسي ، وحشدت حواسي منصتا..نبهت حواسي جميعا وغبت واعيا وأغمضت عيني، ورفعت تركيزي إلى ذروته أملا في ان تلتقط أذناي همسا ينقل به الجسد إلىّ ما يراه النهد.
استعدت كل ما خبرته في رحلاتي الداخلية إلى اعمق أعماق الروح، والوعي، مستفزا كل قواي الداخلية، مركزا على حاسة السمع
كانت غيوم صفر تبرق في عمى عيني المغلقتين من أثر الوهج الساطع للشمس. وكنت أبتغي الوصول للإظلام الكامل..للعتمة التامة التي تسبق تفجير الضوء الداخلي لروحي
حتى أدرك أنني اصبحت قادرا على توجيه حواسي باطنيا
كنت أريد أن تقع معجزة سحرية تجمد البطات التي كانت تسبح قريبا مني، لأنها كانت تشوش وعيي ، ويتعالى صوت مرورها الرهيف في مياه البحيرة، ليصبح هديرا ..هكذا استقبله عقلي الذي يركز جهده على حاسة السمع بكل قواه
شعرت بلسع الشمس على وجهي فأصبت بإحباط، ، فقد كان تركيز حواسي يرفع من إحساسي بكل شيء من حولي.

وهكذا كنت اقف على بعد نحو ثلاثة أمتار من ذاك الجسد الفاتن، غارقا في المياه حتى رقبتي، تاركا خلفي على الشاطيء، سنارتي، وثلاث سمكات ميتات، وصندوقي الصغير الذي يضم أدوات الصيد،
أحاول أن أتغلب على مشاعري الحسية السطحية بالمياه التي تغمرني وباشعة الشمس التي تلسع وجهي، وبملمس الأرض الطينية الرطبة التي تنغرس فيها قدماي، وبهسهسة الشجيرات وحفيفها المستمر من حولي، ومن رقرقة المياه التي تتسبب فيها الحركة المستمرة لسرب البط القريب.
لكني لم استسلم واستدعيت كل قواي الداخلية بعناد، وصلابة، حتى أحسست تدريجيا بغياب إحساسي بما يدور حولي، وبدأت أشعر بطنين الصمت يعزلني عن أصوات العالم الخارجي استعدادا للإنصات لصوت عقلي الباطني العاقل الكبير الذي يعيش بداخلي، المدفون في أعماقي، بتأثير الجينات البشرية والسلوك البشري الخفيف المعتاد.
وحين تحول العمى البصري عندي من الحمرة المختلطة بالاسود والاصفر وبدأت مخيلتي تستعيد العتمة التي تسبق الرؤى، وجدت مخيلتي تتفجر بأبيض الجسد الساطع الممدد على الجسر،

كان علي أن أثبت نفسي ،وأؤكد لها أن رحلتي الباطنية إلى ذاتي وصولا لعمق اللاوعي، ليست سرابا ،وأنها لم تخفق لمجرد وصول حاسة البصر الى ذروتها على حساب الحواس الأخرى، فقد كنت أعرف ان هذه مرحلة من رحلة طويلة يجب أن تنتهي بتحولي إلى سمع خالص بحيث يتسنى لي ان أنصت إلى ما يراه النهد.
بعد زمن آخر رأيت النهد في صورة الجسد الناصع الممدد في مخيلتي يرمقني بفضول عبر عينه الوحيدة ممثلة في تلك الحلمة الداكنة تجمع ما بين البني الداكن ونسبة من لون آخر لم أستطع تحديده بسهولة.
واعتبرت أن تلك النظرة التي يسددها النهد إليّ، ليست سوى إشارة.. علامة فارقة في رحلتي الباطنية الممتدة
كنت أدرك أنني بلغت مرحلة من بلوغ القوة الباطنية التي تكفي لأن أرفع تلك الفتاة من على الجسر بقوة عيني لو شئت بحيث تبدو كأنها تطير في السماء. لكن ذلك لم يكن هدفي،
فقد تدربت طويلا وأعرف مشقة الدخول في مثل هذه الرحلات
الداخلية للروح والوعي واعرف أن تلك المشقة لا يمكن أن تبذل لمجرد العبث..
صحيح أن الإنصات لنهد بالنسبة إليكم قد يبدو عبثا، لكنه بالنسبة لي لا يبدو كذلك في المطلق.

...يتبع