Saturday, December 29, 2007

الازدواجية والجنس والنقد ..ثلاثية ملتبسة





أعتبر نفسي شخصا مهملا بامتياز في الاحتفاظ بالموضوعات الصحافية التي أكتبها. كأنني انساها تماما بمجرد نشرها. لذلك يسعدني، بين آن وآخر أن أجد شيئا مما كتبته ونشر قبل سنوات، لأنه يمثل الوثيقة الوحيدة لما كتبته، من جهة، ولأنه أحيانا ما يبدو لي مدهشا، إذ أكون نسيته تماما، بينما تعجبني الفكرة، وكأنني لست صاحبها!! . وهذا الموضوع الذي سأنشره في هذه المساحة(ونشر في عام 2000 في مجلة الأهرام العربي) تنطبق عليه هذه السمة بامتياز. تبدو لي فكرته جيدة، لكنه نشر قبل أكثر من سبع سنوات. أظن أن الموضوع ما زال صالحا للمعالجة الآن وهنا، فما زلت أعتقد أن الكتابة عن الجنس في الدب العربي تعاني من اختلال ظاهر، بالندرة أو سوء المعالجة، وفي غياب النقد العربي(المأزوم من الأساس) تصبح الظاهرة كارثية، خاصة وأن الفوضى الإعلامية والمناخ المتحفظ السائدين في المجتمع العربي يزيدان من أزمة التناول للجنس في عالم لم يعد مناسبا له أي أطر متشددة، أو متزيدة في تحفظها.
لكني أظن أنني لو كتبت نفس الموضوع الآن لتضمن تفاصيل أخرى، وأظنه يحتاج للتجويد في أسلوبه أيضا.. ومن يدري فربما أعود لكتابته مرة أخرى، خاصة وأنه يعبر عن أحد هموم الكتابة عندي


الازدواجية والكبت وراء الظاهرةأزمة النقد الأدبي العربي

كشفت قضية كتاب الدكتور محمد غنيم الجريمة وانحراف الأحداث والذي كان مقررا علي طلبة اجتماع المنصورة هذا العام عن أزمة البحث الاجتماعي في مصر بشكل عام وأزمة ودراسة السلوك الجنسي للأفراد بشكل خاص علي الرغم من الأهمية الكبيرة لهذا الموضوع الذي أصبح علما مستقلا في جامعات أوروبا وله معاهد متخصصة في دراسة علم الجنس أو الجنوسة‏
في مناخ كهذا يدعم الازدواجية والكبت والممارسات السرية والعلاقات غير المشروعة مادامت تتم في الخفاء‏,‏ يصبح للأدب أهمية كبيرة كأحد الروافد الأساسية لاستعراض وكشف السلوك الجنسي لأفراد المجتمع ثم يأتي دور النقد الأدبي لتحليل النص واستخراج دلالاته‏..‏ ولكن مع الأسف ليس لدينا متخصصون والتحقيق التالي يرصد ظاهرة أزمة الجنس في النقد العربي المعاصر‏



إذا دخلت أي مكتبة للسؤال عن كتب نقد تبحث الظاهرة الجنسية في الأدب ستفاجأ بأن المتاح من هذا الإنتاج لنقاد عرب نادر‏..‏ إن لم يكن معدوما‏..‏ فهناك كتاب د‏.‏ غالي شكري أزمة الجنس في القصة العربية الصادر عن دار الشروق وهو كتاب قديم يتناول نصوصا لنجيب محفوظ،،‏ ومحمود البدوي‏، ويحيي حقي‏، وسهيل إدريس‏، وكوليت خوري‏، يوسف إدريس‏، عبدالحميد جودة السحار‏. كما نشرت سلسلة دراسات للكاتب اللبناني جورج طرابيشي منها أنوثة ورجولة" ‘ شرق وغرب، وإيديولوجيا الذكورة في الرواية العربية ، وأنثي ضد الأنوثة‏..‏ وهي دراسات تستخدم منهجا فرويديا في التحليل‏.‏ بالإضافة إلي بعض كتابات د‏.‏ نوال السعداوي‏.
لكن هذه الندرة في هذا الحقل النقدي لا تبدو مزعجة إطلاقا لبعض النقاد وبينهم فاروق عبد القادر!‏
فهو لا يري أن هناك ضرورة، من الأساس، لتخصيص نقد أدبي عن الجنس ؛ على اعتبار أن تناوله يأتي في ثنايا نقد أي عمل يتعرض للسلوك الجنسي بشكل عام‏، ويعطي مثالا بكتاب الناقد الراحل د‏.‏ علي الراعي الرواية في الوطن العربي موضحا أنه رغم التلخيص الذي يقوم عليه الكتاب لكنه مهتم بالجنس ويضيف كتبت أخيرا دراسة عن الروائي الجزائري الطاهر وطار لروايته عروس بغل والتي تدور أحداثها داخل ماخور‏..‏ أي أنها تتضمن الكثير من العاهرات والقوادين‏..‏ وبالتالي فلابد أن أتعرض فيها للجنس‏.‏ ويوضح عبدالقادر أن المجتمع له محاذيره خاصة فيما يتعلق بالجنس‏، والكتاب يستجيبون لها بدرجات متفاوتة‏..‏ ومادام الجنس يتم تناوله في إطار العمل ككل فما الداعي لإبرازه وحده؟
وأظن أن وجهة نظر عبد القادر تعكس اختلالا واضحا في المشهد النقدي المعاصر الذي يعاني من علل عديدة تبدأ بالندرة وتمر على غياب التخصص في الأنواع النقدية، فالمناهج واحدة، وأغلبها انطباعية، بالإضافة إلى غياب أشكال نقدية حديثة تتلاءم مع حداثة النصوص الأدبية الجديدة.
على نقيض وجهة نظر فاروق عبد القادر التي ترى الجنس جزئية بين أجزاء أخرى هناك آراء أخرى منها ما تراه

الدكتورة سامية محرز من أن هناك الكثير من الكتابات النقدية الغربية عن الجنساوية في الأدب العربي القديم والمعاصر ـ الجنساوية تعني ربط الجنس بالسياق الاجتماعي ـ بل إن هناك مؤتمرا كاملا أقيم لمناقشة الحب والجنس في الأدب العربي، وهو ما يعني أن الاهتمام موجود على مستوى الهم النقدي وربما تقف بين انتشاره- على المستوى العربي- معوقات أخرى.

الدكتورة سامية محرز لا تناقش أهمية المسألة من عدمها، فهي بالنسبة لها تبدو بديهية:‏
.تضرب مثلا علي أهمية التناول النقدي للجنساوية بكتابات يوسف إدريس تضمن الكثير من أعماله موقف اعتداء جنسي علي المرأة‏..‏ كما في الحرام أو النداهة موضحة أننا سنكتشف أن رؤيته لهذا الاعتداء واحدة رغم اختلاف الأعمال‏‏ وأننا من خلال قرائتنا لهذا الموقف من الممكن أن نستقريء موقف المجتمع ككل من اعتداء هذا الرجل علي جسد المرأة‏ ، والموقف السلبي الذي تنتهجه المرأة تحت ضغط أن المجتمع يطالبها بذلك‏..‏ ثم نصل إلي الكاتب نفسه ككائن اجتماعي كتابته مصبوغة بتجربته سواء أكان رجلا أم امرأة‏. ولو أن مشهد الاعتداء الجنسي مكتوب من قبل امرأة وأجرينا مقارنة في النصين سنجد اختلافا كبيرا في تصوير المشاعر الإنسانية في الحالتين‏..‏ هنا الدراسة لا تقوم علي الجنس كعملية مباشرة وإنما عن السياق الاجتماعي الذي تتم فيه ممارسته‏.‏

هذا يشير إلي أن هناك قصورا ما في وجود دراسات متخصصة‏..‏ فما هي الأسباب؟
لابد أن يكون هناك نقاد لهم رؤية في التعامل مع الجنس في الأدب -تقول محرز-‏‏ وهذا يحتاج إلي مراكز متخصصة تحقق مثل هذا التكوين‏..‏ وهذا ليس متوفرا لدينا‏.‏ هناك أقسام كاملة لدراسة الجنس‏..‏ وهو ما يخلق الوعي لدي جيل كامل في كيفية التعامل مع الجنس في عمل أدبي لكن هذا ليس متاحا‏.‏والحقيقة أن الضجة التي تثار حول أي عمل أدبي يتضمن جنسا مكشوفا ـ بقيم الأخلاق البورجوازية للمجتمع ـ تكشف عن أن مساحة الجنس الموجودة في النصوص الأدبية قليلة.
بل تصل غلى حد الندرة ،في الواقع، لدرجة استنكار صنع الله ابراهيم للسؤال بسبب هذه المحدودية اللافتة في معالجة النص العربي للجنس بشكل عام‏.


‏يقول صنع الله إبراهيم‏:‏ ما الذي يقوم الناقد بنقده؟ الأدب في الأساس محروم من تناول السلوك الجنسي لأنه خاضع للظروف العامة للمجتمع‏..‏ ومن الممكن أن تقرأ في رواية أجنبية تحليلا دقيقا لأشكال من السلوك الجنسي‏،‏ مثلا هناك رواية لارفنج ستون اسمها " ‏7‏ دقائق"؛ وهو تقديره لفترة العلاقة الجنسية‏..‏ يناقش فيها قضية بلوغ الذروة‏.(الأورجازم).‏ هذا ليس موجودا لدينا‏..‏ وحتي في كتابات إحسان عبدالقدوس التي يصفها البعض بأنها إباحية ستجده فور أن يقترب من غرفة النوم يضع نقاطا متواصلة‏..‏ رغم أن السلوك الجنسي يكشف أعماق الشخصية الإنسانية كلها‏..‏ فأي شخص يظهر في الحياة بسلوك معين ، معين ، لكن ليس شرطا أن بكون حقيقيا ،ولكن في غرفة النوم تخلع كل الأقنعة ، ويظهر الإنسان في عمق حقيقته‏.‏


ما يقوله صنع الله عن أهمية السلوك الجنسي توضحه ببراعة - وهذا مثالا لا حصرا- أعمال مثل "خفة الكائن التي لا تحتمل" لميلان كونديرا التي تقوم علي تحليل وعي الأشخاص من خلال سلوكهم الجنسي‏..‏

كتاب غالي شكري الذي يري في تجنب السلوك الجنسي عملا إيجابيا، بالرغم من أهميته، لكنه ليس متخصصا بالقدر المطلوب ويؤكد مرة أخري علي ما نطرحه هنا من عدم وجود نقاد متخصصين في استخلاص الدلالات الجنسية في الأعمال الأدبية‏.

‏يري صنع الله إبراهيم أن الكلمات التي يتم تبادلها أثناء اللقاء الجنسي، وفي العلاقة الحميمة بشكل عام، والأصوات التي تصدر من طرفي العملية‏..‏ في غاية الأهمية لأنها تعكس نوع العلاقة والشخصية وظروفها النفسية والمرجعية
الاجتماعية‏..‏ أما ما تقدمه النصوص العربية في أغلبها فلا تقدم سوي كائنات هلامية وخرافية، لا علاقة لها بالواقع ‏.‏

ما يشير إليه صنع الله إبراهيم يتضمن مفارقة لافتة‏:‏ ففي الوقت الذي تتهم فيه بعض الكتابات الجديدة بأنها تتضمن
جنسا مكشوفا أو أنها إباحية‏..‏ فإن أحدا لم يتعرض لمدلول هذه العلاقات التي يتم فيها تضخيم الجنس علي حد وصف الناقد إبراهيم فتحي الذي يضيف‏:‏ الجنس ليس دائرة مغلقة علي نفسها وإنما جزء مهم جدا من العلاقات الإنسانية‏..‏ سواء بين الرجل والمرأة أم الإنسان ونفسه أم الإنسان وجسده‏، والجنس دائما هو جنس اجتماعي‏..‏ بمعني أنه يخضع لظروف اجتماعية‏..‏ فشكل المرأة الجميلة يتغير حسب المجتمع والتاريخ فهي ليست مقاييس مطلقة‏.‏

والجنس ليس تجريدا وليس شيئا بنفسه إلا لدي الحيوانات‏، أي أنه ليس الممارسة الجسدية النوعية المعروفة وإن كانت كتابات من الأجيال الجديدة تفعل ذلك بدعاوي اليقين بالجسد بعد خيانة الأيديولوجيا‏..‏ إلى آخر هذه الدعاوي‏.


‏بعض الكتابات تأثرت بمدارس مثل المدرسة الفرويدية في التحليل النفسي - يضيف إبراهيم فتحي-وهو المنهج الذي استخدمه جورج طرابيشي في أعماله وهو اهتمام يأتي من خارج الأدب وإقحام علم النفس علي الأدب‏.‏


أما غالي شكري عند مناقشته للموضوع فقد رفض مناقشة الجانب الحسي أو اللحظة الميكانيكية ونقد بعض كتابات إحسان من هذه الزاوية،‏ ووضع الجنس في الرابطة الحميمة التي تربطه بالجانب الاجتماعي‏. ‏ويخلص إبراهيم فتحي إلي أنه لا يوجد تقصير من النقد في تناول الجنس في الأعمال الأدبية، ويضيف أن هناك كتابات كثيرة جدا ناقشت النظر للجسد في الحضارات المختلفة ولا أعتقد أن هناك تقصيرا بل إن الموضوع أخذ أكثر من حقه‏.


إلا أن ما يراه فتحي قد يراه غيره بشكل مختلف، بمعنى أن التناول السطحي للجنس في الأعمال الأدبية، أو الهروب من الكتابة عنه هي المبرر الطبيعي لغياب الدراسات النقدية عن الموضوع ، لذلك ترى الدكتورة منى أبو سنة مثلا أن
الظاهرة مرتبطة بثوابت المجتمع المعادي للتغيير والميال إلي تجميل الظاهر وبقاء الأشياء علي ما هي عليه‏..‏ وتري أن أغلب ما كتب عن الجنس لا يتجاوز التحايل السردي‏..‏ أي سرد خارجي بدون أي رؤي تحليلية عميقة‏..‏ ولا يمكن الكتابة عن الجنس وفروع الحياة المختلفة بدون وجود رؤية لها أساس فلسفي وهو ليس متوافرا لدينا‏..‏ فكل ما كتب عن الجنس في الأدب العربي تم كحكايات وسرد‏..‏ ولم يقدم أي ناقد عربي مشروعا جادا لتحليل هذه النصوص‏.‏


أما الدكتور شريف حتاتة فيرد الظاهرة إلي أن المجتمع الذكوري الحالي لا يرغب في تغيير الأوضاع لأنها ستؤدي إلي تغيير وضعه‏..‏ وهذا ما يزعج المجتمع- وربما المجتمع التقليدي المحافظ- عند تناول الجنس‏..‏ ولذلك فلابد أن يبدأ جيل من السيدات في الكتابة النقدية وهو ما سيفتح الطريق أمام التخصص النقدي في الجنساوية.


بشكل شخصي أعتقد أن الكاتبة العربية ما زالت بعيدة عن ذلك، وبما أن الموضوع كتب في 2000 فمن الممكن إعادة رؤيته في ضوء التجارب المحدودة التي كتبت مؤخرا وتناولت الجنس، خاصة في ضوء ظاهرة الرواية السعودية الجديدة، من جهة، أو في ضوء بعض التجارب الجديدة مثل رواية سلوى النعيمي الأخيرة "برهان العسل". لعلني أعود للكتابة عن ذلك قريبا.‏.

( (الصورة المنشورة ليست متضمنة في الموضوع المنشور في "الأهرام العربي"، وهي لوحة من العصر الروماني
الأهرام العربي – 5 أغسطس 2000