Sunday, April 6, 2008

ضريبة الدعائية..


فرغلي : لدي طموح في خلق خيال لا يستند إلي ألف ليلة

حوار: نائل الطوخي



من الصعب وضع إبراهيم فرغلي في إطار جيل بعينه. النقاد يصنفونه باعتباره منتميا إلي جيل التسعينيات، ولكنه ينتقد المفاهيم التي راجت يوما بوصفها مانيفستو هذا الجيل، مثل كتابة الجسد والتفاصيل اليومية. لا يدعي التخلي عن الرسائل الاجتماعية في أعماله، وهي الرسائل التي أعلن التسعينيون نبذهم لها بقوة، كما يبدو متورطا في ظواهر تنتمي كليا إلي الألفية الجديدة، مثل المدونات علي سبيل المثال. يحشد أجزاء كثيرة من روايته الصادرة مؤخرا -جنية في قارورة- بصفحات من مدونات لم تكن يوما من ضمن المصادر الأدبية لأبناء جيله، هكذا يحاول التحرك بمرونة عبر الأجيال الأدبية والإفلات من أسر الأطر النقدية الصارمة. كان لأخبار الأدب معه هذا الحوار بمناسبة صدور روايته الأخيرة


لفت نظري في الرواية أنك كثيرا ما تجعل الراوي يتحدث بأفكارك أنت عن الحب الذي لا يفرق بين الأديان. ألا تري أن هذه وسيلة رومانتيكية بعض الشيء للتعبير عن الأفكار؟


طبعا كان لهذا الأمر علاقة بأفكاري ولكنه في نفس الوقت لم يكن بعيدا عن شخصية حنين لانها أصلا نتاج الزواج بين دينين مختلفين. وبالتالي فقد كان هذا هاجسا عندها وعندما حاولت التخلص منه بدت وكأنها تعيد انتاج القصة بشكل مختلف حتي تختبرها أو تؤكدها لنفسها. بالطبع استفدت أنا من هذه الشخصية لكي أمرر عبرها أفكارا من هذا النوع ولكنني لم اشعر أنها بعيدة جدا عن المونولوج الداخلي للشخصية. ربما كان هذا أكثر مباشرة في بعض المونولوجات التي يلقيها عماد ولكنني كنت أريد أن أصور شخصا يري العالم من فوق، ويقدم نقدا للواقع المرعب الذي نعيش فيه، مع استدراك دوما يتكرر علي لسانه أن غرضه ليس الوعظ، لم أكن أريد محو أفكاره لأنها كانت تحوي نبرة إنسانية أنا مهموم بها وأعتقد أنه من المهم وجودها.


فكرة تمرير الرسائل، ألم تشكل لك هاجسا، بمعني آخر، إلي أي حد تؤثر علي الفنية الخالصة للعمل؟


أتصور أنه حتي اكثر النصوص لعبا لا يمكنها التخلي عن الرسالة. هنا تحضرني رواية -كل الأسماء- لخوزيه ساراماجو. لا يمكن تصديق ان ساراماجو لم يمرر لي خمس أو ست رسائل في هذا اللعب الخالص الذي قدمه. هو يمرر لنا فكرة عن التسامح في مشهد بسيط، موظف السجلات يلتقي بامرأة كانت علي علاقة بزوج المرأة التي يبحث عنها. تعترف له بهذا وبأن زوجها سامحها. لا يصدق هو فتقول له حكمة من نوعية سامحوا أنفسكم. هذه رسائل يتم تمريرها في العمل. قد تختلف درجة الفنية في تمرير الرسالة وقد يكون الكاتب غير متقن بعد للشكل الفني تماما لتمريرها.


من أروع الأجزاء في الرواية هو الجزء الذي تتأمل فيه حنين كيفية تغير علاقة النساء بأجسادهن خلال هذا القرن، ولكن المشكلة أن هذا كان جزءا من دراستها للماجستير، أي أنه كان بعيدا عن الحبكة الأصلية للرواية؟


هذا جزء من تفكيرها. أتذكر أن رواية -في عين الشمس- لاهداف سويف تضمنت فقرات من رسالتها للدكتوراه عن اللغة. وسوف تستمتع بقراءة هذه الاجزاء إذا أردت أن تعرف كيف عانت في الدخول إلي هويتها الجديدة، ولكنها في نفس الوقت كانت صعبة جدا. كنت أريد للقارئ أن يقرأ شيئا مثل هذا بدون بأن يشعر بأكاديميته. وهكذا شكلت المقارنة بين الصورة التي رسمها المستشرقون للغجريات وبين الكليبات الجديدة نوعا من تقريب الفكرة للناس، وبالتالي فهذا الجزء في الرواية لم يكن ابدا علي مستوي معالجة أهداف سويف التي قد تبدو بمنطقك مقحمة جدا. هي كانت بالنسبة لي مجرد حيلة لرصد تناقضات المجتمع في الوقت الراهن.


ما كان مباشرا جدا في رأيي هو موضوع الحجاب. مبررات حجاب البنات علي سبيل المثال؟


عندما تزور فرنسا اليوم سوف تفاجأ بأزمة الحجاب. لا تقنعني ان هناك فتاة تعيش في فرنسا وتزور مصر لن تهتم بهذا الموضوع. اليوم تعاني السيدات غير المحجبات من ضغط المجتمع عليهن ومطالبته لهن بالتحجب. لا استطيع تجاهل هذا من اجل فنية النص، ولا أستطيع الالتفاف علي هذا الأمر. إذا اخترت أن تتحدث عن بحث ودراسة فلن تظل تبحث عن شكل فني جدا للحكاية.


هناك أشكال متعددة من الانحراف الجنسي في الرواية، السحاق والفتشية واشتهاء الأب. ولكن انطباعي أنك لم تدخل في عمق هذه العلاقات.


إذا سألتني عن أمنيتي فسأقول لك أنني أتمني الكتابة عن الجنس (بجد). كل ما نكتبه الآن هو مجرد مزاح. اتمني أن تكون عندي الفرصة للاطاحة بالرقيب الداخلي. الناس يتصورون أنني قد أطحت به فعلا لكنني في أعماقي اعرف ان ما أقوم به ليس تناولا عميقا للجنس. أما بخصوص الفقرة التي استشهدت بها من مدونة علي الانترنت فقد اخترت صوت البنت كنوع من التحدي الفني، حتي يصدق القارئ انها امرأة. لا توجد كاتبة حتي اليوم يمكنها الحديث عن هذه المنطقة بحرية، خوفا من أن تتم الإحالة الشخصية عليها. وبالتالي ستجد أن التعامل مع الجنس يبدو من الخارج جريئا لكنه في الحقيقة تم تجميله وصبغه بالإيروتكيا وليس فيه أي عمق. اعتقدت ان المدونات قد تقدم لي هذا العمق. كانت المدونة بالنسبة لي صوت فتاة مصرية حقيقية، افتراضية لكنها موجودة، وتعبر عن نفسها بجراة وتملك ميزة عدم وجود الرقيب لانها تستعمل اسماء افتراضية. أتاح لك الاستشهاد المدونات قدرا من الحرية كنت تحتاج إليه؟نعم. انا متأكد ان المدونات سوف تحقق نقلة في الكتابة والاعلام وسوف يكون لها تأثير علي مستوي الرقابة الذاتية. وانا اعتقد ان النص هنا بتضمينه المدونات كان يقدم رسالة من هذا النوع.


رؤوف مسعد استعان بالمدونات. هل يمكن للكتابة في المستقبل أن تتأثر بالمدونات؟


لم أحب ما قام به رؤوف مسعد. كان اقتباسه من المدونات محدودا وتأثرت كتابته بكتابة المدونين غير المهتمين باللغة سواء العامية او الفصحي. سأكون بالتأكيد ضد المدونات إذا اثرت علي الاهتمام باللغة. استعانتي بالتدوين في روايتي كان بغرض توضيح أن هناك من يستطيعون تخطي السقف الاعلامي، وهؤلاء يتواجد صوتهم من خلال المدونات، ولكن لم يكن له هدف فني. فلغتي في النهاية لم تتأثر بلغة المدونات.


وصفت شخصية علي بشكل تعميمي قليلا. هو عربي لذلك لم يستطع إقامة علاقة مع حنين فور معرفته بعلاقتها السابقة مع ديفيد اليهودي؟


في تقديري أننا لم نتجاوز هذه الازدواجية. الوعي الجمعي وكذلك المثقفون لديهم مشكلة في هذه النقطة، لا تصل بالطبع لدرجة الخلط بين اليهودي والصهيوني، ولكن أي مؤتمر يحضره أديب مصري وآخر يهودي يثير بلبلة. لم تكن هذه نظرة تعميمية بل بالعكس كانت واقعا. قد يتقبل علي كونها نامت مع أي شخص ولكن المشكلة تبدأ من كونه يهوديا، وكأن هذا اليهودي هو شيطان. إذن فعلي لم يكن يعبر عن نفسه. تعاملت معه بوصفه نموذجا وليس انسانا.أنت تقابل هذه الشخصية المزدوجة كثيرا جدا. والمشكلة هي مع الأشخاص الذين يدعون التحرر بينما هم غير قادرين علي التخلص من الازدواجية. علي كان نموذجا مثاليا لعرض هذا، وهو في نفس الوقت يكسر إكليشيها شائعا وهو أن أي شخص يمكنه النوم مع أي أجنبية. انا كنت أكتبه بحالة فرد. الآن وانا أرد عليك اقوم بالتنظير ولكن الحقيقة هي أن هذه الشخصية نمت بهذه الطريقة معي. رد فعله ظهر لي فجاة ولكن كان له علاقة باشياء رأيتها وأعرفها. من المؤكد ان هناك استثناءات، لكن اكيد أنه علي مستوي واسع هناك الكثيرون ممن يفكرون بهذه الطريقة. كنت احس ان الشخصية ستصبح صادقة فنيا لو قامت بهذا التصرف.


فصول كاملة كتبتها عن العالم الآخر الذي يتسم بعمارته الزجاجية. احسست ان الشبق وراء كتابة هذه الفصول هو شبق هندسي لخلق عالم بديل..


لدي طموح لخلق عالم مواز واعتقد ان هذا هو الفن. النص العربي الحديث يفتقر إلي الخيال. فكرة خلق العالم تجعلني اخلق طول الوقت خيالا لا يكون مستندا علي تراث الف ليلة ولكنه يدعي الحداثة قليلا. الجزء الخاص بالعالم الزجاجي لم يكن فكرتي. قرأت كتابا بعنوان -الاشياء الفريدة- لجان بودريار وجان نوفيل، تحدث أحدهما عن الحداثة وارتباطها بالعمارة الزجاجية. أعجبتني الفكرة وعملت عليها، باعتبار ان حنين مولعة أصلا بالعمارة. الزجاج بالفعل يعطي المعنيين المتناقضين للملتقي، ان يكون اباحيا او شفافا، هو يحوي تناقضا مثل كل تناقضات العالم العربي. وبالنسبة للنص، كانت هذه هي المرة الأولي التي أكتب فيها بطريقة غير مهندسة. دائما ما أبني الرواية وأنا أعرف إلي أين سوف أذهب. هذه هي المرة الأولي التي أترك فيها النص يأخذني. حتي بناء الرواية ظهر بالصدفة. كتبت اول سبعة فصول ثم أحسست أنني سأقسمها فصولا سبعة تتوالي وراء بعضها. هذا لم يكن مخططا له من البداية.


حنين تركت أمها التي ظلت تبحث عنها طول النص. ألم تر أن هذا التصرف كان مفاجئا بعض الشيء؟


هذا المشهد كتبته اكثر من مرة. حذفت الأم نهائيا ثم ارتحت لفكرة أن تراها حنين في الدير ثم تتركها. الكاتب يتقمص شخصياته ويحدد علي أساس هذا. خيار أن تكون الأم غائبة هو أجمل فنيا. أعني أن يظل سؤال أين هي ألام مطروحا، ولكن جزءا كبيرا من النص له علاقة بردود الفعل حول -ابتسامات القديسين-، هذا كان ردا علي ردود الفعل الطائفية بالتحديد. حنين تركت الأم التي تتحيز للطائفية علي حساب الأمومة. هذا هو ما جعلني أضع هذا المشهد برغم انني كنت اتمزق فنيا بسبب غياب السؤال، -يضحك- ولكنه أوحي لي بأنه قد يكون هناك جزء ثالث يوما ما.



هكذا كانت الكتابة هنا مجرد رد فعل؟


أكيد الكاتب يتأثر. عندما كتبت "ابتسمات القديسين- كنت أريد أن اكتب نصا كبيرا ومعقدا ومتعدد الأصوات، واكتشفت أن هناك الكثيرين ممن لم يقرأوا النص واعتبروه كتابة رديئة لأن هذه الأصوات شوشتهم. عمليا يجب الا أكترث. لكن في النهاية هذه الاسئلة تراودك. النتيجة هي أن هذا النص علي العكس من -ابتسامات القديسين-، متدفق بالادرينالين والحيوية وتسوده نبرة بنت متحمسة، بينما 'ابتسامات القديسين' كان ناعما وهادئا وتأمليا. لا أعتقد أنه من العيب أن يستجيب الكاتب لردود فعل يقتنع بها، بالطبع مع وجود ردود فعل ساذجة لا يكترث لها أصلا. هذه الاستجابة قد تكون علي حساب الفنية، لكن بما أن الكاتب قد اختار الفكرة الدعائية فهو يدفع ضريبتها


) من حوار نشر في اخبارالأدب أغسطس 2007

أرز باللبن لشخصين.." لرحاب بسام


كتابة إفتراضية حساسة تنتقل للورق!

قبل نحو ثلاثة أعوام تقريبا كتبت في هذه الصفحة (المقصود صفحة فكر وفن بصحيفة النهار اللبنانية)موضوعا موسعا عن ظاهرة المدونات
الأدبية على نحو خاص، وعن دورها في تغير مفاهيم الكتابة، أو المعايير الحداثية التي يمكن أن تتضمنها. وبعد قراءة موسعة في عدد من المدونات، ومقابلات مع كتاب من جيل التسعينات وعدد من المدونين، أجمع العديد ممن شملهم الموضوع على أن المدونات الأدبية لا تراوح موضع البوح الحميم والخاطرة الأدبية، وبدت كأنها وسائط افتراضية لتجريب الكتابة، وخوض التجربة الإبداعية، مع قراء حميمين، يمكنهم أن يوثقوا ردود أفعالهم، بالتعقيب المباشر فور نشر المدون لما يكتبه.
من بين من تضمنهم الموضوع، آنذاك، الكاتبة رحاب بسام التي أنشأت مدونة "حواديت" في عام 2004، ولاقت استحسانا ورواجا شديدين بفضل حساسية النصوص التي تكتبها. وبالرغم من أن بسام كانت، على مدى تلك الفترة، لا ترى فيما تكتبه نصوصا تستحق أن تنشر في كتاب، لكنها استجابت أخيرا لضغوط العديد من محبي كتابتها، وأصدرت كتابها الأول "أرز باللبن لشخصين" ضمن سلسلة جديدة أنشأتها "دار الشروق" المصرية لنشر الأعمال التي كتبت كمدونات، تشجيعا للكتابة الجديدة.
" أشق أطراف أصابعي شقوقا صغيرة، لعل الكلام ينسال منها ببساطة، لكن البوح يستعصي على التبسيط" . هكذا تقول رحاب بسام في واحدة من قصصها القصيرة التي تضمنها الكتاب. وهي جملة تكشف واحدة من أهم السمات التي تتميز بها كتابة بسام، وهي تلك البساطة الخادعة التي تبدو للوهلة الأولى مجرد وسيلة أدبية لكتابة اليوميات. لكن القاريء سرعان ما يكتشف أنه أمام كاتبة تعي جيدا ما تفعله، وتعرف الحد الفاصل بين الفن، وما سواه، كما تمتلك فلسفتها الخاصة عن الحياة، وعن الأدب. لكنها تجتهد أن تضع حكاياتها في عمق النسيج السردي، كأنها تدس قطعة الحلوى، وتغلفها في ورق سوليفان براق، مخفية معاناة صنع الحلوى، على يقين بأن معاناتها ومجاهدتها مع الكتابة شأن يخصها وحدها ولا يخص القاريء.
لأجل هذه الخصيصة تحشد بسام عددا من الأساليب الفنية، ومنها نبرة طفولية، تعبر بها عن حالة " البراءة" التي تميز شخصية بطلتها، التي تبدو للوهلة الأولى كأنها شخصية الكاتبة نفسها، لكنها سرعان ما تكشف عن كونها "الشخصية الفنية" للكاتبة، التي تتلون من نص لآخر حسب موضوع القصة.
كما أن "البراءة" المبثوثة في أرجاء النص، تكشف أيضا، كما هو شأن الطفولة- لمن يراقب الأطفال جيدا- إمكانات المراوغة، والتحايل، واللابراءة، والشغب، وبالأساس : اتساع الخيال والتفكير في الأمور بغير منطقها العقلاني، وهذا كله يتجلى سواء في تناول بسام لنصوص مستدعاة من جب الطفولة الممتليء بالذكريات والحواديت، والمشاعر، والاكتشافات الشعورية والوجدانية. أو في ألعاب الكتابة التي تمارسها الكاتبة، وتضع بها قارءها على أطراف المشاعر المتناقضة، من السعادة للحزن، أو من الكآبة للنشوة، أو من اليومي العادي اللامبالي إلى ذروة الخوف. وهي واحدة من سمات كتابة بسام التي تجيد نقل النص، والقاريء من حالة لأخرى، بجملة متقنة وشديدة الإحكام.
تتسم نصوص هذا الكتاب، أيضا، بالقدرة على السخرية العميقة، سواء على مستوى خلق حالة كوميديا سوداء، أو مجرد استعراض خفة ظل الراوية، التي يبدو ما تقوله عفويا بشكل يحقق حالة انفجار كوميدي في مواقف يفترض بها أن تكون درامية. ومنها مثلا حوار الراوية مع القط في قصة "مرسي اتهزم يا رجالة"، أو الحوار بين الراوية وصديقتيها بينما يؤدين واجب العزاء في قصة "طق حنك"، وفي غيرها.
صحيح أن نبرة الكتاب إجمالا تبدو أقرب لصوت يميل للهمس أكثر من الصراخ، والاهتمام بالتفاصيل اليومية الصغيرة جدا أكثر بكثير من القضايا الكبرى، لكن بسام تنجح باستخدام نفس هذه النبرة في صياغة نقد سياسي لاذع، وكأنها تلقي مزحة، بينما هي في الحقيقة، تقدم سخرية من الوضع السياسي، ومن الصحافة الرسمية، وتكشف المساحة الشاسعة التي تفصل بين هذه المنابر وبين المواطن العادي في قصة "عناوين الصحف"، أو الإشارة لشيوع الانتهازية في "كيف يبايعون الرئيس في شارعي".
سوى أن قصص هذا الكتاب في مجملها تعبر، بما لا يدع مجالا للشك، عن شريحة من مجتمع الطبقة الوسطى؛ تعيش بين ثقافتين، وتنشأ في بيت يتحيز للثقافة والفنون، وتكون ثقافتها من مناهل الثقافة الأجنبية منذ الطفولة ووصولا للحظة الراهنة. كما تعبرعن حياة هذه الشريحة في إيقاع العصر السريع، اللاهث، وامتهانها لمهن عصرية ، تكشف معاناتها التي تتخذ شكلا سيكلوجيا تتجلى في أعراض الاكتئاب والشعور بالعزلة أوالوحدة، وهي ربما نتائج صراع الأفراد الذين يمثلون هذه الطبقة الاجتماعية مع أنفسهم لاكتشاف هويتهم في عصر يمور بالتناقضات.
كما تعبر عن جيل جديد يتحدث لغة خاصة، ويرى الأشياء بشكل مختلف. ويتأمل كل ما حوله من أشياء وألوان وأحلام ويتفاعل معها بطريقته الخاصة جدا، وإن كانت تختلف كثيرا عن مجايلين للكاتبة لهم طرقهم الخاصة في التعبير أيضا، لكن ليس بالطريقة الرومانسية التي تميل إليها رحاب بسام . فأولئك هم أكثر استخداما لكلمات جريئة، ومبتذلة أحيانا، وتنتمي لرجل الشارع أكثر مما تنتمي للغة المثقفين، أو تحمل دلالات تمرد كامنة. لكنهم ، بشكل أو بآخر، يعبرون عن شريحة من المثقفين الشباب الذين يحاولون التخلص من ازدواجية الطبقى الوسطى البورجوازية على نحو ما.
وبالتالي فالنصوص التي تنتجها بسام تختلف، بطبيعة الحال، عن كتابات أولئك المدونين والكتاب؛ إذ تبدو كتابتها بالنسبة إليهم حالمة ورومانسية . نصوص تصل للبيوت بلا حاجة لرقابة من أي نوع! لكنها، أيضا كتابة، مشغولة بأسئلة عن فعل الكتابة ذاته. عن مخاوف الكاتب، بل ورعبه أحيانا من اللون الأبيض؛ لون الأوراق الشاغرة، وعن علاقة الفصحى بالعامية، وعن شكل الكلمات وعلاقتها بمعناها، وبالأساس، عن مجاهدة الكاتب مع نصه، ومحاولة خلق علاقة جديدة بين الكلمات.
أعتقد أن خروج الكتاب للنور كان ضروريا على أكثر من مستوى، وأولها انتقال النص من مكانه الافتراضي الحميم بين قراء مشجعين متحمسين، لديهم ذوقهم الخاص، إلى قراء مختلفين من المهتمين بقراءة الأدب، ومن أنصار الكتاب الورقي، ومتعة قراءته، وإلى نقاد الأدب، بما يمكن الكاتبة من مواجهة أسئلة مختلفة على مستوى مضمون النص وعالمه، وعلى مستوى الطروحات الجمالية التي يمكن أن يتضمنها، وإيجاد علاقة بين هذه النصوص وتيار الأدب المعاصر.
ولا جدال أن كتابة بسام تمثل امتدادا للنصوص المعاصرة، من حيث أنها نصوص، في أغلبها، ذاتية، مغلقة على الشخصي، وعلى التفاصيل، نافرة من الإيديولوجي، الخطابي، باحثة عن شخصيتها الفردية، وأسئلتها الجمالية.
كما أنها تنتمي لنفس النصوص المعاصرة من حيث الافتقار للخيال اللازم لخلق عوالم كبيرة- الخيال المتضمن في السرد لدى بسام أقرب لمحاكاة الخيال الطفولي- بحكم التصاقها بالذات، كما تفتقر للمغامرة الإبداعية التي عادة ما تبحث عن العميق البعيد عن المتناول، والمختلف وغير المطروق أو المسكوت عنه، كما شأن الأدب الكبير كله على مدى تاريخه.
أخيرا فإن الكتاب سيضع ظاهرة المدونات في بؤرة الضوء، وسيكشف عن إمكانية المدونات في تخليق الدعاية والتسويق من خلال جمهور المدونات الذي يتحول ليصبح جمهورا للكتاب، وهوما حدث بالفعل، إذ أن كتاب بسام مع مدونتين أخريين هما غادة عبد العال وغادة محمد قد نفذت طبعة كتبهم الأولى في غضون شهرين ، بفضل الدعاية المسبقة التي صنعتها كل منهن في مدونتها، بالشكل الذي يحقق حالة شبيهة باستراتيجية ترويج الكتاب في الغرب حيث يسوق له ناشره قبل نشره، أي أنه يبيعه قبل أن يخرج من المطبعة، وهي ظاهرة إيجابية من جهة إنعاش سوق الكتاب العربي، لكنها قد تكرس أيضا حالة سلبية يتبناها الكثير من الناشرين الآن وهي الحكم على القيمة بمنطق "الأكثر مبيعا"، ما قد يضع أسئلة الكتابة الجادة والتجريبية كلها في مأزق إشكالي، في ظل غياب النقد المفزع الذي أخلى الساحة لكل من شاء.
كتاب رحاب بسام يكشف عن ولادة كاتبة لافتة، موهوبة، قادرة على التأثير على مشاعر قراءها، كما يكشف عن ذكائها في طرح أسئلتها حول كيفية الانتقال بنصوصها إلى آفاق إبداعية أكثر رحابة، وأظنها قادرة على ذلك وزيادة.
نشرت في صحيفة النهار في مارس2008