Wednesday, August 19, 2009

أبناء الجبلاوي..جدارية تخلق أسلافها



أبناء الجبلاوي" لإبراهيم فرغلي

جــــــداريـــــــة ســـــرديـــــة تــجـــــيــــــد خـــــلـــــــــــق أســـــــلافــــهـــــا



طارق إمام


كيف يمكن الإلمام بعمل من قبيل "أبناء الجبلاوي"، رواية إبراهيم فرغلي الأخيرة، من دون إخلال لا مناص منه؟ إنها مغامرة سردية كبرى، جدارية حكي حقيقية، متسعة وشاسعة وبذخة، تجسدت في نحو من خمسمئة صفحة. مغامرة توافرت لها في ما أظن غالبية المقومات التي تحتاج اليها رواية استثنائية: فكرة مدهشة، تقوم على فرضية غير معقولة، يتكفل الأداء السردي منحها معقوليتها المبتغاة. أصوات تتناوب السرد، وتتبادل زوايا الرؤية فيه وتشتجر حوله، تهدمه وتعيد بناءه مرة تلو أخرى. أفكار مشبعة بالفلسفة وبمساءلة الوجود. فضلاً عن كل ذلك: هناك سؤال الكتابة نفسه، المدوّخ المحيّر، في تجرّده وتعرّيه. عالم لا معقول، يقدّمه ابراهيم فرغلي بحرفية، ولا تفلت منه اللعبة على رغم اتساع رقعتها وتكاثر خيوطها.المتخيل المحفوظي هو واقع هذه الرواية، وليس محفوظ نفسه، الواقعي أو الأقرب الى الواقعي، الذي يملك أكثرنا تصوراً مقبولا عنه، وخصوصاً أنه كان بيننا إلى وقت قريب. على جانب آخر، فإن ما فوق المتخيل نفسه حاضرٌ، بالنسبة الى الذوات الروائية في "أبناء الجبلاوي". قانون لعبة الرواية يحاك أمامك مرة تلو أخرى، كأنك ترى الرواية أو سيرتها لحظة صنعها. تتجاور الذوات الفنية في لحظة، كونها من أصل واحد. يلتقي كبرياء برادوبيس، ابنة سلالته في الفن الروائي، بينما لا يلتقي كاتب الكاشف مثلاً بمحفوظ، على رغم أنه ابن سلالته في سياق صنّاع الفن ذاته! تلتقي هذه الذوات وفق واقع الرواية، و شروط الخيال، فكلها شخصيات من ورق. تدهشك كمتلقٍّ، كأنها يجب ألا تلتقي، وكأنها تحولت كائنات واقعية بشروط الواقع المحدودة ونسبيته المتفق عليها!لنجرّب العبور إلى هذه الرواية عبر عتبة أولية، هي الصفة النوعية التي رآها إبراهيم فرغلي الأنسب لتدل على عمله: سيرة رواية. نحن إذاً حيال سرد على سرد، لاحق يستحضر سالفاً. بهذا المنطق، فإن "أبناء الجبلاوي" تنتمي الى "ميتا فيكشن".إذا اتفقنا أن سيرة شخص هي حياته بعد نهايتها، عقب اكتمالها، فإن سيرة روايةٍ ما تكون حياة لرواية انتهت بالفعل، تمت واكتملت بحياتها وفنائها. فهل "أبناء الجبلاوي" حكيٌ يستحضر نصاً غائباً، اكتملت حياته قبل ذلك وتستعاد الآن؟ بشكل ما، أرى أن الإجابة هي نعم. فهذه سيرة رواية، حكي متحقق على حكي متحقق قبلاً، ربما يكون حكي محفوظ وسيرة شخوصه. وربما يكون حكياً ما، أتمّه فرغلي نفسه وشاء أن يسرد سيرته. "أبناء الجبلاوي" سيرة تسرد حياة رواية أسبق، بقدر ما هي رواية آنية، تحققت تواً. تحوّل الرواية الواقع الافتراضي، ممثلاً في كتب نجيب محفوظ وشخصياته الروائية، واقعاً حقيقياً. في الوقت نفسه، تحوّل ما يفترض أنه الواقع، بمنطق المحاكاة، إلى فرضية. تتجسد شخصيات محفوظ في النص، ويصير حضورها أقوى من حضور كبرياء ونجوى وجيسيكا وكاتب الكاشف وكل الشخصيات التي تمثل واقع هذا النص، حتى وإن اعترفنا بأنه افتراضي بدوره. لعبة صعبة، مركبة، ومجهدة: أن يتنامى الوهم ويتعملق في رواية، ليصير حقيقة. في المقابل، تخفت الحقيقة فاقدةً عنصر حياتها الوحيد: الصدقية.لعبة معقدة، يديرها أداء سردي لا يقل تعقيداً. أربعة أجزاء، مقسمة بدورها أقساماً ووحدات مرقمة تصل إلى 83 وحدة. لست في حاجة إلى أن أقول، إن محاولة تلخيص عمل مثل "أبناء الجبلاوي" ضرب من الانتحار. ليس فقط للثراء الشديد في الحوادث، لكن أيضاً لأن كل صوت يتولى السرد، متسلماً إياه من سابقه، فيعيد كتابة مجمل الوقائع ويضيف إليها ما يختلف عنها.يسرد كبرياء شطراً، نتعرف فيه بشكل أساسي الى طبيعة علاقة غرائبية تربطه برفيق فهمي، نزيل دار المسنين، الذي يتولى كبرياء كتابة مذكراته، والذي نعرف أنه منحه اسمه بعد قصة تيتّم غريبة. وكذلك فإن علاقته بنجوى حبيبته غريبة الاطوار. في القسم نفسه نعرف طبيعة عمل كبرياء، وتنطلق واقعة اختفاء كتب محفوظ. إنه قسم تأسيسي، ينتقل بعده السرد الى راو غرائبي، هو قرين كبرياء، يتقدم بالسرد الى الأمام، لتتسلمه منه قرينة نجوى. قبل أن نتعرف الى شيطان كتابة غرائبي يحيل على كاتب الكاشف، مؤلف الرواية التي يفترض أن كبرياء بطلها. إنها لعبة سرد مدوخة. تيه من الأشخاص وأطياف الأشخاص تتبادل المواقع. رواية تُكتب في كل مرة من جديد، بعد أن يسطو عليها في كل مرة راو مختلف، لنكتشف في النهاية أننا، وبقدر ما نحن أمام رواية متعدية لجسدها، ومتجاوزة حتى لشروط وجودها، إننا في الوقت نفسه، أمام رواية لم تكتب بعد.إن تسليم الحكي وتسلّمه يبدو إحدى المغامرات الجوهرية في هذه الجدارية، ويبدو فعلاً لصيقاً بفكرة السلطة. يؤكد قرين كبرياء: "قراري هذا يبدو مشبوهاً باغتصاب سلطة ليست من حقي، هي هنا سلطة السرد، وهذا صحيح إلى حد ما. لكني، بأمانة، لا أعتبر نفسي مغتصباً لسلطة، أي أن المسألة لم يسبقها صراع بيني وبين صاحب حق السرد الأصلي. كما أنني لم أقم بانقلاب ثوري لانتزاع هذه السلطة. تم ذلك بشكل، أظنه، أقرب ما يكون لانتقال سلمي للسلطة" (ص 89، 90). ثم يحصل انتقال آخر للسلطة: ليدي قرينة نجوى، التي، لا تنقض فقط صور قرين كبرياء للسلطة، بل تنقض ما شيّده من سرد: "لن أعتذر عما فعلت، فبصفتي قرينة نجوى كان عليّ أن أتسلم ناصية السرد من قرين كبرياء، ولن أستخدم كلمات كبيرة كالتي يستخدمها هو مثل انتقال سلطة السرد، والاستيلاء عليه، وغير تلك المعاني الكبيرة. كنت أستمع إلى مغالطاته، وأكتم غيظي، على أمل أن يعود إلى صوابه" (ص 135). ثم يجيء شيطان كتابة لينقض بدوره كل السابق. بعدها ننتقل من جديد الى حكاية كبرياء في مسار يشبه المسار الذي بدأت عليه، عبر راو، يديره كاتب الكاشف.تأكيد الانتقال السلمي من راو الى آخر، إنما هو في الحقيقة تأكيد لاحتمالية الفرضية النقيضة: ألا ينتقل السرد إلا بإراقة الدماء، وبانقلاب غير مأمون العواقب. ديموقراطية السرد، تحضر هنا، ممثلةً في تناوب السلطة، في مقابل ديكتاتورياته الكثيرة، وإقطاعياته المعدّة سلفاً.نحن أيضاً أمام "ألف ليلة وليلة" بامتياز، وهي نفسها نص كبير يتضمن تناصاً مع محفوظ في أعمال عدة. أحدها "ليالي ألف ليلة". هي الحكاية الإطار، التي على رغم وجودها الأولي الكثيف، وحلولها في الصدارة، ليست إلا تهيئة لسرد آتٍ من رحمها، يعود إليها في كل مرة، فقط لالتقاط الأنفاس، قبل أن يواصل توالده الذاتي. هذا بالضبط ما تقدمه قصة كبرياء المبتسرة التي تفتتح العمل، لتسمح لبقية الأصوات بالظهور، وإعادة سرد الحكاية، أو التعريج على حكايات أخرى. نعود الى كبرياء ونجوى، ورفيق، لنغادرهم.

وكلما ابتعد الإطار، اشتد وجود الحكاية الكبرى التي لا تُصدَّق والتي تتحلق حول اختفاء كتب محفوظ، بالتزامن مع ظهور شخصياته، متجسدة.لنتأمل هذا الخيط قليلاً. تختفي روايات محفوظ لتظهر شخصياته. تتحول الشخصيات الخيالية إلى شخصيات واقعية، عندما يختفي الدليل الوحيد على كونها شخصيات تنتمي فقط الى المخيلة. وكلما تغلغل خبر اختفاء الأعمال، وصار أكثر قابلية للتصديق - على استحالة ذلك - ظهرت شخصيات جديدة، ومضت في الشوارع، مستعيرة من الذوات الإنسانية وجودها البشري. في المقابل، كلما اختفى الرواة، وكذلك كاتب الكاشف، توهج وجود أبطالهم: كبرياء ونجوى. الخ. وكلما زاد حضورهم، وحضرت سطوتهم، خفتت شخصياتهم، بل اختفت. إنها إيديولوجيا لا يمكن في ظني العبور فوقها من دون تأمل. ايديولوجيا تتسق وكلام المؤلف الواقعي إبراهيم فرغلي، الذي وضعه كتعقيب في نهاية العمل: إنه كاتب الفلسفة المتكئة على شخصيات تسير بها وتطوف. الفلسفة التي تتكئ على شخصياتها، أي أنها أسبق، وليس العكس. إذا اختفت الفلسفة، والفنيات، تعود الشخصيات الى واقعيتها، تفقد فنيتها، وكثافتها، لتتمتع بعادية الشخصية الواقعية، ومن ثم حتمية فنائها.ثمة توازٍ هنا، بين مفارقة كتب محفوظ وشخوصه، ومفارقة رواية كاتب الكاشف وشخوصه. يتهيأ للقارئ أن الشخصيات - كما لو في سياق كارتوني - هربت من الكتب لتتنزه. يحضر بالفعل السيد أحمد عبد الجواد ورادوبيس، في علاقات مع كبرياء، وتحضر شخصيات أخرى لتنضم الى رواية أخرى، هي الرواية التي نقرأها الآن، كاللاعب الذي يقبل بإعارته الى ناد بعدما فقد ناديه فجأة! المعمار - وهو هنا هائل متشعب - يشبه المتاهة. كل الطرق تصلح للدخول والخروج. وهو يتسق مع التعددية الصوتية، والمفارقة بين الماثل والخفي. ثمة نقض - في البنية المجردة للرواية - للمركز الذي تنجذب نحوه الأطراف وتلتئم في مداره.إن سؤالاً جوهرياً يكمن هنا: أي نواة صلبة ثابتة يمكن أن يدور في فلكها النص؟ هنا، نواجه نصا تفكيكياً بامتياز، حيث لا دوال تحيل على عالم جاهز وراءها، ولا شخوص يمكن فضها وتلخيص أدوارها. إنها من جديد سيرة الرواية، الأبعد من الرواية كشفرة موقتة ينتهي فضها دلالياً بالانتهاء من تلقيها. سيرة الرواية، هي اجتهاد لقراءة الرواية عبر الكتابة، ليبقى الاحتمال قائماً لكتابات لا منتهية. بتعدد الرواة، تتعدد المراكز. الرواة أنفسهم يتألبون على طبيعة الراوي المتفق عليها، فعدد منهم وجوده شبحي، ميتافيزيقي في الأساس. يتجاور الراوي مع الراوي غير القابل للوجود المتجسد. فقط، قد نتمكن من تحديد ماهية المؤلف الضمني، الذي يستعيد الوهم المحفوظي كواقع جديد. هذه البوليفونية من الأصوات الساردة، لا تختلف فقط في وجهات النظر، بل في طبيعتها من فيزيقي الى ماورائي. وهي تجربة أظنها الأولى في الرواية العربية. إنه معمار، لبنته مواد متنافرة ظاهرياً، غير أنها تقوم معاً بمنطق التوليف الذي يجعل الفصل بينها في النهاية، مستحيلاً.الزمن سؤال آخر. زمن السرد في تقطعاته غير المنتهية، وزمن الواقع. هناك زمن الرواية الذي يتقطع، وفق نسبية الرواة، بحيث نتأمل اللحظة نفسها من وجهات نظر متعددة. هناك أيضاً زمن الحكاية الموازية، التي تخص اختفاء أعمال محفوظ، وهو أشد سيولة في تحققه المضطرد. إنه لعب شديد الصعوبة بالزمن، من خلال التعامل بأكثر من منطق حيال زمنية نص، والتمكن من فصل وقائعه للتعامل مع كل منها وفق تقنية زمنية مستقلة. وهو أحد وجوه إدهاش "أبناء الجبلاوي" وفرادتها.لا يقف طموح الرواية عند هذا الحد، فهي تبدو، في رهان فني آخر شديد الجموح، عصية حتى على منح مزاج عام يمكّن القارئ من أن يخلق آليات ثابتة لقراءته. إنها توفّق بين الثقل والخفة، بين الدراما الأرسطية في موضع والميلودراما الهشة في موضع آخر، بين التهكم العابث المعتدّ بالخفة، والتفلسف الجاد المشدود للثقل، بين الإيهام الكامل وكسر الإيهام بكل قسوة. كل انحرافة في "أبناء الجبلاوي" تبدو صدمة جديدة غير متوقعة، وغير ممهد لها. إنها رواية تدير ظهرها بقسوة للراغب في شروط تؤسس من البداية لقراءته بالكامل. هذه الوعورة - وهو اللفظ الذي أشعر به الأنسب لوصف تضاريس الرواية - تخاصم، في ما أظن، التلقي الشعوري، كونها تستبعد الانسجام لمصلحة عدم الانسجام كخصيصة ما بعد حداثية بامتياز. في "أبناء الجبلاوي" ثمة ذهنية المعمار، ذهنية تحكم ما يبدو مرتجلاً ووليد الإلهام. حتى الانحناءات البسيطة، أو النتوءات التي تبدو غير منسجمة، هي جزء من لحمة الجسد الشاسع، ومن صنعته، ومن قلق بنيته المقصود

.
القاهرة – من طارق إمام:

النهار اللبنانية في 12 أغسطس 2009

الرذيلة المتاصلة للكاتب الشبح




"الرذيلة المتأصّلة" للكاتب الشبح توماس بينتشون


يُــســـمَـــح لــلأرض بــأن تــطـــالـــب بــقَــدَر أفــضـــل




رلى راشد (النهار اللبنانية في 7 آب اغسطس 2009- العدد23778 )و






تخثّر الزمن لدى توماس بينتشون عند صورة قضمها الاصفرار. شردت فيها هيئته نحو شبه لافت بجاك بريل، بفضل الأذنين المنفصلتين عن حجريهما، وتلك الاسنان الامامية المتقدمة اكثر من اللزوم. في الصحف الاميركية لا يمكن ايجاد سوى هذا الكليشيه للرجل الخفي. ليس من عنوان له وليس من رقم هاتف، ولا اثر يذكر لمقابلات صحافية منحها الكاتب لأحدهم. يقترب صمت بينتشون المهول من صمت ابي الهول. انه نص بلا وجه، الجميع يكاد يكرر هذا الكلام كتهويدة، وخبر اميركي هائم يلاحق دخان شائعة، يزقزق الجميع في تفاصيله الافتراضية. يطارده مصوّرو المشاهير ايضا وقافلة من المأخوذين، الى حد صار احد الأقلام التي تغذّي الندرة. لا يفرط بينتشون في النشر. كتاب كل عقد وليس اكثر، ليجعل اولئك الذين يتقيأون النص تلو النص يستبقون التململ والاستفهام. يهوى بينتشون التواري المتكرر في حركة تكاد تأتي بنتيجة مماثلة للحضور المتكرر. انعزل الاميركي الى اقصى حد، وعلى الرغم من هذا صار غرضا لعبادة شخصانية. في هذه المرحلة من مسيرته الكتابية، بات بينتشون يشبه ستانلي كيوبريك اكثر من اي كاتب آخر على قيد الحياة. على نسق السينمائي الاميركي، فإن بينتشون راء متمرد ومبتكر أعمال فنية ايقونية غير مرئية احيانا. وعلى طريقة كيوبريك ايضا الذي جرّب انواعا عدة، طوّر بينتشون هو الآخر في السنوات الاخيرة حباً لعبور الشكل الواحد. في 1997، حطّ بروايته "ماسون اند ديكسون" في اميركا الثورة، فكتبها بإنكليزية تقلّد لغة القرن الثامن عشر. وبعد صمت مديد، جاءت "الظلمة" في 2006 التي اعتبرت اشد اعماله ارباكا. انتقل فيها من الواقعية الخام الى الفانتازيا البهلوانية. جعلنا نفكر في رابليه، بالأدب الذي لا ينضب. في حين لم نشعر ان جول فيرن بعيد ايضاً، وإن تسللت بعض الطفيليات غير المحتملة الى الحكاية. غدا النص بسببها حصناً شاهقا يصعب تسلقه، يحتّم على الداخل اليه القفز فوق بعض المقاطع المختلة والهبّات الهستيرية والسقطات المتكررة بغية اكتشاف لحظات الادب العظيم. بعد ثلاث سنوات على هذا الاصدار، يمنحنا بينتشون "الرذيلة المتأصلة" في ما يشبه فعل العناد او الانحراف او التطور العقلاني، ذلك انه اكثر كتبه ودّاً للقراء. الزمن هو نهاية الستينات من القرن الماضي، اما المكان فكاليفورنيا، حيث الشخصية الاساسية دوك سبورتيلو تحرٍّ بسيط مأخوذ بالماريجوانا. انه نموذج النزوة الهيبية المديدة الشعر، الذي اخرج من غمامة المخدّر المغبطة التي تتهدد الدنيا بالسيطرة، ليبحث عن حبيبته السابقة، المختفية برفقة صديقها الراهن. تظهّر الرواية شخوص القرن العشرين الامتثالية. يستجوب سبورتيلو راكبي الامواج والغانيات والاطباء النفسانيين المشبوهين ومقامري لاس فيغاس، ليكتشف ان اختفاء صديقته السابقة على صلة بأمر مريب يحمل اسم "الناب الذهبي". نجد في "الرذيلة المتأصلة" تكريما وافرا للروايات البوليسية المتصلبة سردياً. اضافة الى الاحالات على رايمون تشاندلير وجيمس ام. كاين، تبدو الجمل متوترة، فيما توشك الفصول ان لا تنتهي متروكةً عند حوادث معلقة. بيد ان "الرذيلة المتأصلة" ليست رواية سوداء بالمعنى التام. نبرتها بالأحرى بنيّة، بلون سُحُب الماريجوانا التي تعوق الأحوال في لوس انجلس، المدينة الملبدة والملتبسة اخلاقيا. يكتب بينتشون في هذا السياق: "تنكمش الزحمة لتغدو سيولا مرتبة على نحو كبير. تومض على نحو شبحي على مر الجادات القريبة، لتختفي بسرعة وتصير المسافة بنيّة فاتحة". اما الدين الكبير الذي يدين به بينتشون في هذه الرواية فهو للسينما، ذلك ان هيكلة الرواية الحالمة والزاحفة تضعنا في مناخ شريط روبرت التمان "الوداع الطويل". سيلاحظ المتابعون المنضوون تحت لواء بينتشون، انه وعلى الرغم من التنازلات التي يبديها الكاتب ها هنا في موضوعات المقروئية، تؤتَمن الرواية على ترهات بينتشون المسجلة ولا سيما على مستوى الاسماء المريعة، من قبيل سانتشو سميلاكس وتريليوم وسواهما. في وفاء لنمط روايات بينتشون السابقة، تتعامل "الرذيلة المتأصلة" مع وقت آني وزمن على اهبة الانفطار. هناك دهم آسر على شاكلة اتحادات العمال الاشتراكيين في "الظلمة"، وعلى نسق ما يجري مع الرجال المقيمين على الحدود في "ماسون اند ديكسون"، واولئك مخدرون متعصبون وسلميّون يعودون الى ستينات القرن الماضي بغية ان يشهدوا في وقت قريب، قوى رأس المال والتغيير تقضي على جنّاتهم. هذه النزوة في مناخ الثقافة المضادة، كانت ولا تزال سمة نصوص بينتشون، كما هي حال الحنين المقنع لمستقبل لن يجري يوما، وللتحولات الجانبية التي فوّتتها الانسانية في اندفاعها نحو الحداثة. غير ان الموضوع في "الرذيلة المتأصلة" يدور حول فكاهة متهورة. يطرق احد الشخوص قائلاً: "ليس من وقت للتجنب. انه بحر الزمن، بحر الذاكرة والغفران. انها سنوات الوعود التي تلاشت ولا امل في استعادتها. انها الارض التي يكاد يسمح لها بأن تطالب بقدر افضل". على نقيض اعمال بينتشون الاخرى، تعتمر "الرذيلة المتأصلة" ادراكها بتخفف، مقحمةً اياه في حوار يمازح من دون اسراف. نسأل باستغراب: من كان ليظن أن احد اشد الكتاب الاميركيين قتامة وفطنة، قادر على انتاج اكثر قراءات الصيف طفوة على السطح؟ ليس الامر بديهيا بلا شك، غير ان الرسوم الكاريكاتورية والمبالغات التي يأتيها بينتشون، توازنها اللغة التي تصل في المقطع عينه الى مستوى مخيف من الدقة. يستطيع بينتشون افضل من الآخرين جلد الثقافة الاميركية الشعبية، وهذا يتضح عندما يترك العنان لوصف الميسر في لاس فيغاس واحدى الآلات التي حققت للتو الجائزة الكبرى. يكتب: "هرب اطفال الجحيم الى جوار جوقة الابواق العسكرية وصفارات القطارات وسيارات الاطفاء وابتهاج الملاعب الرياضية. بدأت الآلة تتقيأ، في سيل مجازي هائل، مجموعة من القطع المعدنية كل واحدة بقيمة نصف دولار وتحمل رأس جي اف كاي". لكن "الرذيلة المتأصلة"، تحت سطح هذين الخراب والتسلية، كتاب جدي وتأملي، فيما فحوى الرواية صرخة نزاع تقول ان الستينات انتزعت من امامنا ولم نحرك ساكنا. ذلك ان الامور لا تجري كلها على نحو مذهل في جنة دوك سبورتيلو. نيكسون موجود في البيت الابيض وكيسينجر يمطر آسيا بالقذائف، ورونالد ريغان حاكم لكاليفورنيا، وفي الطرق تضرب العصابات اليمينية وتقتل ناشطي الحقوق المدنية بمساندة من شرطة لوس انجلس. انها الحكاية الخلفية التي تسرد كيف تم القضاء على الثورة وكيف بات الرجال والنساء الذين اعتنقوا السلام والحب والاخوة، فارين من ارضهم المعطاء كاليفورنيا. على الرغم من كونها حيوية ومسلية، ليست "الرذيلة المتأصلة في مقدمة الكتب البوليسية. تستوي في رفوف مكتبة بينتشون المنخفضة، غير انها عتبة مناسبة ليجتازها الجيل الشاب من القراء. كان بينتشون في التسعينات من القرن العشرين، الكاتب الاميركي العظيم الذي اطلع عليه الجميع او ادّعى ذلك في الحد الادنى، قبل ان يتسلل فيليب روث رويدا الى المشهد ويتبدّى الكاتب الاميركي الضروري. صار بينتشون كالذخائر، موقّرا وغير مقروء. غير ان بينتشون يبدو اكثر حياة من روث واكثر تماسا مع حقبتنا. قيل الكثير في سخط روث خلال المرحلة الأخيرة، لكن حتى عندما يستقرّ الكاتب عند موضوعات اجتماعية او سياسية كما في "اللطخة الانسانية"، يتظهّر سريعا ان ما يزعج الكاتب في المحصلة هي محاور شخصية ونرجسية تدور في سماء تلاشي الجسد والاندثار. اما حنق بينتشون فسياسي واشد ذعرا. في اسلوب مراهِق مدهش، لا يزال مصرا على تسجيل نقاط تجاه كل رجل يلوّح بالعصا، أكان المعني هو الحكومة ام الشرطة ام رونالد ريغان. يتراءى دخول نص بينتشون كطقسية استشكاف المغاور الوعرة، ينال منا التيه ونتبلل، غير ان كلاً منا لا مفر من ان يمسك بمصباح ليجد مخرجه الخاص. يوفر بينتشون في نصوصه كل شيء تقريبا، يجيء بالنظرية الكالفينية غير الملتزمة والتاريخ العائلي والتاريخ فحسب الذي يتتبعه وكأنه مدنّسه النهم، مازجا الماضي والمستقبل ومزيّنا النبوءات الاشد قتامة بقشرة تبادل مبتهج. اما ماضيه الشخصي فحكاية اخرى. في احدى مجموعاته بعنوان "القصص المبكرة"، انقلب بينتشون على التقشف الذي امتهنه، مقدّما لحكايته من طريق نص ينفلش على عشرين صفحة، يترك العنان لنفسه لمعاينة جيله. يقول: "لم يكن ثمة خيارات اساسية باقية لنتخذها. كنا متفرجين. كان العرض قد مرّ وبدأنا نتلقف كل الامور مستعملة. صرنا مستهلكين لما كانت وسائل الاعلام تزودنا إياه يومذاك". كان هذا الجيل يتلقى يأس كافكا وعذاب كونراد وكأنهما من السلع التجارية، لكن الجميل في بينتشون انه لم يستسلم ولم يصر حطّابا يقطع كل ما يحوطه، على الرغم من كونه على بيّنة من هذا الواقع. لم يبحث عن الفانتازيا والتجربة الكتابية كضمادة للصدأ. كتب بالموارد التي امتلكها الكتّاب دوما وتلك التي لم يستخدموها: الذاكرة والتخييل والفضول، اي كل ما يتطلبه بلوغ مخزون المعرفة المتراكم. تتطلب ملاحقة لغز بينتشون الاستناد الى ركائز يسيرة. الولادة في لونغ ايلاند في 1937 اولا ثم المسار العلمي الناجح في الثانوية، وامتلاكه ماكينة طباعة ودراسة الهندسة في جامعة كورنيل، يليها التطوع لعامين في البحرية الاميركية في خضم ازمة قناة السويس. يأتي بعدذاك الالتحاق بكلية الاداب ومتابعة الحصص مع استاذ بإسم نابوكوف ربما. يرد لاحقا العمل لفترة لدى شركة "بوينغ" في سياتل حيث يدوّن الملاحظات التقنية، بالتزامن مع وضع باكورته "اف" (الحرف الانكليزي وليس حرف الجر) التي ينال عنها جائزة "مؤسسة وليم فولكنر" التي تدفعه الى التواري صوب كاليفورنيا، وابعد الى المكسيك. يضع كتابه الأشهر "جاذبية قوس القزح" في حقبة الثورة الهيبية، ويخصص في حزيران من عام 1966 مقالا في "نيويورك تايمس ماغازين" للحديث عن تبعات اعمال الشغب العنصرية في سان فرنسيسكو. يدّعي في رسالة يبعث بها الى أحد الناشرين ان عمله التخييلي "سيشكل الحدث الادبي في الالفية"، قبل ان يذيّل توقيعه عريضة تناهض حرب فيتنام. يرفض الذهاب لتلقي "ناشيونال بوك اوارد" في 1974، ويرسل نيابة عنه الكوميدي ايرفين كوراي. يتزوج في 1990 من وكيلته الادبية ميلاني جاكسون، ويقيم انذاك في نيويورك حيث يتعقبه فريق من "سي ان ان" قبل ان يحظر على الشبكة التلفزيونية بث صوره، فيما يظهر في 2004 من دون الحاجة الى اذنه وعلى نحو فكاهي شخصية كرتونية في "ذي سيمبسونز" واضعا كيسا ورقيا على وجهه. يجعل بينتشون التكتم لافتة وقانوناً. بقدر اقتضاب سيرة بينتشون، فإن اعماله تثرثر على نحو عبقري، على الرغم من قلتها. من طريق القصة والروايات، يجيء بعمل مركّب ووافر وعملاق الى درجة انه يقترب من برج بابل والانترنت وشلالات نياغارا احيانا. يصطاد بينتشون اوهامه في كل الاتجاهات، من خلال ابتكار نوع جديد: ادب الانهاك. يقيم اتحادا بين الجاسوسية والنمط البوليسي والرواية التاريخية، بل وبين التقليد والسخرية والفولكلور الشعبي وعلم الاجتماع. يترنّح بين الدعابات وتكريم الروك والثقافة الكاليفورنية المضادة. ويكلّل الخليطَ الهجين هذا طوفٌ من الدلالات العلمية المشذبة، في علوم الفضاء والرياضيات والفيزياء وسواها. في سلالة توماس بينتشون، ابتكر كتّاب عديدون أشكالا متغيّرة مشبعة بالتكنولوجيا، اما الهدف فالحديث عن اميركا المقبلة وغير المألوفة. في "الذات غير المسؤولة: في شأن الضحك والرواية" ألصق الناقد جيمس وود بينتشون مصطلح "الواقعية الهستيرية" الذي يشير الى قابلية قلمه لتطوير روايات عظيمة تمر بها الاستطرادات في شأن موضوعات لا تمت الى القصة - العمود الفقري بصلة. هذا الحكم المسنّن الذي يمكن مطّه الى ميلفيل ونابوكوف، كما الى كورت فونغات وجوزف هيلير او دون ديليلو، يكفي لبرهنة هشاشته. غير انه يبقى للكاتب الافضلية في الاشارة الى معادلة مثيرة للاهتمام. لم يعد في متناول اولئك الكتّاب الاميركيين الذين يواظبون على احراج اميركا بكاملها وتاريخها الموجز وحيويتها المتطرفة وعبوديتها للصورة والمال، سلاحٌ سوى المغالاة والحنق. تخطّ كل روايات بينتشون خطا فاصلا بين الأحياء المنسيين والسعداء والاموات الطغاة والمنحرفين والنازيين والنيكسونيين (تيمنا بنيكسون)، لكنها تتمحص ايضا الوقفات والافتتانات المتبادلة بين الاطراف المتواجهين، فضلا عن الترنحات والانقلابات في التحالف، كما مع انضواء العلماء النازيين المتخيل تحت سلطة الاميركيين. في حكاياته التماسيح تتجول في مجارير نيويورك، فيما تأتي التخييلات العصرية والحكايات المدينية لتصلح تصميم مكائده. لكن وفي الموازاة، لا نجد في رواياته مقطعا واحدا للتدليل على فيض العالم السري السفلي وأوهامه، والذي يترك بصمته على جسم الارض. الخطأ الى آخر تحصيناته، هذا هو اسلوب بينتشون. انه من قافلة روائيين يظنون أنه ينبغي للكتاب ان يتضمّن على نحو مثالي كل ما من يمكن المرء ان يحسه، وكل ما يدور في متاهاته. كتبه حاضرة دوما. انها تحفة في اسطرتها، وهي قصص غفران وتدهور روحاني الى اسفل الدرك. لا يركّز بينتشون على اي ايمان. على نقيض ذلك، يلقّن قراءه التشكيك والتدمير. بينتشون من الملتزمين رأيا واحدا فحسب، هذا الذي يقوله برتراند راسيل بأن مشكلة هذا العالم في ان الاغبياء واثقون اما العقلاء فمتخمون بالشكوك!