Thursday, November 12, 2009

يوسف رخا في شمال القاهرة غرب الفلبين
شتات الأرواح في مدن غير مرئية

بلغته الجميلة بتوترها المربك، يخوض يوسف رخا تجربة ثالثة في كتابة الرحلة، يضمنها كتابه الجديد "شمال القاهرة غرب الفيلبين"، الصادر عن دار رياض الريس في سلسلة "الكوكب".
وبينما كان قد خصص كتابا لكل من رحلتين سابقتين؛ إحداهما لبيروت (بيروت شي محل)، والأخرى لتونس(بورقيبة على مضض)، فإنه في كتابه الجديد يعرج على ثلاثة منعطفات، في بلدان ثلاثة هي المغرب ولبنان والإمارات.
لا يبدو هذا كتاب رحلة بالمعنى المتعارف عليه، بالأحرى هو سيرة ذاتية عبر الرحلة، تأمل الذات في مرايا الاخرين، وتمارين على اللغة، كيف تصبح متوترة، وتوترها ليس غاية في ذاته، بل هو انعكاس لحالة الذات، محاولة للتعبير عن الروح، وليس النفس، ولأن الروح مما لا يمكن أن يعبر عنه بسهولة تأخذ لغة يوسف المتوترة في الكتاب مستويات عدة تتراوح فيها بين الغموض، والاقتضاب، والكشف الذي يصل حد التعري، والتكثيف الذي يرفع ملاءة اللغة إلى عنان السماء قبل ان تهبط، كأنها سحر، بدلالات محددة بجلاء.
يمكن تقسيم رحلات هذا الكتاب إلى ثلاث حالات لرؤية الذات، الأولى في اختبار علاقة الزواج التي بدأت في المغرب عبر رحلة شهر عسل، امتدت ما بين كازابلانكا وفاس إلى مراكش وطنجة، أما الثانية فهي تأمل علاقة عاطفية حسية غامضة ترتبط فيها البلد، لبنان، بكل الأسئلة التي تولدها عن تعقد تركيبتها السياسية والاجتماعية على التوحد العاطفي مع طرف ينتمي اليها.
أما الحالة الثالثة التي تجسدها رحلة الإمارات، فهي حال الوحدة والوحشة ربما، والأسئلة التي تتولد من مجتمع جديد لعيني يوسف رخا، تجتمع فيه الجنسيات من ارجاء العالم، فتتفاقم عزلته.
في المغرب، تبدو لغة النص متوترة، لكنها تنجح في نقل حس ضمني بالمرارة، حينا، وبالألم والشجن مرات، ثم تنقلنا في مستوى آخر بين الواقع المضبب إلى مستوى الأحلام، وبحيث يختلط على القاريء موقع الحلم من تفاصيل الواقع، لكن الحلم يكتسب من الواقعية ما يرسخه، ويتحول الواقع، بغتة، إلى لون من السحر. في مواقع أخرى قد تنتقل اللغة، بتشظيها وقلقها بين مكانين، هما المغرب، والقاهرة، في مكتب مضجر في الأهرام، لكن المكان، في الحقيقة بتفاصيله لا يعني الكاتب في شيء، فهو ليس سوى التكأة التي تمرح فيها الروح بين الأمل، والضجر والتأسي.
ثمة باعة حشيش في الدروب، ووجوه أطفال مرحة في الطرقات، وباحثات عابرات عن المتعة، ثمة وجوه واجمة في محطة القطار، وصوت ام كلثوم في كازا، وبحث عن طيف شكري في سوق طنجة الداخلي، واستدعاء لدار غالية التي تصبح في وعي الكاتب كأنها بيت الزوجية، يقارنها لاحقا ببيت الزوجية الحقيقي في القاهرة، وثمة وجوه ومفردات بلسان أهل المغرب. يلتقطها رخا من هنا وهناك ويطلقها في كتابه كشظيات لا يربطها رابط. كأنها صدى متكرر لهواجس الكاتب ومخاوفه، عن الماضي واحتمالات تكراره.
الكتابة متشظية، تتداعى وفقا لما تستدعيه الروح من أحاسيس، وليس وفق منطق العقل في تذكر رحلة. تمكن يوسف رخا من هذا المنطق الجديد في الكتابة، والذي يبلغ ذروته في اللغة الجميلة التي ابتكرها في روايته الجديدة "كتاب الطغرا" التي نشر منها مقاطع متفرقة في عدة دوريات، واظن أن هذا أحد أهم نتائج هذا الكتاب.
ملاحظات عابرة عن لغة المغاربة، وما يستغربه صاحب لهجة مصرية من مرادفات المغاربة في الحديث وفي العلامات، وعن معنى وجود النباتات في البيوت، لمن تربى في بيت مديني للطبقة الوسطى في قلب القاهرة.
وما بدأ في المغرب، يؤدي بشكل ما إلى الإمارات، التي تبدو زيارة الكاتب لها نوعا من الهرب من مرارة لا نحتاج للكثير من البراعة لاكتشافها في نص المغرب، ومن اليأس المهني في القاهرة، لكن الهرب بدلا من ان يولد الراحة المبتغاة، على الأقل من وطأة الذاكرة، فإنه يشعلها، بالمقارنات التي تفرضها حالة المجتمع الإماراتي.
نص الإمارات يفتح اسئلة عديدة عن معنى الوطن والمواطنة في كل من مصر والإمارات، وأخرى عن الثقافة، المسلعة المجلوبة المستوردة مقارنة بغيرها مما يثير الضجر.
وبالأساس تتسع اسئلة المكان- الوطن ،عبر ظلال المكان ذاته واهله، الذين يظهرون على استحياء، والمقيمون الذين يشكلون نسيجا متنافرا ، وعبر الذاكرة التي تستدعي المكان الاساس، كأن مصيرنا، (وقد اشار الكاتب إليّ في أحد المواضع)، هو ذلك القلق المستمربين اماكن إما أنها لا تعبأ بنا وتضجرنا تناقضاتها بالرغم من كونها أوطانا، أو تلك التي تعاملنا بوصفنا أغرابا.
لكن توتر اللغة المبني على توتر الروح في ظني كثيرا ما أدى إلى إطلاق احكام لا يطلقها سوى العابرين، أو الممرورين والضجرين، أي أنها تبدو انفعالية اكثر من كونها مراقبة واقعية للمكان في سياقه هو، وتاريخه هو، وظروفه.
الرحلة فيما أظن تقتضي من العابر أن يخضع لشرط التكيف واعتبار نفسه من المكان حتى يتمكن من رؤيته، وإلا مر عابرا، ولا أريد ان اقول أعمى.
ولا أظن أن يوسف رخا كان مكترثا لذلك، فهو من بداية النص يذكرني بجزء مما كان يردده ستلمان أحد أبطال رواية مدينة الزجاج لبول اوستر مع المخبر السري كوين:"لقد تشظى العالم يا سيدي. لم نفقد شعورنا بالهدف فحسب، وإنما فقدنا اللغة التي يمكننا بها الحديث عنه. وتلك بلا شك موضوعات روحية، ولكن لها ما يناظرها في العالم المادي".
في موقع آخر بين البطلين غريبي الأطوار سيعود سيتلمان للقول:"إن كلماتنا لم تعد تطابق العالم. فعندما كانت الأشياء كلا واحدا كنا نشعر بالثقة في ان كلماتنا ستعبر عنها، ولكن شيئا فشيئا تحطمت هذه الأشياء، تمزقت، انهارت، تحولت إلى فوضى، ومع ذلك ظلت كلماتنا على حالها، ولم تؤقلم ذاتها مع الواقع الجديد".
هكذا يبدو لي نص يوسف رخا، في محاولته للتعبير عن اضطراب العالم وانعكاسه على مخاوفنا ونوازعنا وقلق أفكارنا، للدرجة التي تبدو معها الكلمات وكأنها تشويه ما يتم طرحه، وتحويله إلى ركام مضطرب.
هذا بالضبط ما وجدتني أهتف به لنفسي كتوصيف لنص يوسف رخا في هذا الكتاب عن بيروت، لقد أربكه وضع المكان بحيث انه لم يعد هناك جدوى لأي كلمات لها معنى واضح ومستقر ان تعبر عنه، ولا عن روح الكاتب في تلك اللحظات المشوشة. تماما كما تبدو قصة الحب العابرة التي يعبر عنها النص.
هل يضيف يوسف رخا جديدا إلى كتابة الرحلة أو عن البلاد الثلاثة موضوع الكتاب؟ بالتأكيد لا. لكنه في المقابل قدم نصا فنيا تجريبيا مهما على تخوم الرحلة وفي قلب موضوع فقه اللغة في تعبيرها عن شتات الارواح
نشرت في النهار اللبنانية في نوفمبر2009.
على أطراف الأصابع" لمصطفى ذكري
بين وقت الفراغ ومعنى الحياة!


"بينما تبدو التسلية تتعلق بوقت فراغ فإذا هي تتعلق بمعنى حياة"
.
هذه الجملة الفارقة تأتي عابرة في كتاب "على أطراف الأصابع" للكاتب المصري مصطفى ذكري، والصادر أخيرا عن "دار العين للنشر"، لكنها في ظني، عبارة جوهرية، قوتها تتمثل في قدرتها على تمثل عمق ما يضمه هذا الكتاب من نصوص تفرقت في 56 يومية متتالية، وفي تمثل معنى حياة "كاتب" وهب نفسه كلية لفعل الكتابة كما هو شأن مصطفى ذكري الذي اظنه يمثل نموذجا متفردا وحده في حقل الكتابة العربي.
لا أعرف متى قرر ذكري أن يتفرغ، بالمعنى الحرفي للكلمة، للكتابة، ويعتزل العالم الخارجي، بكل إفرازاته الاجتماعية والسياسية وما يتعلق بقيود هذين المجالين، ويتحرر من ذلك الفضاء الذي عادة ما يصفه بأنه "جثة نتنة"، لكن على الأقل هكذا عرفته منذ التقيته لأول مرة في مطلع التسعينات، وحتى أتيحت لي زيارته في بيته الواقع في حي حلوان أخيرا في القاهرة قبل شهور قليلة.
لا يشارك مصطفى ذكري في أي طقس اجتماعي، لا أعراس، لا جنازات، لا واجبات اجتماعية عائلية على اي مستوى. لكنه في المقابل، يختار، ما قد يستجيب له مما يستدعي خروجه، بعناية، وبعد الكثير من التردد: حفل توقيع، حفل عيد ميلاد لصديقة أو صديق، سهرة مع أصدقاء في حانة أو منزل، ندوة من ندوات قد يجد فيها فرصة لرؤية أصدقاء، أو حتى قد يجد فيها ما يلفت الانتباه. وبين المناسبة والأخرى قد تمر شهور، لا يخرج خلالها ذكري من البيت.
هذه حياة لا أستطيع وصفها سوى بالصرامة، على الرغم مما قد توحي به من ترف. وهي تعبر، في عمقها، عن نوع من الرهبنة المبطنة، التي قد لا يبوح بها ذكري، للكتابة أو للفن على وجه الخصوص. الفن الذي يتعسف ذكري بالتأكيد على أنه لا يجب ان يتماس مع الاجتماعي أو السياسي على أي نحو. فكاتب مثل ذكري لا يبحث، ولا يرضى، سوى عن الفن النقي، المتخلص من شوائب عديدة يرى أنها علقت بالفن بالاستسهال، وبالتكرار والتقليد الأعمى، لذلك يسعى أيضا إلى "خلق" عبارات، وفقرات أصيلة، جديدة، تضاف لتراث الفن الإنساني في أكثر صوره نقاء.
في هذه العزلة، وفي مواجهة الزمن، في فضاء موهوب بالكامل للفن، تبدو حياة مصطفى ذكري مثل رائد الفضاء الذي يرتقي مركبته، يعيش بكامل طاقته وتركيزه لأجل الهدف الذي تمخر لأجله تلك المركبة طبقات الغلاف الجوي إلى عنان الفضاء، دون ان يلتفت كثيرا لذلك الكوكب الازرق البعيد النائي، وفي هذه الرحلة التي تخترق الزمن، بما يفوق القدرة البشرية على الحساب، يظل ذاك المسافر قابعا في عزلته، باحثا، في بعض الأحيان، عما يزجي به وقت فراغه أو يسليه، وهكذا يفعل مصطفى، ويعبر عنه بعبارته المكثفة التي افتتحتُ بها هذا المقال.
أظن ان أي قراءة لهذا الكتاب الذي يعطيه المؤلف عنوانا فرعيا هو "يوميات" قد تكون مبتسرة من دون استيعاب الطريقة التي اختارها ذكري لحياته، لأن اسلوب الحياة هذا هو الذي يفسر طبيعة هذا الكتاب، كنص مختلف، حول الكتابة والفن والذوق الأدبي، وحول الفلسفة والسرد والذاكرة، وايضا حول رصد لحظات الكتابة في دفقاتها الأولى التي تنبثق من اللاوعي، وتسلم المسألة برمتها للعقل واعيا. نعم أظن ان أسلوب حياة ذكري ضروريا هنا لفهم منطق هذا الكتاب الذي يضم، بين ما يضم، أحكام قيمة، وانتقادات لاذعة لنقاد وكتاب بطريقة راديكالية تقارب احكامه في الذوق الأدبي، مثل وصفه لإدوار الخراط بأنه كاتب متوسط، أو تشككه في ذوق نجيب محفوظ، مثلا في يوميتين من يوميات هذا الكتاب.
الفن للفن، وفقا لذكري، ليس مجرد مقولة، أو اختيار في اسلوب فني، أو مدرسة، بل هو نمط حياة كامل، وبالتالي لا يقبل ذكري الكثير من السائد في الفن والأدب، وربما لذلك ايضا سنجد ان الغالبية العظمى من استشهاداته في هذا الكتاب هي استشهادات تراعي ذوقه الخاص واغلبها لكتاب ومخرجي سينما غربيين : دوستويفسكي، كافكا، بورخيس، بروست، جويس، نيتشه، هيمنجواي، هسه، بيكيت، كاواباتا، ثم: الدومافار، جودار، تاركوفسكي، هيتشكوك، بيرتوليتشي، إستير، وسواهم كثر. لكنه لا يستشهد باسم كاتب أو مخرج سينما عربي، ربما لأنه لا يرى في النموذج العربي أي من ينطبق عليه ذلك النقاءالفني الذي يتوافق وذوقه، باستثناء إدوار الخراط، الذي كان انحاز له مسبقا قبل ان يكتشف مؤخرا أنه "خدع فيه"، وهذا تعبيره في حوار صحفي، إذ تبين بعد إعادة قراءة رامة والتنين والزمن الآخر ويقين العطش، أن تردد الراوي ميخائيل في الوصف الفيزيقي لنفسه، تردد لا يمكن ان يمر به سوى كاتب "متوسط القيمة".لكن انحياز ذكري للنموذج الغربي، أدبا وفكرا وسينما، ليس انسحاقا أمام الحضارة الغربية التي تنتمي إليها تلك النماذج، إذ انه يعليها عن الواقع الذي انتجت فيه أيضا، بل ويقدم في واحدة من يومياته نقدا حادا وساخرا من الحضارة الغربية برمتها، وفي تواضع مستوى الأفلام العربية في معالجتها لنقد تلك الحضارة.
هذا النص، شأن كل النصوص التي انتجها ذكري، هو نص ذهني بامتياز، لكنه هنا، يتمتع بحرية أكبر في اختيار قطعة الكتابة التي يعكف على تقطيرها، ملتقطا فكرتها من فكرة شاردة بينما يقف في الحمام، أو مشهد سينمائي لهيتشكوك يجعله يعيد النظر في مشهد من "سايكو" يوصف بأنه أحد أهم مشاهد السينما، بينما يستعيد ذكري مشاهدته مرات، مكتشفا في كل مرة ما يعتوره من سلبيات لم يلتفت إليها احد من فرط "تقديس" المشهد أكاديميا، أو أن ينطلق من نقد صديق مهنة (مهنة الكتابة) كان يقوم بنقد كتابته (ذكري) مستخدما مقدمات طويلة ساخرة، لكنه لا يصل منها إلى شيء، فيرد له ذكري الصاع صاعين؛ بتحليل فكرة المقدمة وأهميتها في العمل الأدبي، وكيف أنها ليست من أسس الكتابة لدى "نجوم السماء في الكتابة" مثل كافكا وبروست وجويس، فيرتد السهم لصديق الكتابة بشظية فكرة مصطفى ذكري القائلة بأن مقدمات الصديق لم تكن سوى نسيجا مخاتلا للغيرة والمنافسة وكبت الآراء والهروب. أو ان يتأمل خصوصية اسلوب كافكا، البعيد عن الكلاسيكية، بالرغم من انتهاجه أسلوب الراوي العليم المحسوب على الكلاسيكية، موضحا الحلول التي تجاوز بها كافكا هذا المأزق متجاوزا ميلودرامية دوستويفسكي وشاعرية إدجار ألان بو، بوصفهما سلفيه (كافكا) الكبيرين، وغير ذلك من الملاحظات الأسلوبية، في السينما والكتابة، بشكل يكشف عن ثقافة رفيعة، وتمكُّن. بالإضافة إلى الاحتفاء، حد التمجيد، بالتفاصيل الدقيقة التي لا يلتفت لها إلا كل كاتب كبير.
في اليوميات سنجد أيضا احتفاء من ذكري بضعف الكاتب، أحيانا، حين يختار الحلول السهلة في لقطة تبدأ بفكرة تراود الكاتب في الحمام، وتغمره امتداداتها بمشترك "عنصرالمياه" فتلوح لذاكرته ثلاث روافد، منها البحر والمحيط وحمام السباحة فيستعيد ذهنه ذكرى عمله حارسا للسباحين في حمام سباحة من الغرق، مدركا لاحقا أنه اختار، في الكتابة، الاحتمال المأمون خوفا من غرق الأفكار في المحيط.
في نص يعتمد على الأفكار أكثر من التخييل، يبتعد ذكري كثيرا عن عالمه الأثير؛ عالم الأحلام، وهو العالم المناسب لكاتب يعيش في عزلته هذه، من جهة، وهي من جهة أخرى ربما تبرر تعلقه وإعجابه بالنص الكافكاوي، من جهة تالية ثم هي أيضا عناصر بإمكانها أن تتخلص كثيرا من ملوثات السياسة والاجتماع كما يرى ذكري، لكن هناك نصين يحاول فيهما الكتابة التخييلية متكأ على الأحلام، في ثلاثة مشاهد يحاول الربط بينها، بلا جدوى.
عالم الأحلام، في النهاية هو عالم قاصر، لأنه يعتمد أساسا على اللاوعي، وهذا الأخير أخرس، لا يمتلك لغة، سوى الصور التي يلتقطها من الشرق ومن الغرب، وجوها مألوفة، او مسوخا منسوخة من آلة التصوير اللاإرادي، بلا منطق. ويحاول العقل الواعي أن يمنطق الصور دون أن يدري انه يقع في دائرة مخاتلة ودهاء اللاوعي الذي يمارس ألعابا ومراوغات عدة لا يستطيع أن يدركها أو يستسيغها الوعي كثيرا. وهذا شأن محاولات ذكري العديدة في التعامل مع الأحلام، فهو يتعسف في محاولة للي الحلم في قالب الوعي وإيجاد روابط، بلا جدوى. حتى حين يستخدم واحدة من الأوراق الرابحة أحيانا في مواجهة لامنطق اللاوعي وهو الحدس، ومع ذلك فالحدس قد لا يعول عليه كثير في نص ذهني تجريدي مثل أغلب نصوص ذكري.
لكنه في مرات أخرى يتماهى في تخليق الأحلام مع اللاوعي فيختلق مشاهد بلا رابط بينها، ولعله سيكون من العبث محاولة الربط بينها لأنها لا تتكيء سوى على منطق اللاترابط.
لكن السمة الأساسية لنص ذكري، التخييلي، والذهني المجرد، كما شأن الكثير من نصوص هذا الكتاب أنه نص صاحب شخصية فريدة، تجعل له فرادة تذكرنا بنصوص البرتغالي فرناندو بيسُّوا، ليس من حيث الشعرية، وإنما من حيث القدرة والموهبة على التكثيف والتقطير لمعانٍ كبيرة وعميقة في فقرات قليلة، وبديلا لشعرية بيسوا فإن نص ذكري يتسم بنوع من التناقض، الذي لا يخلو من إنسانية، ممثلا في تداخل الإحساس الاستعراضي والمتعالي أحيانا مع النقيض ممثلا في انتقاداته الذاتية لخطأ اختياراته في نص من النصوص أو فكرة من الأفكار. وخلف كل الملاحظات الفنية، هناك لمسة عقل جميل في إخلاصه للفن وللتصور الجمالي، تتحقق من هدف جوهري في عمق كل تلك النصوص مفادها أن المتعة لا تحققها إلا الفلسفة، والفكر، اللذان يخرج منهما كل فن كبير.
وبالإضافة لكل ما سبق تتسم انتقادات مصطفى ذكري، حتى لو بلغت حكم القيمة، بنوع من الاستقامة، سواء في انتقاده لإدوار الخراط او علاء الأسواني، وسواهما من كتاب ونقاد رسم لهم صورا مارس فيها لونا من الانتقادية الحادة وقاسية التي تصل أحيانا حد السادية باعترافه، لكن لا تبدو أي منها محملة على أي حسابات من أي نوع، فهو خارج كل الحسابات.
تختلف أو تتفق مع ذكري ونصه، لكنه يظل نموذجا فريدا في الكتابة العربية المعاصرة، لم نعرف قبله إخلاصا للكتابة سوى نجيب محفوظ، مهما انتقد هو ذوق محفوظ، او اتهمه بالكلاسيكية، لأنه في النهاية، كصاحب مهنة مخلص، يقدر الكلاسيكية في معناها البنائي. ويظل ذكري كاتبا فريدا ايضا، من حيث تفرد شخصية النص الذي ينتجه، مهما تمنينا أن يقل انحيازه للتجريدي الذهني لصالح الوجداني والروحي.
سبق لمصطفى ذكري إصدار عدد من الكتب هي:تدريبات على جمل اعتراضية، هراء متاهة قوطية، لمسة من عالم غريب (جائزة الدولة التشجيعية 2003)، الخوف يأكل الروح، مرايا 202، الرسائل، بالإضافة إلى أنه كتب سيناريو لفيلمين بارزين في السينما المصرية هما "عفاريت الأسفلت" و"جنة الشياطين
نشرت في (النهار)اللبنانية في 30 سبتمبر2009".

اماكن خطئة





حيّرني هذا الديوان منذ قرأته للمرة الأولى، واستمرت حيرتي في كل قراءة تالية، ذلك أنه بقدر ما سلبني، مستدعيا إعجابي بنصوصه، فإني لم استطع تعيين أسباب هذا الإعجاب بسهولة. نعم خطفني ديوان "أماكن خاطئة" للشاعر أحمد يماني، الصادر أخيرا عن "دار ميريت" في القاهرة، بعوالمه ولغته، ومزيجه المبهر بين الخيال والاسطورة والواقع، كما أدهشني بكونه مخاتلا. فهو يبدو نثرا بينما لا يفيض بسوى الشعر، كما يبدو بسيطا وقريبا لكنه سرعان ما يكشف أن بساطته الخادعة ليست سوى تعبير فني عن موهبة أحمد يماني الذي يبدو أنه يلمح الى حالة وجدانية أو الى معنى في عينه، لكن، سرعان ما يبدو المعنى عصيا؛ يتراكم لدلالات عدة خلف كل صورة شعرية مما يختلقه الشاعر بكل التأويلات المحتملة.أدركت بعد قراءات عدة أن سر الديوان في انه متخلص من أي تأثيرات أخرى، وبينها تجربة يماني الشعرية السابقة نفسها، ومن تجارب أيّ من الشعراء المجايلين. كما قدّمَ اليَّ دليلا حيا على ما كنت أفكر فيه منذ فترة حول علاقة النص الذي يكتبه الشاعر بالبيئة التي تحيط به، بالطبيعة، بالمناخ العام. ويبدو هذا الديوان "متحررا" من قيود المكان، وتراث الكليشيهات التي تشيع بين أبناء الجيل الواحد، ومستفيدا من عناصر الحياة الجديدة في اوروبا حيث يعيش يماني في إسبانيا منذ فترة.لم يعد يماني في هذا الديوان مهموما باليومي، فقط، وإنما امتد الهمّ الى أسئلة وجودية كبيرة، عن معنى الاغتراب، وعن المشتركات الإنسانية، وعن العنصرية التي تمارس في العالم ضد الملوّنين، وعن الحنين، بل وحتى وصولا الى بعض المشاعر التي تعكس شفقة الشاعر على نماذج مهزومة أو مجروحة من البشر، وسواها من التيمات، يعبر عنها بإيحاءات ميلودرامية. لكنه مع ذلك يبدو بعيدا عن فخ الميلودراما.ثمة شيء خاص في هذا الديوان يتمثل في أن نصوصه جميعها تقطر شعرا، حتى لو بدت بعض المفردات عادية أحيانا. وبقدر ما تبدو القصائد مشهدية، تبتعد عن التجريد والذهنية، لكنها في المقابل، تعكس قدرة الشاعر على تركيب الصور والمشاهد، بوجوه البشر ولفتات شاردة من حياتهم، وبصرخات قد يرددونها، وبهمسات تنفلت منهم، أو بعواء ذئبة، أو رفيف طيور غامضة، وغيرها من عناصر الكائنات التي تبدو مصائرها معلّقة مثل مصائر البشر.بإحكام، يضفر يماني الصور والتراكيب اللغوية والروائح والأصوات وحركة القطارات ولوحات الفن التشكيلي، والتماثيل والأقنعة الإفريقية والخرائط والأحلام وصور الوجوه، وسواها، لكي تعبّر هي عن المعنى العميق، التجريدي أحيانا، والمركّب، في أحيان أخرى، والعصيّ على التدليل في مرات ثالثة.تتجلى قدرات يماني في صوغ الشعر من خلال تركيب المشاهد وتطويع اللغة واللعب مع خيال القارئ، كما تتجلى في تلك الشظايا الحادة المباغتة التي يفتتح بها العديد من القصائد؛ فتسترعي انتباهنا بحيث لا يمكن للوهلة الأولى أن نفكر في أن شيئا آخر يحدث في العالم، في هذه اللحظة، سوى ما يدعونا الشاعر للإنصات اليه أو رؤيته أو الالتفات إليه.وفي تركيبه لتلك العلاقات التي تعكس همّاً حقيقيا بالآخر، أيا يكن لونه أو جنسه أو طبقته، ينطلق الشاعر دائما من لمسته الذاتية، وفكرته، وإحساسه، مكوّنا باستمرار، علاقة تناغم مدهشة بين الأنا والاخر، وتقريبا على مدى نصوص هذا الديوان؛ الذي لا يمكن أن تغني عن قراءته أي محاولات للتفسير أو التوضيح؛ بسبب التعدد الدلالي الواسع للقصائد، الذي يمكن أن يختلف من قارئ الى آخر وفقا لثقافته وذوقه.تستجيب الذات الفردية هنا للأسئلة الإنسانية، عن مأساة الأخت - الأنثى في مجتمع ذكوري قامع وقاتل، وعن تواصل الأجيال، وعلاقة المعرفة الذهنية بالمعرفة الحياتية في علاقة الإبن بالأم، وما يتضمنه ذلك من أسئلة وجودية عمن يمنح الوجود، ومن يحاول إدراك معناه، وعن حياة البسطاء، والمعوقين، وغير ذلك. لكنها كلها لا تتوقف عند المستوى العاطفي الدرامي، وإنما تنسجه بحلى شعرية قوامها الصور الجديدة، واللعب، كما يفعل مثلا في قصيدة "حقل".أما الذاتية فليست مغلقة على نفسها كما شأن غالبية ما دوّنه الشعراء في القصيدة الحديثة العربية، بل يستبدلها يماني بذاتية مستندة الى الآخر، في تلمسها لعزلتها او حتى في رثائها لعلاقة حب ضائع واصبح رمادا.في قصيدة "الحبال" يقول الشاعر: "في قاع النهر/ الجاف/ تحت جسر العذراء/ أجلس وحيدا/ بالأعلى يقف أصدقائي/ يلقون إليَّ حبلا مجدولا/ اصدقائي يتماسكون/ ويلقون الحبل/ اتشبث جيدا واصعد/ في ربع المسافة يطفر الدم/ من اصابعي/ فألوّث الحبال/ اصدقائي لا يحبون الدماء/ اصدقائي يفلتون الحبل/ ويمضون آسفين/ يدي اليمنى/ تلطخ الدرابزين الحجري/ في طريقي من قاع النهر الى الجسر/ حيث لا اعرف احدا في هذا الليل".من قصيدة "سماد" نستلّ المقطع الآتي: "في برطمان زجاجي علّقته بداخل خزانة المطبخ كنت قد حرقت حبي وجمعت رماده. في نهاية الأسبوع أرّشُ منه على نباتاتي فأراها تهتز. في اليوم التالي تنتعش قليلا ثم لا تلبث أن تموت تاركة صفارا محروقا في كل أصيص. آخذ الصفار وألقيه بعيدا وأوشوش للنباتات أن تنسى الأمر برمته".تتحرك القصائد بين مشاهد اليومي في ثقافة غربية يعايشها الشاعر، وبين ذكريات بعيدة، تلتقط لحظات من الماضي البعيد: لحظات الحب المسروقة، صورة الأب، أو أيام المراهقة المشبوبة بالشبق والرغبة. لكنه يغزل الصور جميعا، بالصور الشعرية المدهشة التي يبرع في مزج فطريتها بثقافته، وبلمحة الأسطورة التي تبدو كإطار شفاف في خلفية القصائد كلها، مبديا قدرة كبيرة على التكثيف، وعلى بث الروح الإنسانية المتعاطفة مع شخوص اللحظات الشعرية جميعا، وعلى تثبيت اللحظة على ذروة تألقها بالشعر، كما يفعل في العديد من القصائد وبينها قصيدة "بائعة الزيت": "بينما تدخل حاملة عبواتها كنت ألحق بها على العتبة كي اضع عنها حملها رافعا العبوة الثقيلة. كنا نتقدم نحن الاثنين كتفا بكتف في اللحظة نفسها انفلتت نقطة من عبوتها الصغيرة. النقطة سقطت في منتصف المسافة بين اقدامنا المتجهة صوب المطبخ. وبينما ننزلق قبضت كفّانا احداهما على الأخرى. كانت الأرض رطبة ونظيفة والعين المفزوعة سكنت خضرتها قليلا بندى الصباح".المفارقة بين فعل الكتابة ومعنى الحياة، أنها في الحياة اليومية تتخذ موضعا كبيرا بين قصائد الديوان سواء في قصيدتي "الكتاب" و"عزيزي بورخس"، تماما كما شأن الكثير من تناقضات الواقع. نصوص اخرى في الديوان يشوبها حس ايروتيكي، لا يفقد فيها يماني قدراته على التركيب والمشهدية والمفارقة وتعدد الدلالات، كما شأنه في قصيدة "بائعة التبغ": "يدها على العلبة وقدمي خارج البيت. فجأة تعتم، وهي تواصل فرك التبغ على فخذها اللامعة. تتوقف قليلا تنقل نصف التبغ الى الفخذ الاخرى وانا ادخل في الدهليز الطويل وابدأ التدخين".هذا الديوان غني بحيث أنه يستحق أكثر من قراءة، واظنه من العلامات المهمة في القصيدة العربية الحديثة، باجتراحه منطق الصورة الشعرية على حساب اللغة الذهنية، واجتراحه عناصر من ثقافات عديدة بديلا من الانغلاق الذي وسم القصيدة المصرية المعاصرة على نحو خاص، وباقتحامه الأسطورة وإسباغ طابع من اليومي والبسيط على مفرداتها.سبق لأحمد يماني إصدار ثلاثة دواوين هي: "شوارع الأبيض والأسود" 1995، "تحت شجرة العائلة" 1998، و"وردات في الرأس" 2001.
إبراهيم فرغلي
نشرت في (النهار ) اللبنانية -- 30 سبتمبر 2009