Wednesday, January 28, 2009

خيانة الرواية



القانون الفرنسي لصنع الله ابراهيم
فن خــيانة الروايـــة




لماذا انفلت عيار السؤال السياسي وتغلب على السؤال الفني؟ هذا سؤال واحد من بين مجموعة اسئلة راودتني في اثناء قراءة رواية "القانون الفرنسي" لصنع الله ابراهيم والصادرة أخيرا عن دار المستقبل العربي في القاهرة.
هذا السؤال في الواقع هو أكثر الصيغ برودا، واقلها استنكارا لما دار بذهني عبر القراءة. فبالنسبة لي كانت نصوص صنع الله ابراهيم منذ "تلك الرائحة" و"نجمة أغسطس"، وعبورا على "اللجنة"، "بيروت بيروت" و"ذات"، ومرورا بـ"وردة"، ووصولا إلى "التلصص"هي تلك النصوص القادرة دائما على صناعة الدهشة، والتي عادة ما تتضمن مفاجاة ما في البناء الروائي، وربما أيضا، مفاجأة ما في الأحداث وتصاعدها.
كان كل نص من نصوص صنع الله ابراهيم، بالنسبة لي، يبدو بمثابة مغامرة فنية، وحدث أدبي، ومحاولة للغوص في أعماق النفس البشرية، وتداعياتها، عبر قراءة غير مباشرة للسياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تؤثر على مسار شخصيات الحدث، ومساحة لطرح أسئلة غير مطروقة عن المسكوت عنه، فيما يتعلق بالجنس، أو العلاقات بين الجنسين، وعن السيكلوجية العميقة لنفسية الأنثى، بالإضافة إلى أنه تبنى خطابا روائيا إنسانيا، وليس ذكوريا، كما يشيع في النص الأدبي العربي، دون أن يعدم ذلك الحس الذي يعكس شغف الكاتب بتتبع الأجيال الجديدة، وحركيتها، عبر تفاصيل دقيقة تتناثر في ارجاء تلك النصوص.
لكنني منذ رواية "أمريكانلي"، ثم "العمامة والقبعة" شعرت بانحسار طموح صنع الله الفني لصالح أسئلة مباشرة، آنية، تصلح للتقارير الصحفية، والتحليلات السياسية، أكثر بكثير من أن تعبر عن مشروع فني لكاتب عرف بطموحاته الفنية المغايرة بين كتابات أبناء جيله المعروف بجيل الستينات.
والآن، بهذا النص، يبدو صنع الله ابراهيم كأنه يتعمد الارتداد عن طموحاته الحداثية في الإبداع الأدبي، إلى نص كلاسيكي مباشر، كأنه يعبر، أدبيا، عن الردة التي يعيشها المجتمع المصري، والمناخ العربي العام، بتقديم نص يوائم هذا النكوص الذي طال كل شيء، فلماذا سينجو الأدب؟
في "القانون الفرنسي" يعود الدكتور شكري، أستاذ التاريخ، الراوي وبطل رواية "امريكانلي"، في رحلة أخرى، إلى فرنسا هذه المرة، لكن شتان الفارق بين شخصية شكري في النصين، فبينما بدا في الأولى حيويا، قادرا على التقاط كل التفاصيل من حوله، بحيث نقل لنا الجو الأمريكي، ووصف الشوارع، وجغرافية المكان، وملامح المارة والعابرين، بشكل دقيق، بالإضافة إلى الشخصيات، فإنه، الدكتور شكري، في هذا النص بدا ذاهلا، إن لم يكن أعمى.
يبدو الدكتور شكري هنا، وهو ينقل تفاصيل دعوته للمحاضرة في مؤتمر فرنسي في مدينة بواتييه، مثل شخص تعرض لأزمة نفسية عميقة، جعلته ذاهلا عما حوله لصالح مونولوج داخلي صاخب، تعتمل بسببه الأفكار والأسئلة واستعادة المواقف والذكريات في عقله، دون أن يملك السيطرة عليها.
الوصف للأماكن والحانات والمطاعم شاحب، بلا تفاصيل، والأهم أنه وصف يتم بلا شغف، كانه واجب ثقيل، يطعمها بذكر أسماء الأماكن ومحطات القطار والفنادقو الوجبات الفرنسية، بلا وصف أو تعليق.
صحيح أن شكري بدا مكتئبا، سواء من مقارنته لنظافة المدينة بالمدينة التي ينتمي إليها، أو بإشارته إلى الأدوية التي يتناولها وبينها مضادات الاكتئاب.
لكني لا أظنه مسؤولا عن ثغرات النص وسلبياته، بقدر ما هي مسؤولية الكاتب، الذي لم يكتف بهذا الاستسهال، وإنما اقترف واحدة من أردأ أنساق الكتابة الأدبية، والتي تعتمد على تلبيس أفكار كبيرة تتضمن تناولا لقضايا كبرى، سياسية وتاريخية لأشخاص، لا مبرر لالتقائهم، أدبيا، سوى التجمع في مؤتمر.
ويبدو أن الكاتب انتبه لذلك، ولقصور اهتمامه ببناء الشخصيات فأحالنا مباشرة إلى "أمريكانلي"، كأنه بذلك يخلص نفسه من مسؤوليته تجاه نصه، بالعودة إلى نص سبق له أن أودع فيه كل الخصائص النفسية للشخصية وتطورها العاطفي والمهني، بحيث يتفرغ هنا لمهمته "السياسية" المحضة، بتناول نقاش مبالغ فيه حول مدى تأثير المستَعمِر في ثقافة المستعمَر، وجدل طويل حول دور الحملة الفرنسية على مصر، وهل كانت دمارا كلها أم أنها أسهمت في التأثير الحضاري على مصر.
التوثيق الذي اعتمده صنع الله ابراهيم كواحد من خصائص عمارته الفنية لأعماله الأدبية، واستخدمه بأشكال عديدة، تراوحت براعة توظيفه فنيا من نص لآخر، يبدو هنا معدوما، أو بالأدق؛ يسير على نهج الاستسهال الذي يعتمده صنع الله في النص، إذ يحيلنا على نص آخر تماما، هو "أمريكانلي"، بالإضافة إلى إحالة القاريء على نص "العمامة والقبعة" باستخدامه كوثيقة هي مخطوط قديم يستخدمه شكري في الندوة ويقول أنه يرغب في ترجمته للفرنسية ، وعنه يقول:"تنبع أهمية المخطوطة من أن مؤلفها يذكر الكثير من تفاصيل الحياة اليومية. ومنها تبرز صورة للبلد مختلفة عن الصورة التقليدية التي نشأنا عليها. فقد أجمع المؤرخون السابقون على ان مصر كانت بلدا يسوده الظلام وجلب اليه بونابرت الحضارة. لكن المخطوطة ترينا كيف كانت مصر في ذلك الحين محتكة بالعالم من خلال التجارة الدولية وأنها كانت تموج بالتيارات وعلى شفا تغيير جذري أحبطته الحملة".
ثم يحيلنا لاحقا على كتاب آخر هو "الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير" للدكتورة ليلى عنان. وهي اشارة تتخلل تلخيص الدكتور شكري لمحاضرات ندوة يشير اليها المؤلف باعتبارها تخييلية لم تحدث واعطاها اسم "بونابرت في مصر، اضواء عربية جديدة".
لكن الطابع التقريري للمحاضرات بدا أنه مقتبس من نقاشات أو كتابات حول الموضوع، وهو ما اشارت إليه الدكتورة ليلى عنان في توضيح نشرته صحيفة البديل المصرية قالت فيه أن الأفكار بين المحاضرين هي من لب الكتاب، لم يبذل فيها المؤلف جهدا، بينما هي نتيجة استغراقها هي في البحث لمدة 15 عاما.
اما صنع الله ابراهيم فقد عقب على اتهام ليلى عنان بأنه رد الأشياء لأصحابها بذكر كتابها كمرجع في الكتاب.
وأيا كان الأمر فهو دليل على الدرك الذي يسير فيه هذا النص بالسقوط في بحيرة الواقعية التسجيلية، بدون أي مبررات فنية أو روائية، خاصة وأن النص يفيض بوقائع عديدة بينها أرقام عن أعداد المعتقلين في السجون المصرية، وحجم الديون والتلوث والمرض وغيرها، في حوار عابر يجمع الدكتور شكري بمثقف عراقي على مقهى.
أكد صنع الله ابراهيم في أكثر من موضع وبينها حوار نشر في ملحق النهار أجريته معه قبل سنوات، أنه لا يهتم بان تعيش رواياته خمسين عاما أخرى، وأنه لا يهتم سوى بالواقع الراهن والجمهور الراهن، وهذا شانه على أي حال.
لكن منطق الأمور لا يسير على هذا النحو، لأن تاريخ الرواية الذي نهل منه صنع الله نفسه وقاده إلى دروب التجريب والمغامرة والتخييل، كانت جميعا نصوصا حداثية سباقة بمنطق عصرها، من دون كيشوت، مرورا بكتاب المغامرات البوليسية الذين عشقهم صنع الله نفسه، ووصولا لكتاب العصر الراهن من كبار الروائيين في الغرب والشرق على السواء.
أما ما فعله صنع الله بهذا النص فهو خيانة الرواية بامتياز من حيث هي نص ادبي تخييلي فلسفي، يرسم واقعا موازيا، إن لم يرغب في أن يعلو على الواقع بالخيال، لا أن ينقله، أو أن يسجله كما هو.
يختار صنع الله عام 2005 زمنا لوقائع روايته، لتزامن تلك الفترة مع ثورة الضواحي في باريس ثم في ارجاء فرنسا، وهو اختيار آخر لافت لمباشرته، خاصة وأن تناوله أيضا تم بشكل تقريري عابر بلا تفاصيل تبرر أن تكون أحداث هذا النص كلها قد تمت في فرنسا من الأساس، وكأن اختيار هذا المبرر يكفي.
المدهش أن الفكرة الختامية لهذا التقرير الروائي هو مفارقة أن القانون الفرنسي يتضمن بين بنوده أن يتم نقل الثقافة الفرنسية إلى المناطق التي كانت تحتلها فرنسا، وان ذلك اقسى أنواع الاحتلال لأنها تهدف لطمس هوية الشعوب التي تتعرض للاحتلال.
لكن النص لا يتعرض على الاطلاق لفكرة جوهرية حول مدى استخدام السلطة للمثقفين في هذا الغرض، وعلاقة المثقفين الفرنسيين بالسلطة كجانب مهم في مناقشة فكرة هذا القانون، كما أن الفكرة نفسها تمت بالمباشرة ذاتها، حتى أنه أورد نص القانون في هامش.
ما الذي يضيفه هذا النص إلى النص الروائي العربي المعاصر؟ إجابتي هي لا شيء، هذا ضجيج بلا طحن، وتقرير روائي حمل تعريفا خاطئا بكونه رواية.

ابراهيم فرغلي

عن النهارفي 26 يناير 2009