Wednesday, April 30, 2008

حين يغلب السياسي على الفني


العمامة والقبعة لصنع الله إبراهيم

حين يغلب السياسي على الفني


“العمامة والقبعة”؟! قلّبت هاتين الكلمتين مندهشاً مفكرا في إحالاتهما البديهية، إثر معرفتي بصدور رواية جديدة لصنع الله إبراهيم تحمل هذا العنوان. لم يكن مصدر دهشتي أن اسم الرواية يختلف عن السمة العامة لروايات إبراهيم التي عادةً ما كانت تتكون من كلمة واحدة، مع بعض الاستثناءات، وإنما لـ”شبهة” الرمزية الفجة التي تطل من عنوان كهذا. لم أستبق الأمر، بل انتظرت حتى حصلت على الرواية، ثم قرأتها، وصدق حدسي!
الرواية في ظني صادمة، ليس لموضوعها، أو لقالبها السردي، أو لرمزيتها فحسب، وإنما لكونها تعكس “أزمة” كاتب، إن لم تكن أزمة جيل كامل، في إجابته عن أسئلته الجمالية والموضوعية. قبل أن أتعرض لتلك “الأزمة”، أشير أولا إلى موضوع الرواية الذي يدور في فترة وصول حملة نابوليون بونابرت الفرنسية إلى مصر، أي بين تموز 1798 وتموز 1801 مع خروجها من مصر. الراوي الرئيسي للرواية هو تلميذ للجبرتي، تعلم عليه، وقرر أن يواصل مسيرته في التأريخ تأريخا موازيا للحملة، على طريقة أستاذه، مع اختلاف رئيسي، يتمثل في أنه لا يلتزم العام فقط، وإنما يضيف الى يومياته الوقائع الشخصية، بما فيها علاقاته العاطفية والجنسية، مع الإماء، ومع بولين فوريه عشيقة بونابرت، والتي طلقت زوجها الضابط الفرنسي، لكي تصبح خليلة للقائد الفرنسي.
على رغم أن اللغة التي يستخدمها صنع الله إبراهيم في هذه الرواية تتكئ على اللغة التي كانت سائدة في حوليات ذلك العصر، فإنه ينجح في أن يسبغ عليها طابعه الخاص، ممثلا في الجملة التقريرية المتقشفة، المحايدة، مع الأخذ في الاعتبار أن لغة كتلك تحتاج الى جمل أطول كثيرا من الجمل القصيرة التي تسمت النص الحداثي لصنع الله إبراهيم منذ روايته الأولى “تلك الرائحة”، وصولا الى عمله السابق “التلصص“.
وهو ما يتداركه صنع الله محدثا مفارقة تجريبية جيدة، لكنها وحدها لا تكفي.
يعتمد الكاتب أيضا على تقنية من تقنياته الأثيرة هي اليوميات، حيث أن الرواية تتتابع في يوميات مؤرخة بالتسلسل، فتبدو كأنها يوميات الراوي، بينما لا تعدو كونها يوميات شبه تخييلية للحملة الفرنسية، تتبع الوقائع الأساسية التي تناولتها كتب مؤرخي تلك الفترة.
هذه إذاً محاولة أخرى لتدوين تغلب عليه الصبغة السياسية لفترة تاريخية مفارقة في تاريخ مصر الحديث، بشكل يتجلى فيه انتصار “السياسي” على “الروائي”، ولا بأس في ذلك، فهذه قضية شائعة لدى الكتّاب الأيديولوجيين إجمالا، وفي جيل الستينات المصري بشكل عام.
كانوا في العادة يبذلون بعض الجهد في تغليف همومهم السياسية والاجتماعية بـ”جماليات” سردية، ومغامرات فنية، وأحيانا تجريبية، وخصوصاً صنع الله إبراهيم، الذي على رغم استقراره على “التوثيق” يخفق هذه المرة، ويمتثل تماما للسياسي على حساب الروائي. هذا الامتثال يبدأ من فكرة الرواية نفسها، التي يختار لها الكاتب موضوعا تاريخيا، وهذا أول مظاهر أزمة جيل الستينات الذي يشهد الآن موجة استعادة وقائع التاريخ للبحث فيها عما يتشابه مع وقائع الحاضر الراهن التي بلغت حدا من التشوه والتشوش، ربما لم تعرفه مصر في القرن الماضي كله. ثم يتعدى الامتثال لاختيارات الكاتب من الوقائع التي تتجاور في غالبيتها العظمى، مع السرد الرسمي لتلك الفترة. حتى العلاقة الرئيسية هي علاقة بين الراوي وعشيقة بونابرت.
بمعنى أن النص، على رغم التفاصيل، ووصف وقائع أحوال المصريين آنذاك، والكثير من الخلفيات عن حياتهم اليومية، لا يقدم صورة تخييلية واقعية عن ذلك، وهو يتناقض مع الروح الواقعية التي ينتهجها الكاتب لنصه. لم نعرف ما يشعر به المصريون آنذاك بصدق، ولا يتيح لنا النص تأمل دواخلهم. حتى الإشارات إلى أسعار السلع تبدوا مقحمة كثيرا في غير موقعها. فكل ما يرد في النص هو مما ورد في الحوليات والكتب التاريخية، بلا جديد من أي نوع.
بمعنى آخر، هو نص يثير “قضية كبرى” فيتابعها عبر الشعارات الإعلامية والمدوّنات الرسمية بدلا من أن يغوص عميقا في تأثير هذه الوقائع على النفسي العميق داخل الشخصيات التي تتأثر بهذه الأحداث بشكل مباشر.
صحيح أن هناك بعض الاكتشافات، بينها كشف ازدواجية الجبرتي نفسه وتنازعه بين التحيز لإيجابيات الفرنسيين ونوازعه الوطنية، بالإضافة إلى كشف جانب مسكوت عنه في شخصية سليمان الحلبي قاتل كليبر الذي ينزع عنه النص زي الوطني الذي أهدته إياه كتب التاريخ ويلبسه رداء الإرهابي المأجور، ووصف بعض رموز الشخصيات التاريخية التي عاشت خلال تلك الفترة وتخليصها من صورتها التاريخية المهيبة ووضعها في إطارها الواقعي، وخصوصاً رجال السياسة والدين. مع ذلك يظل هذا كله في إطار حقائق التاريخ، وليس جماليات روائية. بالإضافة إلى انطباع عام تولده تفاصيل عدة تتعلق بأوضاع الأقباط في مصر في ذلك الوقت، تقول أن ذلك المجتمع لم يكن كتلة وطنية واحدة.
أزمة هذا النص، أنه يستعير زي الأدب ليشتغل بالتاريخ والسياسة، يريد أن يقول كل شيء، كأن الرواية ملزمة أن تقول “كل شيء”! وهذه هي أزمة الكاتب في هذا النص. أي أن النص شاهد على أزمة جيل يرى أن الانتكاسة بلغت مداها، ولم يعد يمتلك ما يقاتل به سوى الكتابة. وهي مفارقة مدهشة، لأن هذا الجيل الذي مارس التجريبية الى مداها، وحاول الخروج من أسر النص التقليدي المؤسس على أيدي الرواد، يبدو أنه يقع الآن في أسر الرتابة، مفتقراً الى الرغبة في الخروج عما أسسه هو.
المفارقة الأخرى أنه في حين أن نجيب محفوظ بدأ مشروعه بالرواية التاريخية، لأسباب تشبه دوافع كتّاب الستينات ممن يعودون الى الرواية التاريخية الآن، وانتهى بالانقلاب عليها، محاولاً أن يطور نفسه، من نص الى آخر، نرى كتّاب هذا الجيل يعودون الى الرواية التاريخية. فهل ثمة علاقة بين الظاهرتين، أي هل وقعت الكتابة في أزمة فراحت تدور في حلقة مفرغة تصل خاتمتها ببدايتها؟ لا إجابة يقينية هنا، لكنها ظاهرة تستحق التأمل.
إذا كانت ثمة مزايا في هذه الرواية، فهي في التشويق الذي ينجح النص في تفعيله، إذ أن اللغة الخاصة وتتابع الوقائع، وتفاصيل قصة الحب بين الراوي وبولين، تميط اللثام عن مساحة كاشفة للاختلاف الثقافي بين الجانبين. باستثناء ذلك، لا شيء خارج التوقع
إبراهيم فرغلي
نقلا عن (النهار) اللبنانية.